ما أختلف الإسلاميون أو تفرقت بهم نائبات الدهر شرقا وغربا إلا تولدت من بنات أفكارهم رؤا أضاءت ما حولهم فبددت للتابعين ظلمات سيطرة السلطان، وجبروت قوته المادية، وتدور السنين والأيام دون أن تمحو لهم ذكرا، فتتناقل الأجيال خلاصة ما تركوه دليلا للسير دون الآخرين.
إن اقتبسنا في هذا المقال عنوانا شاهدا لأحد أولئك الأفذاذ كالعلامة الجزائري مالك بن نبي الذي ساق نظريا شروط النهضة بدراية تامة إستصحب معها سوابق الزمان ومحدثات العصر. فقد نجح الشيخ الترابي في قراءة أفكاره وغيره من العلماء السابقين ثم أسبغ عليها نظريته التي تشرق كل يوم بجديد في سموات بلادنا.
الذين حظوا بمرافقة الترابي اختلفوا أو اتفقوا معه، شهدوا وتأثروا بأوجه حياته وممارساته في السياسة والحكم تدينا ورشدا، لم يدع مجلسه أحدا إلا ودارت في خلده أبعاد دعوته القاصدة إلي الله، فمنهم من أصبغها بدنيا عاجلة بنعمها وزخرفها ومنهم من نظر آجلا يرنو إليه دون أن يتزحزح قلبه عن مقاصده السامية ولو طرفة عين.
لقد فرقت بين أبناء الشيخ الترابي في بلادنا قضية الحكم التي ما قصدتها الحركة الإسلامية السودانية إلا لثلاث أولها: التمكين لقوة الدولة الراشدة وشحذ سواعد بنوها إعلاءا لقيم الحق والدين. ثانيها: تفجير طاقات الأرض وركازها دفعا للفاقة، مناهضة للفقر. وثالثها: السعي إلي السلام مع الجنوب ما استمال إليه طرف تحقيقا للوحدة الوطنية حقنا للدماء وحفظا للأنفس والثمرات.
لكن ذروة سنام الحفاظ علي تلك العناصر الثلاثة كان إيلاء الحرية سعتها القصوي (الرأي والتعبير، الصحافة، المعتقد، التنظيم، الانتخاب والموالاة، المشاركة الخ..)، ثم حجب يد الجلاد عن البريء حتى تثبت إدانته حماية للحق استقلالا للقضاء وصونا لكرامة الإنسان وقدره.
لكن عواقب تدافع البعض إلي تحقيق الذات هو ما دفع الحركة الإسلامية السودانية للتفاصل مؤتمرين "رسمي وشعبي".
لم يكن من بين الأسباب فشلا في تحقيق العناصر الثلاثة التي سبق ذكرها، فقط كانت الحرية هي القاصمة، فقد تعددت حولها التعريفات وحيكت لها الثياب وفق ما وسع لها صدر الحائكين فتراجعت الأصول التي دعت الحركة الإسلامية للسيطرة علي الحكم إلي مؤخرة الأولويات. تنازع الإسلاميون وعلا صوتهم في الحكم. مذكرات ترفع هنا وهناك، خاصة وعامة، سرا وجهرا، لكنها لا تجد أذنا صاغية، فتباعدت الخطي وطوي الزمان ملامح الدعوة التي بناها أعضاء الحركة منهم السابقون مضوا إلي الله جهادا متقبلا بإذنه، وبقي اللاحقون مرة في الحبس ومرة طلقاء يسيحون في الأرض، حتى عقد أنصار المؤتمرين شوراهما، كل علي حدا خرج بحصيلته المقروءة للجميع، لكن ذات الفكرة التي دفعتهما موحدين للسلطة اختلفت عند منعطف التقويم ليذهب أصلها مع أحدهما دون الآخر.
ساحة ملتقي النيلين كانت فضاءا متاحا لكل من سعي ليشهد اجتماع الشعبي الذي انفض عن أكثر من خمسة وأربعين منصبا انتخب إليهم من الشيوخ والشباب والطلاب نساءا ورجالا مثلوا أنحاء السودان كافة،حيث لم تغيب أطراف السودان جراحاتها المسخنة ولا فقدها الجلل لاستقرارها. أولئك جميعاً أوكلت إليهم من الأمور ما يراعي مقومات القيادة القادرة علي الإحاطة والتنفيذ، وغطي الهيكل الإداري للمؤتمر الشعبي لأول مرة قضايا واختصاصات أسقطت الحكومات المتعاقبة وأرهقت أذهان الساسة من مختلف الأحزاب. كما أبيح للمؤتمرين الشرح والتجريح والتعديل.
لقد تنافس الصحافيون الذين حضروا المؤتمر في التعليق والتعقيب عما شهدوه، لكن بعضهم أرهقت ذهنه عبارات الشيخ ومبادراته التي ما أعجزتها سنيه السبعين فذهبوا علي عكس ما أراد مفسرين رغبته في العودة للسلطة عبر تبنيه قيادات الحزب عبر توسيع دائرة مهامه. فيما نحي البعض الآخر محللاً تعقيبات بعض قيادات الشعبي حول أهمية دور الشيخ المرتقب ومدي تأثير حزبه في ظروف تمددت فيها سيطرة خصمه اللدود المؤتمر الوطني.
إلا أن الذي غاب علي أولئك هو شخصية الشيخ الترابي أثره وإسهاماته الفكرية والسياسية التي ما بخل بها لأحد. حيث يعلم أهل الصحافة الزيارات السرية والمعلنة أحيانا لبعض قيادات النظام، وكذلك سعي قيادات الأحزاب الأخرى لأخذ مشورته ورؤاه متي ما عصت عليهم الأمور أو رغبوا في بناء وطن يسع الجميع طالما حفظ الترابي رسالته في الهواء الطلق أو في السجن الذي منه أخرج أفضل ما كتب في الفقه وعلوم القرآن والسياسة والحكم.
إن نجاح المؤتمر الشعبي في عقد شوراه بالصورة التي شهد بها أهل الصحافة وسمعنا بسيرتها من علي البعد، تؤكد للجميع حقائق عدة:
- إن حزب المؤتمر الشعبي هو لسان الحركة الإسلامية السودانية وابنها الشرعي طالما أن الحركة تساقط عنها في الطريق العشرات منذ منتصف الستينات مرورا بالسبعينات ثم ما حدث نهاية تسعينات القرن الماضي.
- الحركة أصلها دعوة إلي الله لتحكيم دينه وإتباع مبادئه في السياسة والحكم والاقتصاد، تغييرا إيجابيا في الحياة الاجتماعية علي منهج التقوى والعدالة والحرية والمساواة والأمانة لذلك تكون رسالة الشعبي منه إلي الشعب مباشرة لا تمنع عنها الرقيب إذا أراد أن يسترق السمع وهو بعيد، مكفول فيها واجب الحماية للحق العام والخاص لا لأحد مهما علت مكانته أن يسمو علي القانون.
- كما يظل ما حدث من أخطاء في ظل وحدة الحركة مكانا مناسبا للتوبة إلي الله وتصحيح المثار بنفي ما ظل يرتكبه قادة النظام تحت غطاء الحركة ويلبس الكثير من أهل السودان ما تم للحركة الإسلامية فهي منه بريئة براءة الذئب من دم بن يعقوب.
- ما تم في شوري الشعبي رسالة لكل أحزاب السودان أن اتحدوا وتكاتفوا لبناء وطن يسع الجميع حكمه العدل ونظامه الشورى وشيمته التسامح فيه تحمي حرمات الناس حرياتهم وحقوقهم.
- رسالة الشعبي أن يولي القوي الأمين المتمكن من الأمر ذو الدراية والحكمة والحلم.
ويبقي الأمل أن ترفع السلطة يدها القابضة بتلابيب المؤتمر الشعبي ليسهم بالقدر الذي ينتظره أهل السودان ..