بقلم الفاتح ميرغني / طوكيو
المعروف ان القضاء , اي قضاء , يكتسب هيبته ليس من قدرته على إنزال الاحكام الرادعة , وإنما من قدرته على صون إستقلاليته , والتي هي اشبه بحزام العفة الذي كانت ترتديه الفتيات في اوروبا القروسطية ( Medieval).ومن المؤسف ان القضاء السوداني , والذي قاد مسيرته يوما كوكبة متلألأة من القضاة العدول , مثل العلامة ابو رنات وآخرين, قد تعرض خلال العقود الاربعة الماضية , إلى كافة انواع التحرش والتي بدأت بزرايته وتدجينه ثم تسخيره وتسييسه, مما القى بظلال قاتمة على إستقلاليته ونزاهته (Integrity).
يدور الحديث هذه الايام عن قدرة هذا القضاء على محاكمة المتهمين في احداث دارفور, تارة بإعتباره رافدا من روافد السيادة الوطنية , وتارة بحجة إستقلاله ونزاهته .وقبل الخوض في مسارب هذه القضية, لا بد من الإشارة إلى حادثة تؤرخ لاول صفعة للقضاء السوداني في مسيرة الدولة الوطنية . وهي جديرة بالرواية ليس لانها ذات صلة وحسب , وإنما لان تداعياتها قد غيرت مجرى التاريخ السياسي السوداني برمته , ولا زالت تؤرق الوجدان القانوني والسياسي .
في فترة الستينات زعم بان طالب من معهد المعلمين العالي قد سبَ النبي محمد ( ص) ونفر من آل بيته الكريم. وقيل الشاب ينتمي للحزب الشيوعي . وبتحريض سافر من التيار الإسلامي , تم حل الحزب الشيوعي وطرد اعضائه من البرلمان . علما بان الطالب المذكور لم يمثل امام المحكمة بتهمة إزدراء المقدسات او تحقير الرموز الدينية (Blasphemy) !.
وبدوره رفع الحزب الشيوعي دعوى دستورية , حيث قضت المحكمة ببطلان إجراءات الحل والطرد , إلا ان الحكومة بدلا من ان ترسي سابقة كان يمكن ان تدرَس في الجامعات ومراكز الفكر , أخذتها العزة بالإثم وآثرت ان تتعامل بعقلية نظام شمولي ورفضت الحكم .فكانت النتيجة القضاء عمليا على نظرية الفصل بين السلطات (Separation of Powers) وهي الاساس الذي تقوم عليه اي تجربة ديموقراطية سوية, وإستقالة رئيس القضاء مولانا بابكر عوض الله, مما مهد إلى قيام إنقلاب مايو الذي بدأ يساريا وإنتهى بوهم إقامة دولة الخلافة والتجديد في السودان !!.
وفي تلك الفترة , اي فترة نميري , تم الإجهاز على ما تبقى من هيبة هذا القضاء , خصوصا الفترة التي بدأ فيها النظام توجهاته الدينية . فعندما واجه رجل من العامة الرئيس نميري وشكك في اهليته لإمامة المسلمين , كان الرجل يتوقع على أسوأ الفروض ردا من شاكلة " رحم الله رجلا أهدى إلينا عيوبنا " , فإذا به يواجه بدلا عن ذلك إتهاما بـ " إهانة رئيس دولة الإسلام " ! .
وكانت تلك تحديدا هي الحقبة التي تم فيها تسخير القضاء لتصفية حسابات سياسية , جعلت الفرق بينه وبين محاكم التفتيش( Inquisition) في القرن الثالث عشر , يتلاشى تماما . فتم إعدام المفكر محمود محمد طه بتهمة الردة ( Apostasy) , وهي جريمة لم تكن موجودة في قانون العقوبات , رغم أن قاعدة لا جريمة بلا نص , قاعدة اصولية يفهمها اي طالب قانون في السنة الاولى .
وكان من نتائج تسييس الجهاز القضائي كذلك , إنتشار الظلم على نطاق غير مسبوق , وإستشراء البدع القانونية التي اتاحت للمكاشفي طه الكباشي ان يكون قاضي الموضوع وقاضي الإستئناف في نفس القضية , فأصبح بذلك مثل المفتش جافير في رواية البؤساء , رمزا حقيقيا للقهر والظلم والتشفي حيث اصدر احكاما ما انزل الله بها من سلطان . ففي قضية سرقة حدية على سبيل المثال , قدر المال المسروق ( جهاز مسجل ) باقل قليلا من النصاب , فما كان منه إلا ان سأل : هل به حجار بطارية وشريط كاسيت ؟ فلما كان الرد بالإيجاب , حسب قيمة المسجل مضاف إليه قيمة الشريط والحجار وامر بحد المتهم .! ولم يتذكر قول الرسول الكريم " أدرؤوا الحدود بالشبهات " او مقولة عمر " لأن يخطي الحاكم في العفو خير من أن يخطي في العقوبة ". ولعمري تلك سابقة لم تحدث حتى في دولة طالبان .
المفاجأة كانت في إختفاء معظم ملفات تلك الحقبة الكئيبة من سجلات الجهاز القضائي , حيث تعذر الحصول على اي ملف لمعرفة حقيقة ما جرى . وذلك ما ذكرة رئيس القضاء الاسبق مولانا / خلف الله الرشيد لصحيفة البيان الامارتية 25/5/2005 .
جاءت الإنقاذ وفي معيتها هدف واحد وهو تنفيذ برنامج التمكين(Empowerment) , وهو برنامج لا يمكن تنفيذه إلا بتصفية الخدمة المدنية والقضائية والشرطة والجيش من اي كادر لا يعتبر من اهل الثقة والمولاة. وقد اختارت الإنقاذ لتنفيذ هذا البرنامج في مراحلة الاولى اناس لا يمتون بصلة إلى الجبهة القومية الإسلامية ,. وكان من بين هؤلاء على سحلول لقيادة الخارجية وجلال على لطفي الذي اختير لرئاسة القضاء , بعد ثلاثين سنة غيابا عن السلك القضائي , وهو ما يعني بان هذا المنصب الحساس قد تسيس (Politicized) .
وبالفعل تم في ظل إدارته إحالة اول فوج من القضاة إلى الصالح العام (Pro bono public) , كما قام بتهديد قضاة آخرين عبر الصحف السيارة ! . لكن أخطر قرار إتخذه جلال على لطفي هو إستغلال سلطة الإحالة تحت المادة 26 من قانون الإجراءات المدنية , وهي مادة تتيح لرئيس القضاء سحب اي قضية من امام اي محكمة وتحويلها إلى اي محكمة اخرى يراها مناسبة .
وبالطبع لم يجد جلال على لطفي محكمة مناسبة سوى محاكم النظام العام (Public order tribunal) حيث احال لها معظم قضايا الإخلاء ( Eviction), وهي محاكم قضاتها من ضباط الجيش ( سلاح المدفعية وسلاح الإشارة وحتى السلاح الطبي!) وهم بهذه الصفة غير مؤهلين لكتابة حتى عريضة ناهيك عن تحديد وصياغة نقاط النزاع , بينما كان مكتبه سابقا يعج باصحاب العقارات . والسؤال هو : ما هي العلاقة بين تمثيل مكتب جلال على لطفي للإدعاء في اكثر من 80% من تلك القضايا , وإحالتها إلى محاكم لا يفقه قضاتها ابسط مبادئ قواعد العدالة والإنصاف (Equity)؟.
المشهد الاكثر عبثية كان في ظهور بعض المحامين للترافع امام تلك المحاكم , والإستشهاد بالمأثوات في ادب القانون المدني , من آراء اللورد أكتون في اجرة المثل (Standard rent) واللورد دينينج في الحاجة الماسة (Essential need)!!
كنا نأمل لو ان تم مساءلة جلال على لطفي تحت شبهة تضارب المصالح (Conflicting interests), ولكن لم يحدث شئ من ذلك القبيل , بل ان جلال على لطفي – بالصلاة على النبي – تم تعيينه رئيسا للمحكمة الدستورية والتي بدلا من ان تؤدي مهامها المتمثلة في حماية الحقوق الدستورية ومراقبة اداء الحكومة , فإذا بها تتورط في قضية ورثة عقار قدرت قيمته بمليون دولار , وهي الفضيحة التي فجرها الصحفي عثمان ميرغني في عموده حديث المدينة بجريدة الرأى العام قبل شهر ونصف تقريبا . ولذلك لم يكن مستغربا ان يهدد المؤتمر الشعبي بتجاوز المحكمة الدستورية وتسليم قائمة بمعتقليه إلى المبعوث الاممي , يان برونك .
واخيرا عندما يؤيد الصادق المهدي والترابي مثول المتهمين في احداث دارفور امام المحكمة الدولية , فإن موقفهما - وبعيدا عن اي إعتبارات سياسية – ياتي متسقا مع تشخيصهما للحالة المزرية (Pathetic ) التي وصلت لها هيبة القضاء السوداني في عهد الجلالين ( جلال على لطفي وجلال عثمان ) , على حد تعبير احد كتاب هذه الصحيفة الغراء .
الفاتح ميرغني
محامي وصحافي مقيم بطوكيو