أطل قرنق بملابسه الجنوبية الملونة ليلقي مبتهجاً التحية على نحو مائة فقط من المستقبلين الرسميين بالمطار، من بينهم الرجل القوي علي عثمان طه النائب الأول للرئيس و مهندس انقلابات النظام على أقرب رموزه، والذي سيتخلى بعدها بساعات عن منصبه لقرنق في سابقة هي الأولى من نوعها بأفريقيا و ربما لم يشابهها عربياً سوى ما حدث بالعراق قبل أشهر عندما أصبح رئيس الجمهورية السابق غازي عجيل الياور-القادم من بين العرب السنة الذين احتكروا طويلاً منصب الرئاسة بالعراق - ليحل نائبا ثانيا للرئيس طالباني الكردي من القومية الثانية بالبلاد، يخرج قرنق من المطار في طريقه لمقر المؤتمر الوطني للقاء الرئيس البشير وقيادات الحزب الحاكم ليلقي في الطريق بالقبلات على أكثر من مليون قدموا للعاصمة لاستقباله و منتظرين من الصباح الباكر بالساحة الخضراء بالخرطوم، فوضى و زحام أدى لتهشم رأس شاب لقي مصرعه في الحال إثر سقوطه من أعلى سطح حافلة كانت تقله مع آخرين إلى مكان الاحتفال،كما توفى 4 أشخاص، وأصيب ثلاثة آخرون في حادث مروري أثناء قدومهم من الشمال لحضور احتفالات استقبال قرنق، الذي لم ينس في خطابه باليوم التالي أن يحي أرواح هؤلاء الشهداء مثلما اعتبر القتلى من الجانبين-حركته و الجيش النظامي-شهداء أيضا، و رغم دعوة التلفزيون السوداني المواطنين لتجنب الخروج يوم أداء القسم و جعل السبت عطلة رسمية لضمان سهولة تحركات الوفود الأجنبية فإن مواطني السودان من كافة قومياته خرجوا احتفالا بالسلام على جبهة الجنوب و أملاً في عودة الاستقرار على جبهتي الشرق- ولاية البحر الأحمر،و الغرب-دارفور.
شعارات عديدة في استقبال قرنق عبرت عن توق السودانيين لما هو أكثرمن الهدؤ ،منها اعتراف بما عانته الأسر السودانية شمالا و جنوبا من ويلات الحرب المتصلة فبين الملصقات صورة لأم تعمل و يبدو عليها رقة الحال،و الشعار"شكرا يا أمي"شعار آخر يحمل أحد تصريحات الدكتور و نظرياته أيضا-فهو حاصل على الدكتوراة من أمريكا حول مشروع قناة جونجلي و التنمية"لننقل المدينة إلى الريف و ليس الريف إلى المدينة"في إشارة لظاهرة النزوح الكبير من القرى و المناطق النائية بسبب انعدام التنمية و الصراعات صوب العاصمة المغلوبة على مواردها الضئيلة لحد أن تقديرات تشير لوجود 3 ملايين على الأقل من الجنوبيين بالخرطوم وحدها بعضهم يبقى للعمل و طلبا لبعض الأمان و البعض يشق طريقه منها إلى مصر حيث الطريق للمفوضية العليا للأمم المتحدة لشئون اللاجئين و برامج إعادة التوطين، في موجة نزوح جديدة عابرين المحيط لدول لكندا و أمريكا و استراليا على الأكثر،ليعملوا هناك و لسنوات الإقامة قبل الحصول على الجنسية في وظائف يعافها المواطنون كاملو الأهلية، و يتكيفون على واقع جديد،و مهما تحسنت ظروفهم بالخارج فإنهم دوما قوة مخصومة من ثروات بلادهم البشرية، فمن يعبر المحيط لا يعود، على حد قول أحد الساسة السودانيين.
و بالمقابل رفعت اللافتات المرحبة بقرنق مطالبات تعكس حجم الأمل الشعبي الذي قد يكون أكبر من قدرته وحده على تحقيقه دون دعم جاد من المجتمع الدولي؛إذ جاءت إحدى العبارات تقول"دارفور دارفور يا دكتور" أي لا تنس دارفور!!!، و"لا تهميش بعد اليوم"أو "لا سودان بدون دارفور"أو"لا للحرب على المهمشين بعد اليوم"أو عبارات الأمل الذي لازال يراود السودانيين في توقف عجلة الحرب إلى الأبد مستعيرين عبارة قرنق الأثيرة "نحو سودان جديد"و التي ينطقها دائما بالعربية المكسرة-لهجة أهالي جوبا عاصمة الجنوب، و بطريقته الخاصة يلفظها "الـ نيو سودان".
في استقبال قرنق أيضاً كان يمكن أن تلاحظ طلبة الجامعات-حيث الحركة الطلابية بانتخاباتها القوية و فعالياتها الجادة من أقوى الحركات بالمنطقة و تصور دوما أنها معمل تفريخ لكوادر الأحزاب - طلبة من كل بقاع الدولة يرفعون صور الدكتور حسب لقبه هنا،و عليها بلا حساسية رمز الحركة الشعبية لتحرير السودان SPLM..
عكس الحضور الأفريقي المكثف لمراسم التوقيع على الدستور و قسم اليمين مفارقة مع الدول العربية التي لم ترسل مندوبين على مستوى عالٍ لحضور الاحتفال فالسعودية أرسلت وزير داخليتها ! بينما أرسلت مصر رئيس وزرائها الذي وصل للقاعةقبل دخول البشير و لسبب ما-بروتوكولي في الغالب-لم يحالفه الحظ بالدخول معه،و تحدث أنان أمين عام الأمم المتحدة و أكمل كلامه المتفائل بأن رقص لاحقا مع قرنق خفيف الظل و الحركة معا، و كان من بين كلمات قرنق ذات الدلالة أن السودان سيصبح نموذجا للديموقراطية في القارة الأفريقية التي تطحنها النزاعات القبلية و الطغم الديكتاتورية،و هو ما لاقى ترحيبا من المسئولين الأفارقة.
أما أمين الجامعة العربية الذي لم يلق أي كلمة بالحفل فقد جلس في مقعد طرفي بالصف الأول و تذكرته الكاميرات بلقطة سريعة بدا فيها متأملا أو متململا واضعا يده على خده، بينما كانت نظارته السمراء قابعة في مكانها على أعين ربما طالها الإرهاق..
هكذا بدت الصورة، لكن خارج مقارالفرح تبلورت أولى مشاكل السلام و التي بدأت قبل وصول قرنق حيث اعترضت القوات السودانية النظامية قوات قرنق العائدة من معاقلها متجهة للخرطوم لتوقفها على بعد 20 كلم من الحدود الإريترية عند منطقة قشم القربة، و يفسر المراقبون تصرف حكومة الخرطوم باعتقادها أن قدوم هذه القوات من الشرق برا يعطيها شكل "القوات الفاتحة"-رغم أن زعيمها استقبل على هذا لأساس من قبل البعض- وأن الأسلحة التي تحملها هي لـ10 آلاف جندي وليس1500 حددهم اتفاق قرنق مع الحكومة، و أن على هذه القوات القدوم للبلاد جواً و بأسلحتهم الشخصية فقط،و لازال الأمر لم يحل بعد بل و توفي من بين المنتظرين قائد قوات الحركة الشعبية في شرق السودان الرائد محمد أبكر يانس في مستشفى مدينة كسلا بالشرق بمرض الحمى، و هو تطورات تتطلب الإسراع بحل هذه المشكلة لأنها على التماس و يقف فيها طرفان تحاربا لعقود و كل يحمل سلاحا لم يصمت ضد الآخر سوى سنوات أربعة مع مناوشات بين الحين و الآخر.
معضلة أخرى تنتظر قرنق و هو موقف من لازالوا يعارضون البشير من فصائل داخل أو خارج التجمع السوداني، صحيح أن قرنق دعا حزب الأمة للصلح بلهجة محايدة بدا فيه بالنسبة للمتطيرين أنه لا يريده أن يفعل مدخرا إياه لاحتمالات فشل السلام، و صحيح أن الحزب الشيوعي الذي التقى زعيمه محمد إبراهيم نقد(الظاهر للعلن بعد طول اختفاء اختياري!) بالرئيس البشير شخصيا قد دعا أنصاره و محبيه لحسن استقبال قرنق، لكن موقف الحزبين بالإضافة لحركة القوى الديموقراطية - حق لازال معارضا،و ينتقد بعض بنود الاتفاق الذي أبرم مع قرنق بدعوى عدم شموله كل مشاكل السودان و عدم التزامه بكل مقررات اسمرا- و هو المؤتمر الأشهر الذي تلاقت به المعارضة السودانية عام1995 على مطالب من نظام البشير - الترابي وقتها، ها قد أتينا للترابي المطلق سراحه: يبقى محيرا الهجوم الذي وجهه لقرنق أخيرا، إذ حذره من الفساد و الافتتان بالسلطة،ومكمن الحيرة أن يأتي مثل هذا التحذير من شخص كان في قمة السلطة الفعلية بالبلاد و بارك التعذيب الوحشي لمعارضي النظام وقتها و شن باسم الإسلام حربا سماها جهادا ضد قرنق و الجنوبيين، ثم هناك الفتوى الاسلامية التي خرجت فور وصولهه للخرطوم بتحريم الانضمام لحركته رغم أنه أعلن أنه سيكسب بالشمال أضعاف مناصريه بالجنوب..
عقبات و تحديات أمام قرنق، الذي يبدو جادا حسب كلمته في حفل تنصيبه نائبا أول للرئيس الانتقالي، و رئيسا لحكومة الجنوب، كلمته التي كانت بمثابة برنامج عمل أكثر منها مجاملات و كلمات رنانة، و يرى متفائلون أنه سيعمل قصارى جهده لتمر السنوات الست الانتقالية بأكبر تنمية ممكنة لولايات الجنوب و بحل لمشاكل معلقة في اتفاق القاهرة خاصة المناطق التي سينظر في وضعها الإداري- لكنه في كل الأحوال سيكون محظوظا إذا نجح مسعاه حتى لو صوت الجنوبيون في نهاية الفترة لصالح الانفصال، فقد صالح غرماءه - و ليسوا بقليلين- في الجنوب عندما أتى لهم بالسلام و بوعود التنمية،و قدم نفسه للشمال و للعالم كمحارب صاحب هدف، و ليس متمردا للتمرد في ذاته.
- كاتبة مصرية