طلَّقها
من منا لا يحب الأطفال ؟ فهم البراءة والطهارة والنقاء وهم أحباب الله , ولكن هؤلاء الصغار يكونون في بعض الأحيان في غاية القسوة والعنف .. هل شاهدتهم يعذبون قطة صغيرة أو جرواً بربط حبل من عنقها أو عنقه ويجرونها أو يضعونها داخل جوال ويربطون الجوال وينهالون عليها ضرباً بالعصي أو الحجارة وهم يضحكون ويصيحون في لذة وسرور والضحية المسكينة تصرخ في مواء أو نباح ينضح بالألم , أو يلذ لهم أن يطاردوا مجنوناً أو أهبلاً بألفاظ مسيئة أو ربما قذفوه بالحجارة , وهم يفعلون ذلك ولا يصدرون في أفعالهم عن روح شريرة أو قصد سيئ ولكن يأتون تلك الأفعال على سبيل المزاح أو اللعب غير ملقين بالاً لعاقبة ذلك على الأشخاص الذين يؤذونهم مهما كانت العاقبة .. وأحياناً يشارك حتى الكبار في هذه المضايقات والتصرفات المسيئة .. وكان في أمدرمان شخصيات شهيرة كانت هدفاً لهذه الأفعال من الصغار والكبار , ومن هؤلاء بطل هذه الحكاية , وأذكر أنه كان رجلاً متوسط القامة في الخمسينات من العمر له لحية صغيرة كلحية المداحين نظيف الملابس وتبدو عليه الطيبة والسذاجة , ويبدو أيضاً أنه ليس من أهل أمدرمان ولكن من الوافدين حديثاً إلى المدينة ولم يكن أحد يعلم اسمه الحقيقي أو من أين أتى ولعل أحداً لم يهتم بهذا الأمر وكان هذا في الستينات من القرن العشرين . و أصبحنا ذات يوم ووجدنا هذا الرجل والكل ينادونه ب ( طلقها ) الأطفال والصبية يصيحون به في مرح وضحك (( عمى طلقها )) والكبار ممن يحتشمون إذا أدار لهم ظهره صاحوا (( طلقها )) , وإذا ركب الترام لم يعدم أحداً يناديه (( ازيك يا عمي طلقها )) , وحتى الأولاد السائرين في الشارع الذي يخترقه الترام إذا لمحوه صاحوا به ( طلقها ) و إذا مشى في الشارع (( زفوه )) الأطفال صائحين (( طلقها )) وإذا جاء إلى السوق الكبير أو سوق الموردة رحب به الجزارون والخدرجية قائلين (( خطوة عزيزة يا عم طلقها )) (( أهلاً يا عم طلقها )) , وفي كل هذه الأحوال ينتفض الرجل من الغضب و تتغير سحنته وهو يصرخ : (( مالوا لو طلقتها . ما مرتي وطلقتها )) (( آيي طلقتها _ انتم مالكم _ انتو خصاكم شنو )) , كان هذا في البداية ولكنه بعد ذلك صار يشتم الصغار والكبار بل صار يطارد الأولاد وهم يفرون منه ويقذفهم بالحجارة وهو يصيح (( الله لا ختّ فيكم بركة يا أولاد الحرام , مالوا لو طلقتها يا أولاد الكلب )) وإذا صادف شخصاً ينظر إليه صاح فيه قائلاً (( بتعاين في شنو , عايز تقولها . أوعك تقولها يا ابن الكلب )) , وأصبحت حياة ( طلقها ) جحيماً فهو في حالة دفاع مستمر عن النفس وفي حالة استعداد دائم للشجار والهجوم .. وبالتقصي عرفنا قصته وهي أنه كان محلل أو تيس كما يسمى في الشريعة وكان تيساً لامرأة طلقها زوجها ثلاث طلقات وهذه لا يستطيع أن يرجعها إليه إلا إذا تزوجت من رجل آخر ثم يطلقها و يتزوجها زوجها الأول من جديد وهذه مهمة مكروهة ومحتقرة من الناس رغم مشروعيتها تماماً كالطلاق الذي هو أبغض الحلال إلى الله وجرت العادة أن يبحث الزوج المطلق أو أهله عن رجل يقوم بهذه المهمة سراً نظير مبلغ من المال وعادة ما يكون هذا الرجل من الضعفاء المساكين ويشترط الشرع أن يدخل المحلل بالزوجة وأن تتم المعاشرة الزوجية , أو كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن المرأة طلقت ثلاثاً هل إذا تزوجت وطلقت هل تحل للأول فأجاب ( لا – حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول ) أي الرجل الثاني .
( أخرجه البخاري والنسائي وأبو داود من حديث الأسود عن عائشة )
وكان البعض يشترط على ((التيس )) ألا يدخل بالمرأة ولكن تحدث اختراقات في بعض الأحيان أو إخلال بالتعهد من جانب المحلل وذلك إذا راق المحلل للزوجة أو راقت له .. وقد كان كبار السن في أمدرمان يتداولون حكاية الجد الأكبر لعائلة معروفة في أمدرمان كان جدها محللاً فلاتياً رفض أن يطلق بعد إتمام مهمته ورفضت المرأة أن تطلق منه , وهذا يذكرني بحادثة شبيهة ذكرها شيخنا الجليل بابكر بدري _ طيب الله ثراه _ في كتابه ( قصة حياتي ) بكل صراحة ولا أستطيع أن أوردها بنصها فمن أنا حتى أجد جراءة الشيخ على التبيان والتصريح .. , وملخص القصة أنه عندما كان أسيراً بسجن الشلال بمصر وكان محارباً في جيش القائد العظيم فاتح الخرطوم عبد الرحمن النجومي ذلك الجيش الذي أرسله الخليفة عبد الله لفتح مصر وانهزم الجيش واستشهد من استشهد من الأنصار مصطحبين معهم نسائهم وأطفالهم .. قال الشيخ أن أحد بنات عائلته تزوجت من عبد وعاشت معه وعندما فكوا أسرهم وتهيأوا للعودة إلى السودان كلمه أبناء عمومته للذهاب معهم لطلاق البنت من العبد وأخذها معهم ولكنه رفض قائلاً لهم أن البنت لن تأتي معهم , وقد كان , ورجع الرجال بدون البنت بعد أن رفضت التطليق من زوجها العبد ..
أما صاحبنا ( طلقها ) حين اشتد عليه الأذى قرر الهجرة إلى بلد لا يعرفه فيه أحد , وركب قطار الأبيِّض وفي أحد المحطات الصغيرة التي يقف فيها القطار عدة دقائق وأظنها كانت أم برمبيطة ترجل الرجل من القطار حاملاً شنطته الحديد وما أن وقعت عينا ناظر المحطة عليه صاح بأعلى صوت , (( أهلاً عمى طلقها حمد الله على السلامة )) , واستدار طلقها ولحق بالقطار وهو يتحرك وقذف بشنطته داخله وركبه مبتعداً .. ولم نر طلقها بعد ذلك فربما استقر في مكان لا يعرفه فيه أحد داخل السودان أو خارجه …
هلال زاهر الساداتي
[email protected]