الدقوناب .. رجال .. يعجز دون مقامهم المقال
النيلُ سابق الفرات إلى الجنة بالانتساب, يتمدد على ضفتيه بوسط ولاية نهر النيل ريف العليَّاب, نسبة إلى جدهم عليّ من الجعليين. على شفا جرف هذا النهر العظيم الشرقي تغالب الخضرة صاعدة إلى السماء, مئذنة أصلها مسجد أسسه على التقوى من أوَّل يومٍ منذ السلطنة الزرقاء, رجال عرفوا ربهم فأحبوه وخدموا كتابه وأحبوا بحبه مصطفاه, وآل بيته عترته ومن صحبه ومن اهتدى بهداه. فقاموا ببطن جائعة على قدم طائعة تحدوهم أشواق نفس في الرضاء طامعة. طهروا قلوبهم عن القواطع وتجردوا للخدمة, وطهروا ظواهرهم تجملا للناس إظهاراً للنعمة. فتطهر بهم من حل فيه سمتهم بعد أن رآهم, وتطهر تحت أقدامهم إكراما لهم ثراهم. ما كانوا ينسبون إلى الدقون, ولكن لما دبَّت إلى خيارهم المنون, وأوشكوا على الانقراض وهكذا فعل السنون, بقي طفل تعلق برؤيته في مأتمهم المُعَزُّون. وكانوا يقولون أين هو عقاب الدقون. فعلق به هذا التعريف وخفف بالنسبة فقيل الدقوني واسمه علي وكم لله في خلقه من شئون. ترعرع في تلك البقعة التي زكَّتها أذكار أهله وأنفاسهم فكان أباً صالحاً فللَّه المنة والحمد, وقد صحت خلافته لأصله وكذلك صحت خلافة أبنائه له وهما الشيخ أحمد وأخيه الشيخ محمَّد. محمد هذا هو المدعو بالخليفة. وذلك انه لما قصد مكة المكرمة حرسها الله, لقي الإمام السيِّد محمد عثمان الميرغني الختم رضي الله عنه وأرضاه. فأخذ عليه الطريق وعاد به مظفراً سابقاً شيخه إلى السودان فيا لها من رتبة منيفة, وبها ينجلي سر رسوخ هذه الأسرة في هذه الطريقة الشريفة. أما الشيخ أحمد فهو من سن فيهم مدح ذي الجناب صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تعريفاً به وناشرا الشوق إليه والتعلق به بين الأحباب. فتكمَّلت بذلك دائرة هدايتهم للخلق, وفتحوا بالقرآن والسنة قلوباً محكمة الغلق. وكان مما يقول تشويقا إلى النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم:
برق الغور من عشية يا أخـــوان لاح ليَّ
جفت النـوم مـقـلـتـيـا من شوق أحمد نبيَّ
ومن مدائحه المبروكة على السودان استغاثته الشهيرة للحواري, المعروف بالشيخ إبراهيم ود الدفاري. وذلك أنه كان يعمل في زمن التركية في بربر بوظيفة عالية, فأُتُّهِم باختلاس فأرسل إلى شيخه مستنجداً فهبَّ الشيخ قاصدا إياه وفي الطريق أنشأ قصيدته:
الماحي الفاضلا الجانا مرسلا من قام له في رجب محبوبي الكاملا
فما وصل حتى ثبت أن الدعوى باطلة وعن الصحة خالية. وبركتها تتجلى في أن الشيخ ود الدفاري لما انحل قيده وصينت كرامته وكُفِلت حريته, أراد أن يكافئ شيخه لما أعانه به من استغاثة فاستُجيبت دعوته. فعرض عليه أن يزوجه إحدى كريماته الغوالي. فقال الشيخُ إنّي رجل هَرِم ولكنّ ابني طيفور هو أقدرُ منِّي علي القيام بحقوق النِّساء والعيالِ. تزوجها ورزق منها بأبناء هم أحمد وعبدالله والطيب وثلاث بنات تزوجهن تباعاً العمدة محمد شريف الزبير عليه رضوان الباري. هذا ورزق العمدة من أولاهن البتول ابنه طيفور محمد شريف العلم الشهير والشهم ذي المقام الخطير جعل الله البركة في أهله والذراري. وهو من الستة الَّذين تبنوا استقلال السودان من داخل البرلمان حيث تم انتخابه عن الحزب الاتحادي, في أول انتخابات قبل خروج المستعمر العادي. انتقل الشيخ أحمد إلى جوار ربه بالعليّاب ودفن هناك بقبة الدقوناب بجوار أبيه وابنه الشيخ طيفور الدقوني الذي وَلِيَ الخلافة بعده ويرى الكثير من المادحين أنه الأجزل لفظاً في هذه الأسرة الكريمة والأكثر في حلاوة المديح حظاً. وهاهو ذا يقول:
بــــادي طــــوقِ لي أب عَلَماً حاوي فوقي
مدحه الدر يفوق حــــالي لمن كان عشوق
ومن بديع نظمه رضي الله عنه:
فيه الحسن طر مجموعِ للأســرار نـبـيــك يـنـبــوعِ
قاف الشم وحب الجوعِ والجود في الرسول مطبوعِ
وقال في أخرى:
مـنـي أسـمـع يــا ربـيـعــا في النبي أب قامةً ربيعا
وضعه خُمْسَين في ربيعـا بـيـهُ مـحلنا صار ربيعـا
ومما يحكيه عنه الخليفة الفكي الطيب بابكر الدقوني أنه لما ختم إحدى مدائحه بقوله:
الـلـــــــــهـم صـلِّ عـــلــى أبي الزهرا أفضل الفضلا
ترضي صحابه تبقى صلة لـطـيـفـور الهدى الفَصُلا
نام فرأى السيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنها في أبهى صورة وأجملها وهي تقول له وصلناك يا طيفور وصلناك يا طيفور.
ثم يأتي بعده أخيه الشيخ بابكر الدقوني رضي الله عنه وهو المولود بقرية على نهر عطبرة يقال لها قوز رجب, وذلك أنه حين ثارت فتنة الجهدية أجناد التعايشي على الجعليين وفعلوا بهم العجب, هربت أمه مع الناجين وهي حامل به فوضعته هناك والحمد للمولى على ما كتب. وعند انجلاء المحنة نزلوا شندي وأقاموا بها فترة ثم عادوا إلى موطنهم وتحور لهم خلق من تلك الديار, وتبركوا بالتسمي بأسمائهم ولا تزال المودة موصولة طالما رعى الخيارُ بِرَّ الخيار. قام بقدم الصدق وتوفيق المنان بالحفاظ على نار أهله متقدة لتعليم القرآن ونشرها نظماً شمائلَ رسول الملك الديان. وجاب لذلك أصقاع البلاد ولم يستثن من ذلك قاص أو دان. وفي تطوافه كان ينزل على الشيخ المقابلي بالعيلفون حفيد الشيخ ادريس ود الأرباب ( اللابس الفِرْكَة ) ونشأت بينهما محبة عظيمة في مولاهما الوهاب, أثمرت زواج الدقوني لابنة الشيخ ورزقهما الله تعالى رجال بقي منهم بسلاسل الحياة الشيخ طيفور والشيخ الطَّيِّب وهو خليفة خلفاء السادة المراغنة الآن بالعليَّاب. أطال الله أعمارهما وبارك فيما لهما من أنجاب. ومما يحكى عن هذا الهمام أنه كان يزور السيِّد عبدالله الميرغني المحجوب ببحري ويمدح عنده كامل الخصال جده غوث الأنام ويثير مجلسهم الأشواق الساكنة لما تُرسَم للمحبين من خصال الحبيب ومزاياه الفاتنة. قال السيِّد يوما للدقوني امدح سراج الكون ولم تكن للشيخ مدحة بهذا الاسم فأنشأ قائلاً:
الصلاة والسلام لروح سراج الكون سَيِّدي الصادق المامون
وقال فيها:
كان ربعة الحليم يخفى الزباد كرفه نـور الله الـقـديـم الـكلـه نـور صـرفُ
شاف ذات الكريم ملجانا بي طرفه فرض الخمس من خمسين جلب خِفُّو
إلى أن قال:
في الـلـيـل الـبهيم البرق ولول لاح أحـرق لـفـؤادي كاد زادني جـراح
خلاني أنوح بالحب على المصباح من غير روضته يا خلي ما برتاح
الصلوات ألـوف ثم السـلام وشـاح تتمـادى وتسـيـرا بالـغـــدو ورواح
ترضيك يا العفيف وبالكيان ترجح البكري الدقون قل ذنبه كله مباح
فيقول سيدي المحجوب: مباح يا الدقوني مباح يا الدقوني. انتقل رضي الله عنه إلى جوار ربه عند زوجته الثانية أم زين بأم دقرسي وهي من قرى الجزيرة على النيل الأزرق وفيها حتى اليوم عدد كبير من العليَّاب وله منها من الرجال عددا بقي منهم المحجوب أطال الله بقاءه. وقبره هناك معروف يزار أمطر الله عليه رحمته وجزاءه.
جاء بعد الشيخ بابكر أو البكري كما يسمي نفسه في مدائحه ابنُ أخيه طيفور الشيخ أحمد وكان أيضا بليغاً برغم قلة المدائح التي نقلت عنه وكان مما قاله رضي الله عنه:
للنبي ما حج طائف صل يا ذو اللطائف
إلى أن قال:
الـنــَّسَّــــام لـي تـوالـى من سوح ماحي الضلالة
جود مولاي بالوصالا فيها نحط الـرِّحـــــــالا
يا مـن لا نـعـبـد سواك صـل عـلـى مـصـطفاك
ملء الأرض وسـمـاك ابن طيفور هب رضاك
توفي رضي الله عنه بالعليَّاب وله مشهد متهاوٍ قرب قبة الدقوناب بجبانة الحاوية الشهيرة عند الكبار بحدبة منان.
كان مسيد الدقوناب منزلا للولي الشهير الفكي عبد المعروف رضي الله عنه وله به يطيب المقام, وكان كثيراً ما يكاشف الخاص والعام, بأمور في علم غيب العلَّام الذي يُعلِّم من شاء ما شاء وكيف شاء, وكان يقول ستسكن هذا المسجد الطيور والهوام. فمن مكذب ومن مصدق يقول ولكن ذلك ليس الآن بل بعد تطاول السنين والأيام. ولكن هاهي تلك الحقيقة التي كشفها الشيخ على وشك أن تكون, فقد رحل الناس عن ذلك المسجد الشامخ وتسللوا أفرادا وجماعات بعد أن حرَّم عليهم النيل خريف العيون. ولكن العزاء أن الرجال هم من يحيي الخراب, وأن لكل الرجال هناك محبة لذلك المكان وإن تفرقت بهم الأسباب ولكأني بهذه البقعة الطاهرة تهتف بالجميع: أن تأسوا بأسلافكم وعمروا مسجدكم أينما حللتم فأنتم المباركون عمرتم خرابي وعفرتم بجاهكم ترابي فيا لحسرتي لفراقكم ويا لعذابي, ويا لخوفي من مقبل أيامي بعدكم ويا لارتيابي فقد شهدت لكم كأمثال الجبال أعمالاً. فإن عز عليكم ما اعتراني ورحمتموني وادعوتم حب موطنكم فإني أُُعلمكم بم ينجبر كسري. عمروا مسجدكم كما عمرتموني وأروه من أنفسكم ما أريتموني, فإن فعلتم فقد سمعتم وعلمتُ أي مكان حلَّت من سويدائكم منزلتي وقدري. وعظموا مسجدكم فإنه صنوي ليس دوني وسيشهد لكم كما فعلتُ, فآل دقون فيكم باقون وسأخلو أنا منهم فيا هنيئا لكم وإني استودع الله دينكم والسلام.
ولنا عودة بإذن الله.
محمد ميرغني عبد الحميد [email protected]
نشر بتاريخ25/6/2005م الموافق 18/5/1426هـ