منذ بداية العصر الحديث لم يفتح الله على السودان بزعيم حقيقي يستطيع أن يقوده بمهارة الزعماء وحنكة العظماء، وكل الدول المحيطة بنا لو نظرنا في تاريخها نجدها حظيت في فترة من فتراتها بزعيم أو بطل مخلص لشعبها وترابها، فالملاحظ إنه باستثناء فترة المهدي وإن دارت حولها كثير من الشكوك، يبقى المهدي زعيم حاول على الأقل تحرير البلاد من مستعمر وتوحيدها بنية صادقة، عدا ذلك لم يسجل التاريخ السوداني أن هناك من انبرى لقيادة الأمة السودانية متجرداً من الانتماءات والانتهاكات والقصور.
بل، وعلى العكس، كل الرموز السياسية السودانية الحالية تمثل عقبة كأداء في وجه تطور البلاد وتنميتها، وتوالت طعناتهم المسمومة في ظهر الوطن، ويستغلون أسوأ أوضاع البلاد لزيادة مآسيها.
ما يحزنني أن يمزق الوطن وتراق دماء آلاف الأبرياء من أجل أن يظل بعض اللصوص والانتهازيين في أماكنهم، وأشد ما يحزنني ان يتحكم في آجالنا التجار، ويحسبون أرواحنا بمنطق الربح والخسارة، بمنطق ماذا سأكسب إذا اندلعت حرب في دارفور؟ وماذا سأكسب إذا انقرض الآلاف في الشرق؟ والمصيبة أنهم يجدون من يمثلهم خير تمثيل ويقوم بالمهمة بالنيابة عنهم بطريقة أفضل مما يمكنهم القيام بها، وعلى أسوأ الفروض يجدون الأغبياء الذين ينجرون وراء مخططاتهم بكل سهولة؟
عندما اختلف اللصان في الخرطوم انطلق التمرد في دارفور، ووُجد أثر الترابي بيّناً في موضع الجريمة، حيث تزامن اندلاع التمرد مع اعتقاله وإقصاءه بصورة تنتفي معها الصدفة، جل قيادات التمرد كانوا أبناءه المدللين، بل هو لم ينف علاقته بهم، فكل ما في الأمر أراد أن يثبت للنظام أنه باستطاعته أن يزلزل الأرض تحت أقدامهم وبأنه يستطيع أن يطيّر رؤوس كثيرة من مواضعها، أي أن الأمر لا يتعدى أن يكون مجرد إثبات وجهة نظر، ومسألة الخسائر البشرية والمادية لا تهم مطلقاً. وبالمقابل قام اللص الثاني أيضاً بمحاولة الإثبات اللعينة هذه وأطلق يد القبائل الرعوية التي لا قانون ولا عرف ولا ضمير يردعها، فعاثت في الأرض فساداً وتساقط القتلى من الجانبين. وماذا كسب الوطن؟؟؟ لا شك أن مصاب الوطن فيما حصل يعجز أبرع الأقلام عن وصفه، وما حاق بالبلاد في فترة الـ 16 عاماً الماضية لم تشهده طوال تاريخها الطويل.
ألوف من القتلى الأبرياء، رجالاً وأطفالاً ونساء، شبح الانقسام والتشرذم، تدخل وقوات أجنبية في أراضيه وهذا ما لم يحصل أبداً في ظل حكومة وطنية سابقة، انعدام للأمن باستثناء الخرطوم والولايات الشمالية، سمعة سيئة وسجل حقوق إنسان ملئ بالفضائح والمآسي، فساد يسود كل أجهزة الدولة بلا استثناء.
أما قادة التمرد، وبلا ضمير ولا إنسانية ولا خجل، أشعلوا حرباً خططوا لها بدقة وتحروا جيداً أن تكون قبلية تشمل قبائل معلومة، وليست ذات طابع قومي كما في حركة جون قرنق، وهذه القبلية ساعدت في دعم الإدعاء القائل بأن الحكومة والجنجويد يمارسون جريمة التطهير العرقي ضد القبائل الأفريقية. كانت مبرراتهم الظاهرية التهميش والإقصاء والعنصرية، وقلنا انهم محقون، فدارفور عانت ما عانت، وتستحق الإنصاف بل وعبر البعض بالاستعداد لحمل السلاح والتخندق مع المتمردين مثلما فعلوا مع قوات الدكتور قرنق، ولكن بمرور الزمن اتضح أن تلك الحركات لها دوافع أخرى ولا تمثل دارفور ولا علاقة لها برد مظالم أهلها، بل يحركها دافع الولاء لمسيلمة السودان الدكتور الترابي، بل أنها ألقت سلاحها ورضخت لشروط التفاوض بمجرد إطلاق سراح الدكتور الترابي، أي ابتزال وأخلاق هذه؟ أي نوع من الولاء الذي يشارك أصحابه في جريمة تؤدي بحياة أهلهم أولاً؟ لماذا لا يتخذ المتمردون مسرحاً شريفاً لمعاركهم ؟ لماذا يصرون على الاحتماء والتخندق خلف أبناءهم وامهاتهم؟ وهم يعلمون أخلاق شركاء الأمس فقد رضعوا من ثدي واحدة وتربوا على حجر الشيخ اللعين.
الشيخ الترابي ذكي لا يختلف في ذلك أثنان، وصاحب فكر ثاقب ولكنه لسوء الحظ وجه كل طاقاته العقلية لخراب الوطن ودماره، وما يلاحظ أن أي تحرك قام الرجل وأي ظهور سياسي صاحبته نكبة عظيمة للوطن، وكل الحروب الأهلية في السودان تجد للترابي يداً فيها بصورة أو بأخرى.
للجنوب الحق في تقرير المصير والانفصال، وكل من طالب بالتحرر من الخرطوم فهو محق وسيبقى الترابي شوكة في خاصرة الأرض التي يعيش عليها الى الأبد، وعلى الشمال الاستعداد لمعركة طويلة ومريرة مع الترابي ومخططاته وأوهامه بإحياء دولة وفق مزاجه الخاص، فإن ذهب الترابي غرباً أو شرقاً فإنه يجر خلفه طابوراً طويلاً من المشاكل والفتن.
ولكم الله يا أبناء وطني وأنتم تضمدون بدمائكم جراح الوطن، ويفتح المفسدون جراحاً أخرى أعمق وأطول، لكم الله وأنتم تحلمون بوطن (حدادي مدادي) مليون ميل مربع يستوعب كل السودانيين بلا استثناء ولا تمييز عرقي أو ديني أو جهوي وتفتحون أذرعكم عريضة لاحتضان بعضكم، ويفرق تجار السياسة بينكم ويذرعون البغضاء والكراهية بينكم.
بقى لنا أن نحزن على وطن نفخر بالانتماء إليه، وعبثت به أيدي الساسة البغيضة، وتكالبت عليه أيدي أبناءه والآخرين، وأردوه مثخناً بجراحه، لنا أن نحزن على وطن كان نموذجاً جميلاً زاهي الألوان، لوثته دماء الأبرياء من أبنائه.
ويبقى الأمل..... !!!!