السودان
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام

الإنقاذ في عيدها السادس عشر – ثم ماذا بعد السلام؟. بقلم خليفة محمد الطيب التكينة- المحامي

سودانيزاونلاين.كوم
sudaneseonline.com
7/1/2005 12:25 ص

بسم الله الرحمن الرحيم
الإنقاذ في عيدها السادس عشر – ثم ماذا بعد السلام؟.
بقلم/ خليفة محمد الطيب التكينة -المحامي.
ارتفع مؤشر الحالمين بسودان النمو والرفاه إلى أعلى درجاته بعد لحاق
التجمع الوطني بركب التصالح والسلام وتضاعف عدد المتفائلين بقدوم الخير الوفير
الذي يسع الجميع أيما تضاعف،فالحرب في الجنوب قد وضعت أوزارها،وتوافقت الأطراف
كلها بلا استثناء على ضرورة الوصول لتسوية بشأن مشكلتي الشرق والغرب،وتغنى
كثيرون مع وردى (وطن حدادي مدادي ما بنبنيهو فرادي) وهم يستقبلون تباشير العيد
السادس عشر للإنقاذ،إلا أنني على رغم هذا التغني وهذا التفاؤل والتباشر وجدت
نفسي أردد مع أبي الطيب المتنبي قوله:
عيدٌ بأيةِ حالٍ عدت يا عيد ** بما مضى أم لأمرٍ فيك تجديد.
كثيرون هم الذين توهموا بأن هناك جديداً قد ينهض بالسودان من كبوته،وكثيرون
هم أيضاً الذي ظنوا بأن ما جرى من تطورات سياسية سيؤدي حتماً وبتلقائيةٍ مباشرة
إلى حل مشكلات المواطن السوداني التي تتجسد في توفير لقمة العيش الكريم
والعناية بصحته وتعليمه إلى آخر هذه الضروريات التي اكتوى بنار غلائها إلى أن
أصبحت في نظره تندرج في باب الرفاه والكمال.
إلا أن من يطرد عن النفس ثورة الحلم والوهم ويحلل الأمور بموضوعية وينظر
إليها بعينٍ ثاقبة فإنه لا محالة سيصل إلى نتيجة مؤداها أن آثار السياسات
الخاطئة لن تمح بالتغني ولن تزال بالأماني الكواذب ولا بالآمال العِذاب،ذلك أن
هذه الآثار السالبة قد ظلت في تراكم دائم منذ فجر الاستقلال حتى يومنا هذا
وتوارثناها جيلاً بعد جيل حتى أحالت حياتنا إلى مسخٍ شائه انقطعت صلته بسذاجة
الطبع والفطرة وما استطاع اللحاق بركب المعارف والتخطيط الحداثي فصرنا لا إلى
هؤلاء ولا إلى هؤلاء كأهل الأعراف معلقي المصير ،وأخذنا نخذ السير في دوائر
التيه والإحباط إلى أن تخدرت عقولنا بمسكنٍ جديد اسمه حكومة الوحدة الوطنية
والسلام المرتقبة.
وإنني في هذا الصدد لأعتقد مثل اليقين في نفسي بأن الحكومة ذات الألوان
المتعددة المتداخلة المتوقع تشكليها قريباً لن تحل من مشكلات المواطن الجوهرية
شيئاً ما لم يعاد النظر في التضخم الذي صارت إليه هي نفسها في تصور القائمين
على الأمر.
ولكي أكون أقرب للواقعية في تكهني هذا عليَّ أن الفت الأنظار إلى تكلفة الصرف
على هذه الحكومة وعلى اللجان الكثيرة المنبثقة من اتفاقيات الصلح والتعاهد التي
جرت أخيراً إلى جانب تكلفة المجلس الوطني والمجالس التشريعية الولائية التي
بلغت ستة وعشرون مجلسا،فهذه التكلفة بلا شك ستكون عالية جداً وقد تبتلع النصيب
الأكبر من الميزانية العامة ومن ثم لن يتبقى للقطاعات الخدمية التي تهم المواطن
إلا نزراً يسيرا،فضلاً عن تكاليف الصرف غير المباشر على أهل السياسة الكثر
الذين لا مهنة لهم إلا السياسة،فقل لي بالله عليك ماذا يتبقى للقطاعات الخدمية
ونحن نحمل الميزانية العامة مخصصات ما يزيد على ثلاثين وزيراً اتحاديا ومثلهم
من وزراء الدولة ومستشاري رئاسة الجمهورية،إلى جانب الصرف على حكومات ستة
وعشرين ولاية لا يقل عدد الوزراء في كل واحدةٍ منها عن ستة وزراء وفق قانون
الحكم الاتحادي مضافاً إليهم الولاة ونوابهم،وإذا ذهبنا نجمل هذا العدد سنكتشف
أن هناك بلداً أسمها السودان يصل عدد الوظائف الدستورية فيها على مستوى الوزراء
ما يقارب الثلاثمائة وزيرا،فقلي لي بالله عليك ماذا يتبقى للمواطن من الموازنة
العامة بعد استقطاع مخصصات كل أولئك الوزراء مضافاً إليها مخصصات المجلس الوطني
والمجالس التشريعية الولائية في ظل هذه الموارد المحدودة التي تعتمد كلياً على
دافع الضرائب،والغريب في هذا الصدد أن حكومة السودان استجابت لتوصيات صندوق
النقد الدولي ووصفاته كلها وطبقتها بحذافيرها في شتى ضروب الحياة الاقتصادية مع
التجاهل التام لوصفات ذات الصندوق فيما يتعلق بمعالجة التضخم الإداري للدولة
والذي ينطوي على بطالة مقنعة واضحة للعيان ولو أنها تذررت بالأوصاف والمسميات
الدستورية والتشريعية،مع أننا نعيش في بلدٍ يهيم فيها الخريجون من الأطباء وفني
المختبرات على وجوههم يعانون البطالة والتشرد مع حاجة المجتمع الشديدة لخدماتهم
وغيرهم كثير في كافة القطاعات التي تخدم قضايا التنمية،فهل يا ترى هناك من مبرر
مقبول لقلب ترتيب الأولويات على هذا النحو الذي تعتزم حكومة الوحدة الوطنية
القادمة انتهاجه وهي تقارب هذا التضخم الإداري الخطير؟ أعتقد أنه لا يوجد أي
مبرر موضوعي مقبول،لكنها الترضيات السياسية ونزاعات المصالح التي دوماً تجري
تسويتها على حساب المواطن الضعيف.
من جانب آخر فإن هناك تحدياً خطيراً أيضاً ينتظر الحكومة القادمة وهو
التصدي للفساد الذي استشرى في كافة نواحي الحياة فشوهها أيما تشويه،وفي ظني أن
التصدي لهذا الفساد لن يتأتى إلا بخلق الظروف الجيدة -التي تجعل المواطن يتأفف
عن مواطئ الخسة والدناءة- سواءً كانت تلك الظروف تربوية تضبط الإنسان من داخل
نفسه أو خارجية من مثل آليات الشفافية ووسائل المحاسبة إلى جانب السعي لتوفير
الحياة الكريمة التي تحصن المواطن ضد دواعي الإفساد والشهوة،ولا شك أن هذا
التحدي يوجب إعادة النظر في مناهج التربية والتعليم لما لها من تأثير في تشكيل
الوعي الاجتماعي مع السعي قدر المستطاع لتوجيهها نحو غاية خلق العقلية
المتسائلة التي تكسب المواطن المقدرة على معرفة حقوقه وتكسبه إمكانية التمييز
بين الاستعباط السياسي وبين الأطروحات السياسية التي تخدم قضاياه الجوهرية،إذ
لا شك أن للوعي أهميته في إصلاح الحياة السياسية وتطورها نحو الأفضل،فعلينا أن
نأخذ منه بنصيب حتى لا تنطبق علينا مقولة فولتير ( إن شعباً من الخراف لا محالة
سيوجد حكاماً من الذئاب).
وفي باب التصدي للفساد هذا يحضرني توجيهٌ جميل ورد في خطاب وجهه الأستاذ
محمود محمد طه إلى الرئيس جمال عبد الناصر عقب ثورة يوليو يقول فيه ( فإن أردت
أن تلتمس أسباب الفساد فالتمسها في هذه الحياة المصرية في جميع طبقاتها وجميع
أقاليمها،تلك الحياة التي أقامت أخلاقها على قشور الإسلام أو على قشور المدنية
الغربية أو على مزاجٍ منهما،وأنت لن تصلح مصر أو تدفع عنها الفساد إلا إذا
رددتها إلى أصول الأخلاق الصافية حيث يكون ضمير كل رجلٍ عليه رقيبا)أ.هـ،
فللأسف أننا بالفعل أخذنا من الإسلام قشوره وانتبذنا عدالته وما فيه من مبادئ
الرحمة والتكافل وأخذنا من الحضارة الغربية ثقافتها الاستهلاكية مع الإعراض عن
قيم الحرية والديمقراطية والشفافية والمحاسبة ففسدت حياتنا بذلك أيما فساد.
أما إذا دلفنا تلقاء تحدٍ آخر من التحديات التي تنتظر حكومة الوحدة الوطنية
القادمة وهو تحدي الإصلاح الاقتصادي والنهوض بالتنمية،فإننا نعتقد أن الاقتراب
من هذا الموضوع لن يكون ميسراً كما يتصور البعض ذلك أن نهج الخصخصة والحرية
الاقتصادية الذي انتهت إليه الإنقاذ لن يفلح في حل المشكل الاقتصادي خاصةً
وأنها وقفت موقف المتفرج لتلعب دور الدولة الحارسة التي لا يهمها إلا إدارة
نفسها وجباية الضرائب،ولا أدل على هذه السلبية من الظلم الواقع على المنتج
الحقيقي "الزراع والرعاة" لمصلحة الطفيليين والمتسلقين ممن ينتمون إلى فصيلة
السلعلع وجنس الفهلوة الأمر الذي أدى إلى تمايز اجتماعي معياره الفارق الثروة
والغنى وهذا هو بلا شك النتاج الطبيعي للحرية الاقتصادية المطلقة في كل بلاد
الله مما ينبغي معه أن تتدخل الدولة بصورةٍ قصدية لتلافي هذا النتاج المر،لأن
ترك الأمر لحرية السوق في بلدٍ لا توجد فيها إمكانات تنافسية جيدة سيؤدي حتماً
إلى تفاقم الأزمات في هذا الباب،هذا إذا ما علمنا أنه حتى الدول التي بها
قدرات اقتصادية تنافسية جيدة ظلت هي الأخرى تعاني من تفاقم الفوارق الاجتماعية
الناتجة من تباين توزيع الدخل والثروة،فقد ورد في تقرير للكونغرس الأمريكي
مؤخراً ( أن عائدات مليونين ونصف مليون من الأغنياء تساوي مجموع عائدات مائة
مليون مواطن من القابعين في أسفل السلم الاجتماعي)،فإذا كانت هذه هي نتائج
الخصخصة في بلدٍ تعتبر أم الرأسمالية الغربية الحديثة فتصور ماذا يكون حالنا
نحن المستجدين في هذا الأمر الشائك الخطير.
ومما لا شك فيه في هذا الصدد أن الإصلاح الاقتصادي لن يتأتى إلا بوضع سياسات
قصدية تتدخل بها الدولة للحد من المضاربات الطفيلية في شتى ضروبها مع توجيه رأس
المال نحو الإنتاج الحقيقي الذي يجني المواطن ثمراته سلعاً وخدمات لا تضخماً
يفيد منه الطفيليون في مضارباتهم على حساب المنتج الذي قد يتخلى عن الإنتاج يوم
يتضح له أن إنتاجه لغيره وأن كسبه غنيمة للمضاربين والطفيليين.
أما أسلوب الخصخصة والاقتصاد الحر مع الاقتراب الخاطئ على النحو الذي انتهجته
الإنقاذ فإننا لا نعتقد بأي حال أنه سيحل إشكال البلاد الاقتصادي أو يرفع
المعاناة عن كاهل المواطن البسيط لأنه بلا شك سيفاقم من إفقار الطبقات ذات
الدخل المحدود التي تعمل على بند الأجور وهم السواد الأعظم من الشعب،ومن ثم
سيركز الثروة في أيادٍ قليلة معدودة ونعضد ما ذهبنا إليه في هذا الصدد بما ورد
على لسان جيمس جوستاف رئيس برنامج الأمم المتحدة السابق من قوله ( إن العالم
النامي ضحية لأسطورة غربية هي الإيمان بأن القطاع الخاص يمثل البلسم الشافي
العالمي) نقلاً عن روجيه جارودي في مؤلفه " أمريكا طليعة الانحطاط"،وقد ورد في
ذات المؤلف ما نصه ( لا توجد علاقة في الواقع بين حاجات دولة والاستثمارات
الخاصة المباشَرة في تلك الدولة فالتخصيص أو الخصخصة والتحرير ورفع القيود هذه
الكلمات هي التي ستلعب دور المفاتيح السحرية في قاموس الليبرالية في نهاية هذا
القرن من الزمان والتي يفترض أن تقودنا إلى التنمية ولكنها في الحقيقة تنمية
مصحوبة بأكبر فقر وظلم اجتماعي،هذا إلى جانب بطالة لا تكف عن التزايد) روجيه
جارودي.
هذه هي نتائج الخصخصة والحرية الاقتصادية في رأي أهل الفكر الموضوعي
الحر،وهذه هي إفرازات قانون السوق في بلادٍ هي مبدعته مع التجربة له سنين
عددا،ومع وجود النقابات وجماعات الضغط الفاعلة،فكيف بنا نحن المقلدة الذين لا
نملك من وسائل توازن القوى ما يلجم جماح الرأسمالية المقيتة،كيف بنا ولسنا لنا
من الأمر إلا انتهاج المحاكاة والتقليد مع إلغاء الذوات والعقول،فلو دخلوا جحر
ضبٍ لدخلناه معهم كما ورد في الحديث الشريف،والعيب فينا أننا أينما اتجهنا
ركبنا تيار المغالاة واطرحنا الوسطية السمحة ولوينا الأعناق عن تلقاء الاعتدال
والاتزان،فإما اشتراكيين حتى النخاع وإما رأسماليين حتى الثمالة،لا نعرف
المنزلة بين المنزلتين أبداً كأننا ما سمعنا الدعوة إلى الاعتدال قراءناً يتلى
وقواعد مرساة من سلف هذه الأمة،فقد نقل عن الإمام الشوكاني عليه رضوان الله أنه
قال ( إن الحق بين المقصر والمغالي والصواب في التوسط بين حالتي الإفراط
والتفريط)،فأين نحن من ذلك يا ترى؟.
وختاماً فإننا نرى مع آخرين أن الحرية الاقتصادية المنتهجة في سودان اليوم
على هذا النحو من الإفراط ما هي إلا احتكام إلى قانون سوق يسير كما قال هوبز في
فجر الرأسمالية بمنطق "حرب الكل ضد الكل"،ولا شك أن نظام السوق بلا ضوابط في ظل
منافساته التي لا تعرف غير المصلحة الخاصة لهو في الحق منطق وقانون الحرب ذاته.
وعند خاتمة المطاف لا يسعني أمام هذه التحديات الكثيرة التي تنتظر حكومة
الوحدة الوطنية والسلام إلا أن أردد مع أبي الطيب المتنبي قوله:
عيدٌ بأيةِ حالٍ عدت يا عيد ** بما مضى أم لأمرٍ فيك تجديد
أما الأحـبة فالبيداء دونهم ** فليت دونك بيداً دونـها بيد
والله ولي التوفيق وهو الهادي إلى سواء السبيل،،،

خليفة محمد الطيب التكينة- المحامي

للمزيد من االمقالات

للمزيد من هذه الاخبار للمزيد من هذه البيانات و المنشورات
الأخبار المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع


| اغانى سودانية | آراء حرة و مقالات | ارشيف الاخبار لعام 2004 | المنبر العام| دليل الخريجين | | مكتبة الراحل على المك | مواضيع توثيقية و متميزة | أرشيف المنبر العام للنصف الاول من عام 2005

الصفحة الرئيسية| دليل الاحباب |English Forum| مكتبة الاستاذ محمود محمد طه | مكتبة الراحل المقيم الاستاذ الخاتم عدلان | مواقع سودانية| اخر الاخبار| مكتبة الراحل مصطفى سيد احمد


Copyright 2000-2004
SudaneseOnline.Com All rights reserved