تعجبني كثيرا كتابات وحوارات أحمد ضحية عن الروائي السوداني طارق الطيب ، وأنا أصر على وصفه بالروائي السوداني على الرغم من مصريته المشهودة وظروفه التي نشأ فيها وجعلت من الصعب جدا تصنيفه كسوداني أو مصري ، إلا أنها جعلت فيما يبدو ليس مهما البحث في ذلك ، أو محاولة الإنتصارإلى مصريته أو سودانيته ، أو ربما هو أيضا لا يرغب في ذلك ، ولذا سيكون من العبث ومن السخف أن نلمس هذا الموضوع حتى ولو بأطراف الأصابع ، لأن ذلك قطعا سيوجعه ويؤذيه أكثر ، إذ أن الأمر لم يعد يعنيه خاصة وقد إكتسب بسبب الغربة بعدا إنتمائيا ثالثا أكثر قوة كنمساوي سواء من خلال الزواج بنمساوية أو من خلال علاقاته وصميم تجربته في النمسا التي ينبغي أن نحترمها ونقدرها حق التقدير والتي تجد مني كل الترحاب والحب لأنه أوفى لها بوعي شديد وبعقلية متفتحة واعية ، ولذا هو يمثل حقيقة نموذجا للمغترب العربي المشرف .
كان من المفترض أن أكون أول سوداني يقوم بالتعريف بالروائي السوداني طارق الطيب ، فقد وقعت في يدي وبالصدفة ثلاثة من رواياته كانت كهدية من الصديق العزيز محمد سعيد ، وهو أيضا من الشباب السودانيين الذين دفعتهم الظروف للحياة في عين شمس وكان صديقا وقريبا من طارق الطيب وحدثني عنه كثيرا ، وأتذكر الان تلك الشوارع والبيوت السودانية في عين شمس ، أتذكر أحمد وبلبل وحاكم حسن حاكم وعثمان مسيك وطارق وماجد وخليفة وإبراهيم سعيد وعم عبدالرحمن وغيرهم من الأفذاذ الذين حفظوا السودان تماما مثلما يحفظه أمثال طارق الطيب ، قرأت الروايات الثلاثة وتركت فيني تأثيرا قويا لم يكن هناك من مجال سواء الكتابة عنهم ، ولكن ولسوء حظي كنت وقتها أكتب في صحيفة " السودان " والتي صدرت في القاهرة مؤقتا وكانت لسان حال التجمع الوطني الديمقراطي السوداني في مصر ، والتي كنا نحاول بقدر الإمكان أن نرفع من شأنها وجعلها صحيفة كل السودانيين بكل إنتماءاتهم السياسية والثقافية والفكرية , وعندما لامني أصدقائي على نشر تلك المقالات في الصحيفة غير المعروفة وطالبوا بنشرها في الصحف والمجلات السودانية أو العربية المعروفة لم أتمكن بسبب إنشغالي أكثر بالقضايا السياسية ، وقد أدركت الآن ذلك الخطأ لأني إفتقدت كل تلك المقالات ونسيبت الموضوع بسبب تطورات الأوضاع والتي أدت فيما أدت إلى هجرتي إلى كندا ، ونسيت فيما نسيت الروائي الرائع طارق الطيب ، وإذا بأحمد ضحية يعيدني إلى تلك السنوات التي عشتها في مصر خلال الثمانينات وهاآنذا سعيد جدا بكتاباته وقدرته الفائقة في التحليل والنقد والرصد وكأنما يعيدني إلى شبابي .
وأذكر تماما المقدمة التي كتبها أديبنا الكبير الطيب صالح في التعريف بطارق الطيب والتي تنم عن وعي شديد من أديبنا بكتابات مثل ما يكتبه هذا الجيل من الشباب الذي تسلح بالمعرفة والثقافة والعلم وتوظيفه من أجل ثقافة واعية وفهم صحيح للحضارتين السودانية والمصرية والإستفادة أيضا من ظروف الغربة لإنتاج عمل مفيد .
في روايته " مدن بلا نخيل " أثارني وإستفزني كثيرا بطلها حمزة إلى درجة أن شخوص طارق الطيب تشابه إلى حد كبير شخوص الطيب صالح " مصطفى سعيد والزين " على الرغم من الإختلافات الجوهرية في البناء النفسي لشخصياته ، ثم أدركت أن طارق الطيب ليس روائيا فقط بل هو شاعر ومسرحي وقاص وفنان تشكيلي ، ومن هنا تأتي أهمية الربط بين كل هذه الأنواع الأدبية الفنية وشخصية طارق الطيب والذي ترجمت أعماله إلى الكثير من اللغات العالمية .
أنا يهمني كثيرا الإحتفاء بمثل هؤلاء المبدعين وخاصة أديب وكاتب وفنان مثل طارق الطيب غير المعروف سودانيا ليس بسبب تقصير من جانبه وإنما لمحدودية إهتمامنا بكتابنا ومبدعينا ومثقفينا في المهجر وكأنما لعنة خبيثة قميئة تطاردهم بدلا عن تقديرهم والإحتفاء بهم ، وهو أمر يدعو للحزن الشديد ، وتبدو كتابات أحمد ضحية مثل نقطة في محيط ، ومن هنا أدعو أصدقائي السودانيين من كتاب وفنانين وروائيين وصحفيين للإهتمام ليس فقط بطارق الطيب بل بكل مبدعي المهجر ، أولئك الذين يحملون السودان في رموش عيونهم ويقدمونه لأصدقائهم ومعارفهم كأحلى بقعة في الأرض ، وشعبه كأروع شعب .