بين الضفة والساحل الفصل الخامس – الشمس تهمس بالشعاع- بقلم: بقادى الحاج أحمد
ملخص لما نشر:
الفصل الأول: بالروح بالدم نفديك يا سودانا
قدم الراوي مشهد من موكب انتفاضة ابريل1985م،صمود المنتفضون أمام فوهات البنادق:
" لماذا اعتقل يا ترى؟
سأل الناس لا سبب
حان الوقت ليعرف الناس يعتقلون
من دون سبب"
ثم ما تبع ذلك من تغيير في الحياة ، لم يستغل في تنمية حقيقية، بل خفت صوت الانتفاضة سريعا وتلاشى، وكأن شيئا لم يحدث.
الفصل الثاني: الله يسلمك..
نزل الراوي من قمة جبل الانتفاضة، يبحث عن آثارها.. واسباب لقمة العيش. ظل نشاطه موزع بين العمل والدارسة الجامعية، تراوده أشواق العثور علي شريكة الحياة، في طيف ندى .. أميرة وسمرة.
الفصل الثالث
الضفة الخضراء
وجد الراوي في تتطبيق أحد توصيات المؤتمر الاقتصاد الذي تلي الانتفاضة- اخذ إجازة بدون مرتب لمدة عامين قابلة لتجديد، وجد فيها ضالة المنشودة، أزمع علي الرحيل للعمل مؤقتا في الخليج،وجد فرصة عمل في شركة خليجية، اخذ إجازة بدون مرتب، حمل حقيبة صغير، بعد أن ودع الأهل والأحباب والبلد ورحل رغم اغراءات الابنوسية المكتنزة في الطائرة، ألا انه صمم علي ما هو مقدم علية .
الفصل الرابع
الحرمين..والهجرة
وصل الراوي ومن معه إلى جدة، فالرياض مقر إدارة الشركة، كان نصيبه أن يعمل في فرع في منطقة المدينة المنورة، التي تشرفت بالمصطفي صلي الله عليه وسلم. واصل طريقه إلى مكان عمله الجديد ، تراوده أشواق الذهاب إلى البيت العتيق والتعلق بأستار الكعبة.
الفصل الخامس
الشمس تهمس بالشعاع
يا وطن، مثل عسل النحل، ريحك طيب،وطعمك عذب،وحلاوتك صادقة،بين الأوطان؛اخضر طويل وقيافة.
الحارة التي كانت بيننا، أنا و"علي"، كنت اقطعها عليه في الأمسيات متمشيا، ولا يهم أن وجدت وسيلة مواصلات أو لم توجد، فالتواصل بيننا قائما بها وبدونها، عندما نبحث عن الاستثنائي، وغير العادى المكرر؛ العمل، البـيت او الجامعة.
كنا نقضى أمسيات نهاية الأسبوع في جلسات علي الكراسي أمام داره أو دارنا، نناقش ما قرأنا..أقرا عليه آخر ما كتبت.. يسمعني أخر قصيده كتبها.. نمارس حقنا الطبيعي في التحديق في سماء بلادنا الجميلة.
اليوم الحارة التي كانت بيننا، اصبح بحر وآلاف الكيلومترات تفصل بينا، لم يعد التواصل ممكنا كما كان في السابق.
رغم أنى احتاج " علي " واحتاج تلك الرفقة الحسنة اكثر مما مضى، إلا أنها لم تعد ممكنة، وتحولت هي وأخريات إلى ذكرى... ذكرى أسامرها في ليالي الطوال..
*
كنت ذات مرة عازم علي قضاء إجازة خارج السودان – في أحد العواصم المجاورة. وقتها كان كبار الموظفين يقضون إجازاتهم في مدن أخرى : يكسوها الضباب و تشع منها الثقافة كالنور..
عندما أقترب موعد الأجازه، انضم إلى الزميل " محمود " في فكرة الذهاب إلى الخارج. كانت دوافع " محمود " تختلف من دوافعي. كان يعاني من فقد خطيبته التي فضلت عليه المغترب الجاهز . لم اكن أنا الآخر – مشوكش- والحمد لله. بل كنت كثيار ما أرد اعتبار اصحابي أمثال " محمود " أمامهن.
ليس المجال هنا للحديث عن "اللدر العلي ضهرو الخبوب والطين" ذلك له مجال آخر.
كان دافعي للسفر اكتشاف المدينة ذاتها؛ انسانها وأسواقها وشوارعها وعماراتها وشققها التي سمعت عنها الكثير..
سافر –"محمود" لوحده، وتقطعت بي الأسباب. وصيت المسافر قبل السفر كثيرا عن مخاطر الضياع في تلك المدينة الكبيرة.
قررت أن اقضي الإجازة في السفر والسياحة الداخلية. كنت أنادي دوما بمميزاتها، متعتها وقلة تكلفتها وقلة مخاطرها .. هناك:
علي جبل مرة.
داخل الحظائر الممحمية في جميزة والدندر.
فوق اركويت والبحر الأحمر.
لم لا أفعل هذه المرة؟
بدأت الإجازة بزيارات الأهل والأصدقاء والأمسيات موزعة علي المسرح- نبته حبيبتي- وأسبوع الفلم الفرنسي، وعبور الجسر - الكسندرا كروسنق- لصوفيا لورين في" البي أن"، عند المركز الألماني- جوته، دراي فيقه ثم زيه– ثلاثة ممرات إلى البحيرة. تخللها مباريات الدوري و الدار- ذات النكهة الخاصة. هناك عند شلال السبلوقة وخزان الجبل يطيب التلاقي مع النيل؛ وشواطئه الرملية ونسائمه التي ترد الروح.
مدينتي كانت تشع منها الثقافة وتتأنق في ثوب بهيج وكنت انظر إلى المدن الأخرى...
الإجازة أيامها تتسرب وتمر يوم بعد الأخر.. وأنا آخر من يعلم.
*
اقترح "علي " أن أرافقه في رحلة بالعربة إلى مدينته - سنجة،قد اشترى "علي" تلك العربة مستعملة مؤخرا، لاقت الفكرة في نفسي هوى،" لأن الأجازة بلا سفر كماء النيل المعكر.." حلو لكن ينقصه شيء ليصفو ويحلو أكثر.
انطلقنا بالعربة صوب الجنوب الداني . العربة في يسر وسلاسة تطوى طريق الإسفلت العتيق طيا مودعة المدن والقرى الواحدة تلو الأخرى كما يفعل القطار بأعمدة التلفون.
قبل إن تتوسط سرة السماء، وينتصف النهار- كانت الشمس تهمس بالشعاع همسا في ذلك اليوم من ديسمبر، استقبلتـنا المدينة بأشجارها الباسقات وأهلها استقبال العائدين من مدن بعيده ..
قضينا ثلاثة أيام في رحاب المدينة وأهلها، وكنا قد عزمنا علي يوم واحد، ولكن اليوم صار يومين، والاثنين صارا ثلاثة، حتى انتزعنا أنفسنا منها انتزاعا..
رحلة الاياب استغرقت ثلاثة أيام بلياليها بدلا من رحلة الذهاب التي استرقت نصف نهار..
اليوم الأول:
عند الغروب والشمس تلملم بقايا شعاعها، تعطلت العربة علي مشارف أحدى القرى. نزلنا لنتفقد الماكينة . تمر بالقرب منا مجموعة من الأغنام يتبعها - شيخ- علي ظهر حمار يحمل كمية من القصب الأخضر تفوح منه رائحة – الخضرة- التي طغت علي رائحة البهائم.. فاحت الرائحة الخضراء في المكان وداعبت أنوفنا.. لعل هذا القصب ذا الرائحة الطاغية الملحاحه هو قصب
الجروف :
- آمنة السمحة ذي قصب الجروف الدابو لبن
- آمنة السمحة ذي موية متر جداولوا كبن
يقف الشيخ ويحيينا بصوته الجهور:
- السلام عليكم .
- لقد سبقه القصب بالتحية؛ تحية ليست بأحسن منها ولكنها خاصة .
- نترك ما نحن فيه لنرد عليه التحية باحسن منها:
- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
- ما لكم يا جماعة إنشاء الله خير.
- لا نعرف إذا كان ذلك الذي حدث للعربة خير ام لا.
- لكننا نرد بتلعثم:
- خير – بس.. بس العربة اتعطلت. وبنحاول تصليحها.
- ربنا يساعد. ويذهب مواصلا طريقه نحو القرية، تسبقه الغنم ورائحة القصب الأخضر.
نعود إلى معاينة الماكينة، والشمس تسحب بقايا الضوء من بين أيدينا. تركبنا كل عفاريت الاستعجال عند المغارب. نستعين بالبطارية والمحاولات متتابعة لتدور هذه الماكينة اللعينة!
لكنها لا تفعل.
يعود الشيخ من جديد وينتزعنا مما نحن فيه.. سائلا
ما اتصلحت؟ ونرد عليه:
- لا لسع ماتصلحت.
- يواصل حديثه: يا أولادي الدنيا بقت ضلام،العربية دى مابتصلح في الليل دا. دحين اتفضلوا اتعشوا وبيتوا معانا.
- وصباحة الله بخيره.
- رددنا علي الدعوة الكريمة بالشكر الكثير، وتعللنا بأننا مستعجلين. لكنه كرر الدعوة وأصر عليها ، و لم يتركنا ألا عندما ذهب ليحضر العشاء، بعد أن دفعنا العربة أمامنا داخل حوش البيت، وجلسنا في الصالون.
في المدينة نرحب بالضيف، لا نجر به الشوك كما تقول الطرفة الريفية، ألا أن الغريب يظل قريب من الريبة والتوجس، هل هو عدو أم صديق؟
كنا اثنين ، شابين مفتلي العضلات، استقبلنا شيخ طاعن في السن والكرم، في داره والليل أرخى ستره علي الكون، ورياح ديسمبر بدأت تهب علي تلك القرية التي ترقد بجوار الطريق السريع.
مد إلينا الشيخ مائدة عشاء طيب تسبقه مباشرته وأبويته. هنا للضيف شوق بلا شوك ولاريبه ولاتوجس، شوق وألفه كان الضيف حبيب عاد من السفر بعد غيبة طويلة.
كان الصباح شتوى دفيء وندى كالقرية وأهلها، كأن الجو مبلل بمطر لا نراه.. مطر القلوب العامرة بالحب.. بالخير.. بالطيبة، برائحة البهائم والقصب الرطب.
اليوم الثاني:
هذه المرة تعطلت العربة ونحن داخل سوق مدينة صغيرة، لكنها تعطلت في الليل أيضا. سألنا عن ميكانيكي دلنا أول شخص سألناه علي "ود الحاجة" ثم استدرك لعله مريض ما دام غير موجود في السوق.
رحنا نسأل عن" ود الحاجة" علمنا انه فعلا مريض، طريح الفراش في بيته، ولكن كشأن صاحب الحاجة واصلنا البحث حتى بيته عساه يكون تماثل للشفاء؛ خاصة أن هذه العربه في هذه البقعة لا يصلحها ألا "ود الحاجة" لعدم وجود ميكانيكي غيره.عرفنا وصف الطريق إلى بيت" ود الحاجة":
الشارع الثالث ثاني لفه علي اليمين يوجد بيت ناصية إمامه – ازيار- كبار معلقة.. معلقة علي الحائط بعيدا من البهائم..
علمنا بان "ود الحاجة" محموم بالملاريا ولا يستطيع أن يفعل لنا شيئا. وحتى لوحاول لمنعناه لأننا علي معرفة وثيقة بالملاريا ولؤم حمتها.
سألنا الترزي القريب عن ميكانيكي بديل "لود الحاجة". أجاب بأنه لا يوجد ميكانيكي في هذه المنطقة غير" ود الحاجة" لكنه اقترح أن نذهب إلى" إبراهيم" وهو سائق قديم وله دراية بالمكانيكا.
خوفا أن نتوه في حلكة ظلام الليل، أرسل معنا صبيه ليدلنا،أخذ الصبي الدراجة معه. ظل يسحبها وهو راجل ويقودنا علي الطريق، وفي الونسه. كان الطريق إلى بيت" ابرأهيم" بعيد كبعد النجوم المتـناثرة من حولنا، ظل الصبي يصبرنا بين الحين والأخر بأننا قربنا نصل،ونواصل السير.نستمر علي هذا الحال و كأنه هو وليس نحن"أسياد الجلد والرأس ."
وصلنا بيت "إبراهيم " والليل كاد أن ينقسم والهدوء يلف المكان ولا يعكر صفوه إلا نباح الكلاب المتقطع.
اخرج" إبراهيم" عربة- البوكس علي الفور وذهب معنا إلى حيث تركنا عربتـنا. بعد عمل توصيلات خارجيه اصلح العطل ودارت العربة. كانت مشكلة العربة اذا لم تتوقف تماما عن السير لاتقبل السرعة العزم عندها ضعيف جدا.
اليوم الثالث:
تعطلت العربة مره أخرى في الخلاء. لا يوجد أمامنا ألا خط الأسفلت الممتد في جوف الليل، وشجيرات العشر تحف بنا من كل مكان. نزلنا لفحص العربة وكان التعب والضجر قد اخذ منا ما أخذ.
انفجر في الغضب أو لعله الخوف :
يعنى العربة الزفت دى ما تتعطل ألا في محل البعاعيت دا.
أخذ"علي" يضحك من تذمري ويردد".. أحضرت العشاء.. أحضرت العشاء"
وهي عبارة فيها كثير من السخرية يرددها ببغاء في مشهد أحد الأفلام السنمائيه التي شاهدناها معا. وكنا نرددها فيما بيننا اختزال للمواقف المشابهة.
ظل "علي" يعبث بمحتويات ماكينة العربة - أساعده أنا بضوء البطارية. أراقب العشر بين حين آخر: هل فعلا يتحرك مع حركة الشخص المتحرك ، كما تزعم الحكاية الشعبية؟
" صبي- بدأ يشب عن الطوق ويتعدى مرحلة الصبا إلى الشباب والرجولة في القرية. كان يحاول أن يثبت ذلك بان يستطيع أن يتجول ليلا خارج القرية لوحده كما يفعل الكبار.
كان الكبار يحذرونه بأنه سوف يطلق ساقيه للريح عند أول شجرة عشر تقابله. يعنى شجرة العشر سوف تطرده.
وكان يكابر بأنه لن يفعل0 أولن تفعل به شجرة العشر ذلك. ذهب صاحبنا ليلا خارج القرية. عاد ليروى إنه قابل حيوان مفترس وقضى عليه. سوف يجدونه مجندلا علي مشارف الغابة.
عندما ذهبوا ليستبينوا الأمر لم يجدوا إلا شجرة العشر يسيل منها اللبن من جراء الطعنات التي تلقتها المسكينة.
ماحدث يرويه ذو التجارب أن الشجرة عندما بدت لصاحبنا في الظلام وكأنها تتحرك؛ مال يمين مالت معه، مال شمالا مالت معه، قعد قعدت معه وحين قام قامت معه..او كانها فعلت ذلك.
تأكد انها حيوان مفترس ، فأودعها حرابه وتوكل علي الحي الدائم.
لعل الحيوان الكاسر في خياله هو كما أن الحكاية الشعبية تعشش في مخيلتـنا."
دارت العربة هذه المرة سريعا وبدون معاونه خارجيه. لعلها خافت هي الأخرى..
*
عاد " محمود " في اليوم الثالث لسفره ليروى ما حدث:
ذهب من المطار ألي الفندق. قضى ليله هناك. في الصباح عرف في الفندق بأنه يمكنه تحويل الدولار إلى العملة المحلية . قرر أن يذهب ويبدل في البنك خوفا من أي مخاطرة. في طريقه إلى البنك قابل- دولار- ريال شيك سياحي علي طريقتهم. استبد به الفضول فسال عن السعر وهو يعلم سعر التبديل خارج البنك من الفندق. أعطى سعر عالي جدا يكاد يكون الضعف.. سال منه اللعاب، قبل أن يستجمع نفسه ، بدل دولارات الثلثمائه – ثلاثه ورقات من فئة المائة، إلى العملة المحلية.استلم المقابل وسلم الدولارات وهم بالرجوع إلى الفندق.
جاء شخص آخر وهمس إلى الذي بدل الدولار. علم "محمود" أن السعر انخفض اللحظة إلى اقل من النصف، عليه يتم الحساب علي السعر الجديد أو تلغي عملة التحويل.غضب " محمود " ورفض التخفيض.ألغيت البيعة أعاد كل إلى الآخر ما اخذ. ذهب " محمود" نحو البنك من جديد هذه المرة يغلي من الغضب- الله وحده يعلم كم درجة ارتفع ضغطه وهو الذي آتي ليخفضه.. في أول يوم يقول: الصباح رباح..
كان هناك أيضا من يقولها ولكن علي طريقتهم عدم التواني من فعل أي شى..من اجل الكسب..
عندما اقترب من البنك تحسس النقود في جيبه؛ وجدها فطمأن.أراد أن يطمئن اكثر أخرجها ليعدها:
واحد، اثنين، ثلاثه؛ ثلاثة ورقات من فئة الواحد دولار!!
خسر "محمود" 297دولار في لمح البصر. قام خبث الاحتيال علي تساوى حجم فئات الدولار المختلفة، ولحظة انفعال المجني عليه.
*
الرحيل في الداخل علي ما يشمل من معاناة فهو ممتع. الأشياء التي تنقر علي الذاكرة دوما هي تلك التي تنضح بعرق التعب والمشقة مثل رحلة الصيد أو مخاطر الوصول إلى أعالي الجبال، الداخل دوما يعطى والخارج يأخذ.
الداخل يعطى حتي المشقة الحبيبة إلى النفس لأن بدايته كانت الإبحار في دواخل ذلك - البسيط ، الشفاف، الرقراق كماء الجداول"محمد أحمد" وذروة سنامه عند:
شلالات جبل مرة
الحيوات الفطرية في حظيرة جميزة وحظيرة الدندر.
مصايف أر كويت.
وشفافية مياه البحر الأحمر.
*
اصبحت بيننا الذكريات التي اسامرها ليالي الطوال ، اصبحت بيينا فضاءات وبحور، مدن تسبح في النور،وليالي سرمدية ،تتمدد كما الدهور.