السودان
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام

قـصة قصيرة: زيتون أو الوجه الآخر للمدينة بقلم موسي محمد موسى

سودانيزاونلاين.كوم
sudaneseonline.com
7/26/2005 1:22 م

قـصة قصيرة:
زيتون أو الوجه الآخر للمدينة:


موسي البحر
لقد جُن زيتون ….
إذا ترقب عن كثب جريان قطار حياته علي قضبان هذه الدنيا …. سوف لن تتوقع له
أبداً سوي هذا الجنون….سوي هذا المصير الذي ربما كان ملصوقاً عليه منذ أن تبددت
صرخة ميلاده علي أرجاء هذا الكون و فنت بلا صدٍ أو ترحيب.
لقد جُن زيتون كغيرة ممن لاقوا ذات هذا المصير
فالآن ……….. الآن …
تجده كومة … متكورة من عظام يغطيها جلده كما يغطي القطمير نواة التمر.
هزيلاً … مذهولاً … ساهماً يحدق في الفراغ … عابساً بهش أطياف ذكرياته أو نتفها
ككهل في سن الشيخوخة يهش أسراب ذباب مشاكس.
بلا هدف أو غاية معزولاً … منعزلاً.
لا إنه ليس الجنون وحده إنما الموت أيضاً … عين الموت … الذهول … الهزال …
فقدان الإحساس بالأشياء و الغربة الأبدية حتى عن جلده.
ماذا تبقى بعد ولم يذكر ؟
حياة قصيرة مترعة بكل ما يمكن أن تتصور من عذاب الأحزان … الآمال … التي لا
تعرف التحقق … الأحلام المتدفقة مياهاً علي صحراء الواقع … الدموع … الألم.
كل هذا … يا لها من حياة
حياة لم تحتمل كل هذا الامتلاء و التخمة … فساقته إلي الجنون.
كم من أحلام شادها بالتمني … فانهار بنائها الهش … أمام أعاصير الواقع اللئيمة
… كان يعلم أنه محظوراً عليه العيش الكريم … و الابتسامة … و كل ما تتأكد به
إنسانية الإنسان … غير أنه كان يتحسس الخروج و الانفلات عن تلك الأحزان …
فالأحلام وهي الوحيدة المشروعة له … كانت تغازله في قلب آلامه و تبرماته و
تدعوه للاختلاء بها.
ليتمني كيفما يشاء….
أن يكون فقط … أن يجعل أخته (كبيده) تبسم و لو لمرة واحدة في العمر أن يعين
أباه علي قراع الفقر دحر ليلات الحرمان أن يشتري ثوباً جديداً لأُمه التي ما
زالت تتلفح ببقايا ((طِرقة)) متآكلة … بلا لون سوي ألوان أغبرة السنين العجفاء.
أن يتمرد علي هذا … لا بل علي ذاك.
وتتوالد الأحلام … وتتنامى … وتتكاثف الأماني و تتصاعد لتخلق كون جميل … من
اقتراحه هو … لا شتاء و لا مسبغه به … و لا جُدرِ أحزان و لا كفاف … يعود فيه
إلي الدراسة و يشتري فيه فستان (لكبيده) و يحمل عن أباه حمول الأحزان
و..…و…..و…..
و يشعر بآلام حادة علي إليتيه جراء جلوسه الطويل حجر أمام
كنتين عبد الرحمن الزين فهو علي هذا الحال منذ أن صار يهرب من
آلام البيت إلي هنا … يجلس يومياً عصراً أمام ((الكنتين)) حيث يلتم رجال الحارة
…لإفراغ ما بجوفهم من حًُرق و من احساسات مُرة بالضياع و العبث علي حلقات
الكونكان أو البصرة … يتناقشون بضحالة في السياسة أو يثرثرون بأحاديث فجة ،
سطحية عن الحارة … بعضهم مخمور.
و يحس بالخدر و الألم من فرط الجلوس ليعود من عوالمه البعيدة تلك إلي البيت …
الشارع و البيت سيان…. حزن في كل مكان ليست هنالك ثمة رحابة … وثمة آفاق …
السماء أو الأرض شيئان لا يتسعان إلا للأحزان.
لكن يجب أن يأبق و عليه أن يخرج
إذاً كيف الخروج ؟
و ها هو يلج إلي البيت
زيتون أين كنت …
إنها كبيده تسأله … مؤنسته و حبيبته و معبث شقاءِه كان كلما يرى كبيده هذه….
صباحاً أو مساءاً أو ضحي أو مناماً … لكأنه يرى كل أحزان الكون مجتمعة في ذاك
الوجه الذي ما خلق إلا للدموع الأبدية و الحرمان المقيم …
تأتي إليه لتجلس بقربه لتشكو له الجوع … العراء … و القمل أنهكها بالحمى …
لتقول وهي ساهمة بعيداً: غداً ستعمل و ستشتري لي فستاناً جميلاً يحمل كل ألوان
الدنيا لا يبلي و لا يتقطع … وستسافر يا زيتون و تعود لنا محملاً بالهدايا و
المال … وتتبدل بك أحوالنا.
إذا سافرت فلن أعود
ومن ذا الذي سيشتري لي فستاناً
سوف لن أعود يا أختاه سوف لن أعود
لكن أعلمي سوف تتبدل الأحوال .. و سوف تلبسين فستاناً جديداً …
و يغوصان في عناق محموم وبحر من أدمع الحرمان تزداد احساسات زيتون بضيق هذا
الكون و تزداد غربته وهو وسط هذا الحزن المتفجر و الآهات التي لا تعرف أبداً
الانقطاع.
أمام كتين عبد الرحمن الزين كل الناس فقراء لكنهم بنسبٍ
متفاوتة … و كلهم محزونون و لكن زيتون حزنه أشد … منهم… لأحد هنا يستطيع أن
يفعل شيئاً حيا الآخر … فالفقر هو الوباء المستوطن و الحرمان هو الشئ الذي
تقرأه في الأعين و الظهور المنحنية دوماً و الملابس البالية المتسخة … فعبد
الرحمن الزين فقير لكنه أرفع درجة منهم قليلاً … فكنتينه لم يزد و يتفجر عن
أملاك …. و أرصفة منذ أن جاء من حروب الحبشة و أحيل للمعاش … و زيتون في تقرصفه
ذاك بالقرب مهم يعلم ذلك … فهو لا يستطيع استجداء أحد أو طلب العون من أحد …
يجب أن تبحث لك عن عمل يا ابني
ولكن أين و كيف يا عم طه ؟
لي صاحب له مطعم في السوق سوف أكلمه لك.
و عمل في المطعم من السادسة صباحاً حتى الثلث الأول من الليل … يجوس داخل
المطعم يجمع الأطباق و يوزع أكواب الماء … جائعاً … كالقطة التي تتوسل قطعة
لحم. فصاحب المطعم كان لئيماً فظاً … لا يسمح له أن يدخل شيئاً في أمعائه إلا
بعد منتصف الظهيرة … ترك العمل عمل … حمالاً … علاوة علي حموله التي يحملها
سلفاً … عمل كمسارياً … متحملاً سياط الاهانات و السباب الفاحش … إلي أن نفد
صبره … وقرانا …. و الأزمة هي الأزمة و الحلقات تأتي مستحكمة و الحزن يأبي
الرحيل … والأب ما عاد يقوي علي العمل و الأم أتعبها الغبن و الحوجة المتوارية
خلف الصمت و السعال و أمرضها الهم و ضياع السنين في انتظار الذي لا يأتي و
كبيده زهرة تتفتح كل يوم … تفاحةُ مرتعه يُخشي عليها من كيد القاطفين.
شيئاً … فشيئاً
صارت المرآة تجلو له
شيئاً … فشيئاً
بأن يستوعب ماهية الحزن الذي يتملك إنسانه
شيئاً … فشيئاً
أمس يري بوضوح الإنسان المعذب بدواخله و يق معه وجهاً لوجه … يلومه … يبكي معه
و يبكي … لقد تضاعف الحزن مرات و مرات و ضار الأمر … أكثر خطورة …
إذاً الخلاص … في السفر …
الخلاص في أن أبحث عن عملٍِ أعتاش منه و أبواي و كبيده.
و سافر زيتون …..
رحلة الإنعتاق من الفقر و العذاب و الحرمان هي أشق رحلة و أصعب … لأن المرء
فيها يمضي مأخوذاً إلي حيث يهتف الهاتف و يشير القلب …. يمضي لأنه يريد فقط أن
يخرج عن تلك الدائرة … لذا قد يحيط علي أقرب منعطف أو أول أو ثاني أو آخر
المحطات … وهذا … ما حدث لزيتون.
و المدينة تقوص في عواصفها و تتغطي بالليل من قساوة البرد … إذهو يحط وحيداً
ذهلاً في سوقها الذي … يتململ من زمجرة العاصفة و شدة الصقيع …
اقترب من صاحب العربة التي أقلته ليته يتركه ينام هذه الليلة بالعربة …
إلا إنه انتهره لاعناً إياه و كل المتشردين الذين يغضون مضجعه و مضاجع المدينة
…. لقد صار زيتون مشرداً … صار واحداً من أبناء السوق الشرعيين بمجرد أن وطأت
قدماه تراب هذه المدينة.
ابتعد قليلاً … فسمع أنين مكتوم و غطيط و مواءات قطط و نباحات كلاب جوعي …
تقترب و تبتعد … و بينما هو يمشي إذا برجله تتعثر علي أكوام بشرية تتكدس علي
فرندة احدي المحلات … تلك كانت مصدر الأنين المكتوم و الغطيط المضطرب …
لا بأس من الالتحاق بهؤلاء إلي حين ….
لم يستطيع النوم … بأمعاء خاوية و جسد هزيل بلا غطاء و أمان تعاني ((خراج
الروح)) و أحلام تقتلعها عواصف المدينة.
أطياف صدئة … ذاكرات متعفنة و ذكريات علقمية … و ليلات ثقيلة … لا تسفر عن
صبح مرغوب فيه … خالية من أي طعم ….جلسات كنتين عبد الرحمن
الزين … عودته إلي البيت حيث لا طعام يعمد أرجاء أمعاءه الخاوية … رقدته تلك
علي تلك علي ركن البيت علي سرير متهتك دون غطاء … حتى في أقسي صقيع أمشير … وفي
الخريف أيضاً حتى إنه كان يتمني أن كل أيام الخريف (صبنة) حتى و لو جاعت كل
البلدة فهو جائع طوال العام و بيتهم بلا سقوف سوي السماء …. فقط السماء.
المدية تلك الشائعة … لا يري فيها سوي العدمية و العبث مرآة كبيرة يري فيها
بؤس أبويه و أخته و آلامه … التي يهرب منها إلي شوارعها التي هي الأخرى تنبذه و
… تقشعر من وقع خطواته …
و الله يا خالق المدينة
لما خلقتني هكذا ؟ لما
كيف يعيشون الآن … أمي المسكينة الطيبة و أبي ذلك الصابر … وكبيده …. و يحس
بالبكاء … لكن بلا دموع
لقد تصلد كل شئ.
ربما تموت أمي و سيلحق بها أبي و ستزبل كبيده قبل أن ألبسها ذلك الفستان.
تصحو المدينة بصحو باهت … وجسد مترهل … متكاسل …
شيئاً … فشيئاً … يكتمل الضوء و تتبدي المواجهة …
و تتملك زيتون الحيرة
من أين يبدأ ؟
و هل ستجدد هنا أيضاً جراحات المطعم و الفرن و الكمسره أم سيري وجهاً آخراً و
حظ سعيد.
و يهيم علي وجهه … باحثاً عن شئ يقيم به أوده.
و يحس بالخوار و العجز … لم يجد مناصاً غير اللواذ بصبية السوق ليظفر معهم
بشئ من بقايا طعام المطاعم و جرعة ماء … و عُقب سيجارة و في المساء ينام معهم
يسامرونه تارة و يتحرشون به تارات و تارات .
بحث مراراً عن عمل … لكن دون جدوى … لقد عرف قساوة المدينة … حتى العمل في
المطاعم و المواقف (الكمسرة) أو الأفران … كان موصداً … لم يكن يوم من الأيام
متشرداً أو بلا مأوي إلا أنه كان هذا هو الخيار الوحيد في هذه المدينة حياة
التشرد و السوق … حنين جارف يأخذه إلي أبويه و كبيده و كنتين عبد الرحمن الزين
… لكن أني له أن يعود و هو لا يملك شيئاً و تضيع الملامح و تتبدد الآمال… مع
مرور الأيام و الشهور و السنين … وهو بين المشردين أخوانه في المصائر و ضياع
الأماني.
والله يا خالق المدينة
ماذا عساى أن أفعل ؟
بينما هو يتوسد الضياع … و في ذات ليلة ِ صيفية ثقيلة إذ يتعر من قدامي متشردى
السوق يتمالوءن عليه فيغتصبونه بلا هوادة ويضربونه حتى يفقد وعيه.
ليجده أحد معارف والده … هزيلاً شارداً ممزق الثياب فيعود به بقايا إنسان محطم
ماتت فيه الأشياء و عافته الدنيا.
الأب صار مُقعد عن العمل و الأم تتوسل الموت أن يأخذها و ليس لهم عائل سوي تلك
ظلت تعطي شذاه إلي كلِ .
إنها تبتاع ما تملك من أجل أب مُقعد و أم مريضة و أخ مجنون …إنـــهـا
تـُضـحـــــــــــي.
موسي محمد موسى

(موسى البحر)

للمزيد من االمقالات

للمزيد من هذه الاخبار للمزيد من هذه البيانات و المنشورات
الأخبار المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع


| اغانى سودانية | آراء حرة و مقالات | ارشيف الاخبار لعام 2004 | المنبر العام| دليل الخريجين | | مكتبة الراحل على المك | مواضيع توثيقية و متميزة | أرشيف المنبر العام للنصف الاول من عام 2005

الصفحة الرئيسية| دليل الاحباب |English Forum| مكتبة الاستاذ محمود محمد طه | مكتبة الراحل المقيم الاستاذ الخاتم عدلان | مواقع سودانية| اخر الاخبار| مكتبة الراحل مصطفى سيد احمد


Copyright 2000-2004
SudaneseOnline.Com All rights reserved