منذ أن قام المحاربون الدراويش باقتحام القصر وقتل سيده ، اختبأت الفتنة في أركانه ، لكنها لم تنم أبدا مثل ما قيل عنها ، وسب الناس اللعنات على المتهم بإيقاظها .كان ذلك في جانيور من عام 1885م ، والقصر هو القصر الرئاسي الذي يحمل اسم ضحية الدراويش الغرابة (غردون باشا) ويقع في المدينة شبه العاصمة بالسودان (لخرطوم) أو جوهانسبورغ السودان كما يدلعها البعض. وقد عاشت الفتنة به تنشر رعبها في قلوب أبناء الشعب خارج نطاق القصر طوال حقب ما بعد مصرع جوردون ، ولقد لبست جلد كل من أتى القصر حاكما ، من لدن الحاكم العسكري المتعجرف اللورد كتشنير إلى الجنرال الراقص الحاكم العسكري الحالي .
بين اللورد والجنرال وصال شبه ، كلاهما أقام مجازرا في الشعب وسفك الدماء غير أن كتشنر اللورد كان هدفه انتقاما لأسلافه الانكلتار الذين قتلهم الثوار السودانيين المهدوين اؤلائك الملقبين (بالدراويش الغرابة) ، أما أهداف الجنرال الراقص فمجهولة للجميع ولا يعلمه إلا قليلا وربك اعلم بما في صدورهم .
أقام اللورد الصروح العالية ككلية غردون الجامعية – التي صارت جامعة الخرطوم - تقليدا لذكر سلفه جردون، و إعادة تشيد القصر الرئاسي أيضا ، وهو يعلم أن ذلك وشم في وجه التاريخ تسب لحساب امبراطوريتهم التي كانت لا تغيب عليها الشمس مجدا وخلودا في الحياة الدنيا ، وذلك أيضا في مصلحة الشعب البريطاني فلقد قلص فارق الاستعمار . ولم يغادر كتشنر اللورد وخلفائه القصر المنيف إلا وقد تركوا وراءهم من الخير ما لا ينفد لمستعمريهم.
أما الجنرال الراقص وجنرالات سكان قصر غردون خلفاء سيدهم كتشنر فان تركوا شئ يذكره لهم التاريخ فقد خلفوا إرثا من الدمار والتشرد في الأقاليم والحواضر ، والفساد في القصر عظيم ، وذلك على حساب شعب السودان .
حمل المحاربون الدراويش من القصر الرئاسي رأس الضحية فقط ، وقد فضل الإمام المهدي أن يستقر في البقعة لقب مدينة (أم درمان) الواقعة على الضفة الغربية للنهر الأبيض بديل عن القصور في الخرطوم الفارعة ما بين النهرين ،وهو تقليد لم يرثه عنه أحد من بنيه المهدوين الأحفاد .
وفي البقعة حط المحاربون الغربة من جيشه الرباني أرحلهم ، وعاشوا بها حتى اليوم ، وقلده رئيس الدولة من بعده الأمام عبد الله الخليفة.
ولعلى لعنة الله قد حل بجوانبه ، ولك أن تقل أنه مأوى الفتنة إذ شكل القصر الرئاسي مصدر الظلم والفساد فلم يدخله للحكم رجل إلا طغى تفرعن، وعلى ذلك لطينة الداخلين إليه ، ولقد كثر ساكنوه العسكر على شاكلة غردون على غيرهم من غير العسكر.
و بناء قصر غردون الرئاسي في الخرطوم يعد من أروع الأبنية في العالم ،فبجانب إطلالته الرائعة على ضفة النهر الأزرق اعمق الأنهر السودانية أجملها ، تقع خلفه حديقة كلفت الملايين في تشيدها، وجلبت الأقلية الحاكمة اليوم إليها من شتى بقاء العالم أصناف الورود مشكلة الأزهار مختلفات ، والأشجار النادرة ، من مدغشقر والهند وجزر القمر وأمريكا الشمالية والبرازيل ، كما يقول مسئول الحديقة التابع لسلك المراسم بالقصر لتزرع بالحديقة، ويباع سرا أيضا في أسواق الحدائق الخاصة بالطبقة الأرستقراطية بالخرطوم بواسطة موظفين فاسدين.
يهتم سكان القصر كثيرا بمواصلة المعارك ضد المقاومة على طول الجبهة الغربية إلى إقليم دارفور في فترة زمنية امتدت إلى عشرين عاما في السابق ، وخمسين عاما في القريب. وهي مجازر موصولة بكرري المزبحة وشقيقتها ام دبيكرات التي تعد أروع مشاهد يمكن أن يتخيله العقل البشري عن التراجيدية الصامتة قل مثله في التاريخ وقد أعادت دارفور تنشيط ذاكرتنا عن تلك المناظر .
يشعر السودانيون جميعا بالأسى والحزن لدى ذكرى تلك المجازر الجماعية في القرن التاسع عشر عدا سكان القصر ، فقد كان الشعب ينتظر من أي ساكن جديد بالقصر أن يبدي استعداده لمطالبة مملكة الانكلتار الحديثة إصدار اعتذار رسمي لشعب السودان عن استعمارها ونهبها لهم على غراز مطالبة الثوار الفاتحين في ليبيا لدولة إيطاليا عن جرائم العهد الفاشي ، وقد سارت على نهج ليبيا دول أخري يحكمها رؤساء ذو همم وعزة .
وكان منتظر من سكان قصر غردون في الخرطوم أن يطالبوا مملكة انكلتار الحديثة أيضا بتعويض اسر ضحايا مجازر كرري وأم دبيكرات على غرار تعويضات ضحايا مجازر الاستعمار والعنصرية كالنازية في ألمانيا ومحارق هولكوست ،لكنهم منهمكين في ترميم و تزين جنبات القصر وبناء حدائقه الغناء في وقت تطال الخراب جنبات الدولة وحياة المواطنين.
بل الشعب ينظر أن من يسكن القصر يصدر العدل والمساواة بينهم كقيمة أساسية في الحياة المثلى للشعوب مناظرة للظلم والقهر التي تميز بهم القصريون.
إن بناءه وتزينه يأتي بلا شك على حساب أبنية أخرى في السودان أهمها الأخلاق والقيم في النفس الآدمية ، ومن يشاهدون قصر غرودن الرئاسي عبر التلفاز أو من يزوره من يزور الخرطوم يسعه الاعتقاد أن السودان كله ليس مهتم به ورعاية شعبه وصون آدميتهم قدر اهتمام الحاكمون بمظهر القصر البزخي واخفاء الفساد بداخله .
أما لماذا لم يتمكن أي من سكان قصر غردون الخرطومي بمطالبة مملكة الانكلتار طوال الفترة بتلك المواقف الوطنية، يعتقد الكثير أنه لا أحد ممن دخل القصر حتى الآن كان له صلة بضحايا معارك احتلال السودان أو معارك الاستقلال السودان ، المجيدة كليهما والمجد لشهدائها .
المنطقة الشمالية -وهم غالبية سكان القصر –والعناصر الأكثر أثرا فلدليل انه طوال حياة تلك المخلوقات لم تخرج ثورة بها ضد مستعمر أو طاغية قبل وبعد المستعمرين البيض ، ولقد كانت مهنة سكان تلك الأمصار -كما جاء في الأثر - هو ( القوادة والارتزاق) في العهود الظلماء ضد الدولة السودانية وضد الشعب السوداني .
وان يكن قراءتي التاريخي للوضع السياسي السوداني الراهن خاصة فان العوام يتفقون مع تلك القراءة في موضع أن خلفاء الانكلتار في القصر هم من أحفاد اؤلائك القوادين.
يوم دخول ال ديمابيور إلى قصر غردون في التاسع من جوليه يحسبه التاريخ في ذاكرته انه يوم مهم لكنه لن يكون اليوم النهائي في عذابات الموطنيين السودانيين . فال ديمابيور يعد أول رجل يعبر عتبة القصر إلى الداخل بعزة عزيز ، ويشهد اليوم فتحا جديدا للقصر الرئاسي ، فقد كان الفتح الأول يوم سقوط ساكنه الأول علي حراب المحاربين الدراويش قبل قرن وربع القرن مضى .
لقبل عامين فقد كانت عدة سيناريوهات مطروحة لدخول القصر وكان أبرزها خيار أحفاد اؤلائك الدراويش الغرابة الناشطين اليوم في إقليم دارفور ، أن يكون مصير من يسكن القصر بظلم مصير غردون، وكانت الاحتمالات متوفرة لتنفيذه - ولا تزال!!- لولا لطف ال ديمابيور به ورحمتهم بشركائهم اللحقين.
وطالما شهدت باحة القصر وحديقته احتفالات وكرنفالات تأخذ وصف العنترية والاسترجال ولكن احتفالا ستذكره الأيام أبدا هو احتفال وقوف السيد دي مابيور بها .
كل رجل خالد يجب أن يخلد له ذكراه بحجم مكانته في قلوب الشعب، علمت أن رمبيكا وضعت له رمزا تخليدا لذكراه يوم وصل جان قرنق قصر غردزن . والأمم الحية هي التي لا تنسى رجالها وعظمائها الذين صنعوا لها المجد والخلود ، في شوارع عاصمة الضباب ومدنها تمتد رموز حية لعظماء المملكة المتحدة في الشعر والأدب والسياسية والحروب ، وكان كتنشير أحد تلاميذ تلك المدرسة حرص من القصر على أهمية تخليد رمزية جوردون بالنسبة لبريطانية ، وهو عمل لافت لو أن سكان قصر غردون اللاحقين كان لهم حياة أو همم لوضعوا لشهداء معارك الاحتلال والاستقلال أبنية تذكارية على وزن كلية غردون . لكن حين تتجول في زوايا هذا النص يتأكد الإحساس الذي لديك كل مرة انه ليست ثمة روابط جامعة بين اؤلائك الشهد الأبرار في كرري وبين سكان قصر غردون ، ربما بينهم العداوة المرة ، العداوة بين الأموات الأحياء لما صنعوه لشعبهم والأحياء الأموات لما صنعوه في شعبهم أيضا.
وحين ينزع القناع عن الوجه المخفي لهذه الدولة طوال فترة الخمسين عام الماضيات سينجلي عن الذين دخول القصر التزيف ،لتبدي صور حقيقة عنهم انهم كانوا اقرب الشبه بالرجال وليسو رجالا ، فقد كانت أثمانهم ابخس من ثمن أثاث حماماته ، وقد كانت أيضا هتافاتهم وكلمتهم أغاني تزيف طعم الليمون حين تسمع أصل الحكاية .
ولربما ديمابيور الرجل الوحيد الذي يرتفع قدره السياسي عن أقدار السابقين له من داخلين القصر، ولكنه ليس أفضل منهم كثيرا إن لم يتحقق أمران :
الأول : إذا لم يكن له ما يستحق أن يذكره بين الراقدين تحت ثرى جبال كرري من الشهداء الذين وصفوا بأنهم الرجال ، ولم يتمكن من ذكرهم على أنهم آباء الاستقلال الحقيقيين.
والثاني : منتظر أن يعيد الكولونيل دي مابيور دخوله نهائيا لكن بعد نتيجة انتخابات حرة مباشرة.
وطالما شهدت حديقة قصر غردون اتفاقات واحتفالا بإتفاقات من لدن أديس أبابا 1973 إلى اتفاقية الخرطوم للسلام في 1998 وكلها انتقضت بيد سكان القصر ، وهو مصير محتمل للاتفاق الذي تم الاحتفال بتنفيذه في الحديقة اليوم.
قد يكون من ابرز الأجندة على جدول أعمال ال ديمابيور سكان القصر الشركاء الجدد هو العمل على بسط الحريات مثلا ، و القضاء على العوز والفوارق في المجتمع ، وتحقيق الديمقراطية ، إلا أن أهم ما يجب أن يكون في خطة العمل شيء واحد هو فتح أبواب القصر على مصراعيها من الداخل بقدر يسح بدخول كل أهل السودان إليه وخروجهم في حرية . حتى يصير القصر الرئاسي السوداني بدل من قصر غردون الرئاسي، وهي مهمة في غاية من الجدية والخطورة.
وحينما يتمكن السودانيون من إمكانيات العمل الجماعي بقدر من الحرية والمساواة في أعلى المؤسسة بالدولة ( القصر الرئاسي ) تتعزز قيم الوحدة الوطنية وتمنح للدولة شهادة الطمأنينة والسلام.
منعم سليمان