طه يوسف حسن – جنيف – سويسرا
قال : هنري كيسنجر : "حين أريد أن أتفاوض مع أوروبا، بمن يجب أن أتصل؟" أوربا التي وصفها الجنرال رامسفليد بأثينا مقابل روما الأمريكية عقّدت الإجابة على سؤال هنري كيسنجر الشهير: أوربا الجديدة التي تبحث عن أساليب ناعمة لتمديد صلاحيتها لسجال غير قابل للانتهاء و عن دور يترواح بين مفهومين أحدهما رسمي متشبث بالإستراتيجيات الموروثة وما تبقى من رواسب الاستشراق و السلب والأخر شعبي متعاطف مع قضايا الشعوب التي دفعت ما يكفي من أثمان لنيل استقلالها و حريتها قد اختبرتها استفتاءات الدستور الذي أجهض في مرحلة اليرقة والذي اعتبرته شعوب القارة البيضاء ما هو إلا لقطات ليوم واحد استخدمها من قبل هتلر وموسيليني. وقد بدأت القارة القديمة التي كانت ولا تزال تعج بالتناقضات بالانسحاب التدريجي من الحلبة إلى الهوامش أثناء حرب الخليج الثالثة رغم المظاهرات التي عصفت بالصقيع السياسي والأخلاقي المدن الأوربية للاعتراض على حروب غير مبررة واستباقية, صمتت أوربا بعض الشيء في بداية التسعينات عن تصرفات الإدارة الأمريكية رغم تململها من السياسة الصبيانية الأمريكية ولكنها وفي الرمق الأخير من التسعينات عادت لتبحث عن دورها وحضورها في الساحة الدولية بأثر رجعي. فلذا ليس من الغريب أن يجهض الشارع الأوربي المتعاطف مع قضايا الشعوب الدستور الأوربي وهنا برز تيارين التيار الرسمي الذي يحلم بتأسيس (سوبر دولة ) أوربية لها رئيس واحد وجيش واحد وسياسة خارجية واحدة حتى تستطيع أوربا أن تعطي هنري كيسنجر رقم هاتف واحد بدلاً من الخمسة وعشرين هاتف (عدد دول الاتحاد الأوربي ) و التيار الشعبي الذي يتفاعل مع قضايا الشعوب في شتى بلدان العالم و رغم التقارب الذي حدث بين ضفتي الأطلسي والأطلنطي لكن واشنطن عبّـر ت عن نفسها بوضوح في موجة احتفالات الفرح التي اجتاحت أوساط المحافظين والمحافظين الجدد في الولايات المتحدة بعد انهيار مشروع الدستور الأوربي الذي جعل من الاتحاد الأوربي يقف أمام أزمة مزدوجة انفتحت بعد أن أسقط الفرنسيون والهولنديون القناع عن رفضهم وثيقة الدستور الأوروبي، ومعها ربما مسيرة البناء التي بدت في نظر الكثيرين عملية فوقية، أرادتها نُـخب السياسة وأوساط المال، بعيدا عن واقع الصعوبات اليومية والمخاوف الأمنية التي يواجهها المواطنون بشكل متزايد. وبعبارات أخرى فإن الاتحاد الأوربي كما ذكر المحلل السياسي البريطاني السير سيريل تاونسند هو اتحاد بيروقراطي بعيد عن نسج العلاقات مع الشعوب الأخرى و شعر الكثيرون بأنه يتغير سريعاً لمصلحته الشخصية تاركاً العديد من مؤيديه وراءه. و لكن العمليات الإرهابية التي أدمت لندن في بداية هذا الشهر ربما تثير الحاجة للتضامن، لكنها لن تكفل الاستجابة للاندماج، بل تزيد في درجات الحذر ورفع الحواجز على الحدود.
وقد تبدو موافقة غالبية سكان لوكسمبورغ على الدستور، ثاني أصغر بلد في الاتحاد بعد مالطا، بمثابة الرمز بأن قسما من الأوروبيين لا يريدون دفن وثيقة الدستور التي كتبت بالفرنسية في مائتي صفحة تحت الأرض .
وتأتي الأزمة المزدوجة بعد عام وأسابيع من توسع الاتحاد وارتفاع عدد أعضائه إلى 25، على إثر استيعابه البلدان الشرقية الثمانية زائد قبرص ومالطا. وتسجل الذاكرة القريبة أن دخول البلدان الشرقية في مطلع شهر مايو 2004 مَـرّ من دون احتفالات مميّـزة في عواصم بلدان أوروبا الغربية. ولوحظ بشكل خاص نقص حماس الرأي العام، وكأنه يعلم بأن كُـلفة التوسيع ستكون باهضة والحمل ثقيلا على كاهل دافعي الضرائب في بلدان أوروبا "العجوز"، التي بنت الاتحاد منذ مطلع الخمسينات من القرن الماضي. ويعد تغييب الرأي العام عن عملية التوسيع، وعدم استشارته حول دخول البلدان الشرقية، من ضمن الأسباب الرئيسية التي جعلته يرد على القادة الأوروبيين برفض وثيقة الدستور، رغم كونها تهدف إلى تنظيم سير مؤسسات الاتحاد وتوحيد المنظومة المشتركة بين شعوب الاتحاد. تركيا أتاتورك لم يعد لديها مقعد في النادي الأوربي رغم الحماس الذي أبداه رئيس الوزراء البريطاني توني بلير لانضمامها لنادي الاتحاد الأوربي و ستظل تركيا حبيسة بيت الفرذدق الذي هجاء به الراعي النميري .( لا كعباً بلغت ولا كلابا) فلا هي تركيا الخليفة العثماني حتى تتبع لقطيع الدول العربية ولا هي تركيا أتاتورك حتى تتبع الدول الأوربية ولو في نفير دول شرق أوربا مثل أرمينيا ومالطا وقبرص وبولندا ودولة التشيك .
الهولنديون أصبحوا يُـعلنون معارضتهم للمشروع الأوروبي، ويرفضون أن تكون مساهمة بلادهم كبيرة في الموازنة المشتركة لتمويل عمليات التوسيع، التي لا يرى المواطنون فوائدها بالنسبة إليهم في حياتهم اليومية. وعقّـب رئيس وزراء لوكسمبورغ، رئيس القمة في حينه، على الوضع فور خيبة الدستور في هولندا في بداية هذا الشهر قائلا "أوروبا أصبحت لا تثير الأحلام". ورأى رئيس البرلمان جوز يف بويل من ناحيته بأن "الخوف غلب الحلم". وقال ديبلوماسي بريطاني رفيع المستوى ليس من الممكن أن يطلب الاتحاد الأوربي من الرئيس الأمريكي الذهاب للتشاور مع رئيس وزراء مالطة على خلفية مشكلة مع الإتحاد الأوربي.