www.elhanafi.com
1) كيف يرد المثقفون الدين ؟ سؤال قد يثير الغرابة، و لكنه في نفس الوقت، قد لا يكون غريبا. لأن الدين تم تهريبه بواسطة الأدلجة، و من هنا كانت مشروعية السؤال. لأن الذين عملوا على تهريب الدين، و استفادوا من تهريبه في تجييش المغفلين الذين لا يملكون القدرة على التفكير، و لا يستطيعون التبعية، هم من المثقفين الذين استغفلوا الأميين، و استدرجوا الرجعية، و الرأسمالية العالمية، و الصهيونية، إلى دعمهم، و تأييدهم من أجل محاربة الاشتراكية، و الاشتراكيين، و الفكر الاشتراكي، و الممارسة الإيديولوجية، و التنظيمية، و السياسية الاشتراكية، و العمل على الإطاحة بالأنظمة القائمة، على أساس تحقيق الاشتراكية في البلاد العربية، و في باقي بلدان المسلمين. و التخلص من القادة الاشتراكيين، بدعوى مساهمتهم في نشر الكفر، و الإلحاد، خدمة للمصالح الرجعية، و الرأسمالية العالمية، و سعيا إلى تحقيق التطلعات الطبقية للبورجوازية الصغرى، التي ينتمي إليها المثقفون. و من هنا كانت مشروعية غرابة السؤال : "كيف يرد المثقفون الدين ؟" لأن هؤلاء المثقفين هم الذين قاموا بتهريب الدين لحاجة في نفس يعقوب كما يقولون.
لكن السؤال الذي يستدرجنا إلى طرحه، و نحن نناقش مشروعية طرح السؤال، "كيف يرد المثقفون الدين ؟" هو من هم المثقفون الذين قاموا بتهريب الدين ؟ و حتى لا نظلم المثقفين بصفة عامة، علينا أن نميز بين :
ا ـ المثقفين الذين لهم مكانتهم الفعلية في ميدان الثقافة، و لهم شخصيتهم الثقافية، و يؤثرون، فعلا، في الساحة الثقافية، و يعملون، فعلا، على إنتاج القيم التي تنفذ إلى بناء المسلكية الفردية، و الجماعية .
ب ـ المثقفين الذين لا يدرون من الثقافة إلا التشكل الفردي و الجماعي وفق نمط معين، و من أجل إنتاج ممارسة معينة، لتجييش مجتمع معين، سعيا إلى تحقيق أهداف معينة، تتمثل بالخصوص في تحقيق التطلعات الطبقية للبورجوازية الصغرى المريضة.
كما يمكن التمييز بين :
أ- مثقفي السلطة، و مثقفي الطبقات الحاكمة، الذين يعملون على إنتاج القيم الثقافية، على مقاس ما تريده السلطة، و ما تسعى إلى تحقيقه الطبقة الحاكمة.
ب- المثاقفين الثوريين، أو المثقفين العضويين، أو المثقفين الجادين، الذين يرتبطون بالجماهير الشعبية الكادحة، و يعملون على جعلها تمتلك الوعي الطبقي، الذي يؤهلها لخوض الصراع الطبقي، بمفهومه الحقيقي و في مستوياته الإيديولوجية، و التنظيمية، و السياسية، و الفكرية، و الاقتصادية، و الاجتماعية، و الثقافية.
و انطلاقا من هذا التحديد، فإن المثقفين الذين يتحملون مسؤولية تهريب الدين إرضاء للطبقة الحاكمة، أو للسلطة، أو سعيا إلى تحقيق التطلعات الطبقية، ينتمون إما إلى المتثاقفين ،الذين يدعون امتلاكهم للثقافة، و إما إلى مثقفي السلطة، أو مثقفي الطبقة الحاكمة. لأن تهريب الدين، عن طريق أدلجته، من مصلحة هؤلاء جميعا. و هو ما يحيلنا إلى التساؤل :
فما هو الفرق بين الدين و أدلجة الدين ؟
و ما هو دور الأدلجة في تهريب الدين ؟
و ما دور المثقفين المرتبطين بالسلطة، و الطبقة الحاكمة، و المتثاقفين، في تهريب الدين ؟
و هل يصح أن تطرح بعض الجهات سؤال : متى يرد المثقفون الدين ؟
و ما هي ضرورة طرح السؤال : كيف يرد المثقفون الدين ؟
و ما هو الفرق بين منهج أدلجة الدين، و منهج رد الدين ؟
و من هم المثقفون المعنيون برد الدين ؟
لأن الإحالة على هذه التساؤلات تصير ضرورية، من أجل تعميق النظر في مسألة رد الدين، حتى نتبين السبل الممكنة لإنضاج شروط السير بالدين في اتجاه الحياد الإيديولوجي، و السياسي، باعتبار ذلك الحياد، ردا للدين، و القضاء النهائي على ما يمكن أن نسميه ب : " الفلتان الديني".
2) و الفرق بين الدين و أدلجة الدين يجب أن يصير واضحا في فكر، و وجدان، و ممارسة الناس، و من منطلق أن الدين معتقد، أو مجموعة من المعتقدات، التي يجب أن تستدرج للحياد عن الممارسة الإيديولوجية، و التنظيمية، و السياسية للبشر، حتى يكون خالصا لله. و حتى تبقى ممارسة العبادات، و المؤسسات الدينية، بعيدة عن التوظيف الإيديولوجي، و السياسي. و حتى تكون مساهمته في إنتاج القيم الدينية المؤدية إلى تقويم الشخصية الفردية، و الجماعية، و حتى يؤدي ذلك إلى تحقيق الوحدة المسلكية لأفراد المجتمع، و التي تشكل سدا منيعا أمام كل محاولات الاختراق الطائفي كيفما كان ذلك الاختراق، و مهما كان مصدره. و بالنسبة لأدلجة الدين، فإنها تعني لجوء المؤدلجين إلى إعطاء تأويلات للنصوص الدينية القائمة، حتى تتناسب مع التعبير عن المصالح التي يسعى المؤدلجون إلى تحقيقها، سواء تعلقت بمصالح الإقطاع، أو بمصالح البورجوازية التابعة، أو بمصالح البورجوازية، أو بمصالح البورجوازية الصغرى، التي ينتمي إليها مؤدلجو الدين. فأدلجة إذن هي ممارسة تحريفية للدين عن طريق تأويله تأويلات تختلف باختلاف مصالح الطبقات الاجتماعية، و حماية تلك المصالح.
و المشكل القائم في الواقع هو أن المؤمنين بدين معين و نظرا لبساطة فهمهم للدين، فإنهم لا يفرقون بين الدين، و أدلجة الدين، بل إن الشعارات السياسية التي يرفعها مؤدلجو الدين، و التشدد الذي يمارسونه، هو الذي يجعلهم يعتقدون أن الدين المؤدلج هو الدين الحقيقي، و أن هذا الدين المؤدلج هو الذي سيقودهم إلى تحقيق الأمن الاقتصادي، و الاجتماعي، و الثقافي، و السياسي، بتحقيق حكم الله في الأرض. و حكم الله هو الذي يقود إلى القول بأن الحكم لله، و ليس للبشر، الذين لا يملكون الحق في تسيير شؤونهم، حتى و إن كانت تلك الشؤون من تقرير مؤدلجي الدين. و لذلك نجد أن التفريق بين الدين، و ادلجة الدين، تعتبر مسألة أساسية بالنسبة للمومنين ببدين معين. و هذا التفريق يجب أن تسبقه حملة يقودها المثقفون الثوريون، أو العضويون، الذين يهمهم، امتلاك المومنين بدين معين للوعي الإيديولوجي الحقيقي، الذي يعتبر مسألة أساسية لأي تطور يمكن أن يحصل في الواقع لصالح الجماهير الشعبية الكادحة. بمعنى أن المثقفين المؤدلجين للدين يعملون على تهريب الدين، من منطلق أن الادلجة الدينية الشائعة في الواقع، هي عملية تهريب كبرى للدين، و أن محاربة الأدلجة، و تشريحها، تدخل في إطار عملية رد الدين.
3) و لذلك نجد أن أدلجة الدين تصرف الناس عن التفكير في الواقع، و الانشغال عنه بالأمور الغيبية، التي تدخل في إطار تأويلات المؤدلجين، الذين يعطون تأويلات للغيب نفسه، مما يجعله يدخل في خدمة مصالحهم، و مصالح الطبقة الحاكمة، أو غيرها ممن يؤدلج الدين لصالحهم.
و دور الأدلجة في الواقع، هو القيام بعملية تهريب الدين، التي تعتبر، في نظرنا، عملية معقدة، تهدف إلى جعل الجهة المهربة للدين، توقف عملية إنتاج القيم الروحية، التي تساهم، بشكل إيجابي، في تقويم الشخصية الفردية، و الجماعية. ليصير الدين منتجا للقيم الإيديولوجية، التي تجعل هؤلاء المؤدلجين للدين مضللين للمومنين، لتحقيق مجموعة من الأهداف :
الهدف الأول : تضليل الكادحين، و جعلهم ينصرفون عن التفكير في الواقع المتردي، على جميع المستويات، و في جميع المجالات، حتى لا يقف وراء انبثاق وعي طبقي معين في صفوفهم.
و الهدف الثاني : جعلهم يعتقدون: أن ادلجة الدين هي الدين الحقيقي، و أن ما كانوا عليه لا علاقة له بالعقيدة.
و الهدف الثالث : جعلهم يقبلون بالتجييش وراء مؤدلجي الدين، من أجل "الجهاد" لتحقيق بناء الدولة الدينية التي تكون مسؤولة عن تطبيق "شريعة" الله في الأرض.
و الهدف الرابع : قطع الطريق أمام إمكانية تحقيق الحرية و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية، باعتبارها شعارات غريبة عن الدين، لأنها تؤدي إلى "الكفر" و "الإلحاد".
و الهدف الخامس : الحيلولة دون قيام حركة اشتراكية قوية، تسعى إلى قيام دولة اشتراكية، و العمل على تخريب ما هو قائم منها.
و الهدف السادس : العمل على انهيار الدول الاشتراكية، إن كانت قائمة، و العمل على إنضاج شروط عدم التفكير فيها، و بصفة نهائية.
و هذه الأهداف مجتمعة تجيب عن السؤال : لماذا تهريب الدين ؟ لأن تهريب الدين في حد ذاته لا يكون بدون أهداف، و إلا فإن الدين الحقيقي سيبقى قائما، و بعيدا عن الاستغلال في أمور إيديولوجية، و سياسية.
4) و يلعب نوع معين من المثقفين دورا كبيرا في تكريس أدلجة الدين، و هؤلاء المثقفون من ذوي الدرجة المتدنية بالنسبة للشعب الكادح، يتراوحون بين مثقفي الإقطاع، و مثقفي البورجوازية التابعة،ن و مثقفي البورجوازية الصغرى، و مثقفي الظلامية، من مختلف الطبقات الاجتماعية.
و هؤلاء المثقفون، من ذوي الدرجات المتدنية، يستأنسون بأدلجة الدين التي تصير ممارسة يومية فكرية، و إيديولوجية، و سياسية، في حياة هؤلاء المؤدلجين، و لتضليل المؤمنين، مهما كان مستواهم الاقتصادي، و الاجتماعي، و الثقافي.
و لذلك، فتهريب الدين، لا يكون إلا على يد هؤلاء المثقفين، من الدرجات المتدنية،/ الذين لا يملكون القدرة على استيعاب معنى الثقافة، و معنى المثاقفة. و لا يستطيعون أن يصيروا مثقفين، فعلا، ينتجون القيم المفيدة للشعوب، إنهم لا يملكون إلا الترديد، و الترجيع، و لا يقومون إلا بالتأويل الغث، و لا يستطيعون إلا توظيف النص الديني في الأمور الإيديولوجية، و السياسية، للاستحواذ على عقول المغفلين، ممن أحاطت بهم شروط اقتصادية، و اجتماعية، و ثقافية، و مدنية، و سياسية متردية. و لا يملكون وعيا صحيحا، يمكنهم من فهم ما يجري، و يعملون على رفع الحيف عنهم، فيصيرون ضحايا الوعي الزائف، الذي ينتجه مثقفو آخر درجة، و المتمثل في أدلجة الدين، التي لم يعمل بعد المثقفون الحقيقيون على مناهضتها. و لا يسعون إلى تشريحها، و لا يتفرغون إلى امتلاك الخبرة بها.
و ما يقوم به مثقفو، آخر درجة، من تهريب للدين، و ما حققوه من نتائج بممارسة ذلك التهريب، يقتضي من المثقفين الثوريين، و العضويين، المرتبطين بالكادحين، التوقف عند تغلغل ادلجة الدين، في صفوف الشعوب المختلفة، و العمل على تشريح هذه الظاهرة، بإبراز الشروط الموضوعية، التي أفرزتها، و توعية الناس بتلك الشروط، حتى يعملوا على تغييرها من أجل قلب ميزان القوى، لصالح سيادة الوعي الصحيح بالأوضاع الاقتصادية، و الاجتماعية، و الثقافية، و المدنية، و السياسية، و الشروع، مباشرة، في العمل على تغيير الأوضاع بقيادة الأحزاب العمالية، و التقدمية، و الديمقراطية، من أجل الوصول إلى تحقيق الحرية، و الديمقراطية، و العدالة الاجتماعية.
5)و بعد الوقوف على فئة المثقفين، التي تقوم بعملية تهريب الدين، و ما يجب عمله لإيقاف عملية التهريب ننتقل إلى مناقشة طرح السؤال " متى يرد المثقفون الدين ؟" لأن "متى" هذه فيها تصريف لمغالطة كبرى. فكأن الأمر له علاقة وطيدة بإرادة المثقفين، مع أن أي عمل، و مهما كان بسيطا، لا بد له من توفير شرطين أساسيين : الشرط الذاتي، و الشرط الموضوعي.
فالشرط الذاتي يقتضي انكباب المثقفين الثوريين، و العضويين، على ظاهرة الانشغال بأدلجة الدين، التي حلت محل الدين، و التي يسمونها بالتهريب الديني، من أجل فهم الشروط التاريخية، و الموضوعية، التي أدت إلى إفرازها، و بهذا الشكل المهول الذي صار يهدد مصير البشرية، و يقف وراء تكريس مظاهر التخلف المختلفة، على أنها هي الدين الحقيقي، و لماذا هذا الجري وراء مؤدلجي الدين ؟ و لماذا تتم الاستجابة لتنفيذ "فتاواهم" التي لا حدود لها، و على جميع المستويات، و في جميع المجالات الاقتصادية، و الاجتماعية، و الثقافية، و المدنية، و السياسية.
أما الشرط الموضوعي فيقتضي إنضاج الشروط الاقتصادية، و الاجتماعية، و الثقافية، و المدنية، و السياسية، على أنقاض الشروط القائمة، و المفرزة لظاهرة ادلجة الدين، حتى ينصرف الناس عن تلك الادلجة، إلى التفكير في الواقع الاقتصادي، و الاجتماعي، و الثقافي، و السياسي. و العمل على تغييره بما يخدم مصالح الكادحين، المستلبين بأدلجة الدين، حتى يستعيدوا وعيهم، و يعملوا على تطويره من أجل قطع الطريق أمام إمكانية عودة الوعي الزائف، و إلى الأبد.
و بالتزاوج بين الشرط الذاتي، و الشرط الموضوعي، تكتمل دائرة عمل المثقفين الثوريين، و العضويين، المرتبطين بالكادحين، الذين يجب أن يميزوا بين الدين، و أدلجة الدين حتى لا يسقطوا في ترويج مقولات المتمركسين، الذين لا يختلفون في ممارساتهم الانتهازية عن مؤدلجي الدين، و من اجل جعل الكادحين يدركون ذلك التمييز، و بالدقة المطلوبة، حتى يصير الدين لله، و الوطن للجميع، كما يقولون.
و بذلك يتبين أن المشكل ليس في " متى يرد المثقفون الدين ؟" بقدر ما هو في " كيف يرد المثقفون الدين؟". فكيف هذه هي المشكل القائم في الواقع. لأن المثقفين، بمن فيهم المثقفون الثوريون، و رغم كل كتاباتهم الرائدة في هذا المجال، لازالوا بعيدين عن إدراك ما يجب عمله، و الاشتغال عليه، من أجل الدخول في مواجهة تحديات عصر عولمة اقتصاد السوق، التي من بينها تحدي أدلجة الدين. و عندما يدركون ذلك، يستطيعون الجمع بين العام، و الخاص، و تجنب الاستغراق في العام لهثا وراء الإنسانية، أو الانغماس في الخاص، حرصا على المحافظة على الهوية.
6) و لذلك نجد أن السؤال الذي يفرض نفسه هو " كيف يرد المثقفون الدين ؟"
و هذا السؤال الإشكالية يحيلنا إلى التاريخ، و إلى الذات، و إلى الموضوع في نفس الوقت.
يحيلنا إلى التاريخ، لأن ادلجة الدين ليست وليدة هذا العصر، بقدر ما ارتبطت بوجود الدين نفسه. و بالتالي فإنه برجوعنا إلى التاريخ نستطيع أن ندرس الحركات المؤدلجة للدين، و الشروط التاريخية التي أدت إلى وجودها. و ماذا ترتب عنها ؟
و ما هو الدور الذي قامت به في مختلف المراحل ؟
و ماذا ترتب عنها ؟
و ما هو دورها في تكريس أدلجة الدين على المستوى الشعبي ؟
و ما مدى استغلالها من قبل الحركات المؤدلجة للدين من أجل إعطاء الشرعية لنفسها ؟
و يحيلنا إلى الذات من أجل السعي إلى معرفة هل يستطيع المثقفون الثوريون، و العضويون، و الديمقراطيون، مواجهة تحدي أدلجة الدين في عصر عولمة اقتصاد السوق ؟
و ماذا يجب عليهم عمله من اجل امتلاك القدرة على تحدي أدلجة الدين التي تقتضي نسبة من التفرغ للدراسة، و البحث، و الخروج بخلاصات تمكن من إيجاد برنامج اقتصادي، و اجتماعي، و ثقافي، و سياسي، متكامل يهدف إلى جعل الحركات العمالية، و التقدمية، و الديمقراطية، تعمل انطلاقا من ذلك البرنامج على إنضاج الشروط الموضوعية الساعية إلى تغيير الواقع تغييرا يؤدي إلى التخلص من الشروط المنتجة لأدلجة الدين، و تمكين الكادحين من امتلاكك الوعي الحقيقي، الذي يعتبر وحده الكفيل بجعلهم يتحصنون أدلجة الدين التي يصيرون مميزين بينها، و بين الدين، و قادرين على دحضها بالحجة و البرهان؟
و إلى جانب الإحالة على الذات، فالسؤال الإشكالية يحيلنا على الموضوع/الواقع، الذي تجب معرفته معرفة مجملة، و مفصلة، في نفس الوقت، و ما هي الشروط التي تنتجه ؟
و هل هي شروط قائمة على أساس علمي صحيح ؟
أم أنها جاءت نتيجة الاستجابة لتعليمات معينة تمليها هذه الجهة أو تلك ؟
و هل تساعد على وجود تطور سليم ، و في الاتجاه الصحيح ؟
أم أنها شروط معرقلة لأي شكل من أشكال التطور، و في جميع المجالات الاقتصادية، و الاجتماعية، و الثقافية، و المدنية، و السياسية ؟
و ما العمل من أجل تغيير الشروط الموضوعية القائمة إلى الأحسن ؟
و بقيام السؤال الإشكالية على هذه الاحالات الثلاث يمكن القول بأن إيجاد المحال عليه يكون أيضا باحالات ثلاثة عن طريق تفريع أسئلة / إشكاليات صغرى هي: كيف نجعل التاريخ في خدمة نفي أدلجة الدين، بدل أن يصير مساعدا عليها ؟
و كيف يصير المثقفون مصممين على نفي ادلجة الدين ؟
و كيف يصير الواقع منتجا لنفي أدلجة الدين ؟
فجعل التاريخ في خدمة نفي أدلجة الدين يقتضي العمل على تشريح هذا التاريخ، و الكشف عن الخلفيات الاقتصادية، و الاجتماعية، و الثقافية، و المدنية، و السياسية، التي وقفت في مراحل تاريخية معينة وراء أدلجة الدين، و وراء قيام حركات مؤدلجة للدين، و إخضاعها للنقد، و التحليل، وصولا إلى القول بأن ما عرف من أدلجة للدين في مراحل تاريخية معينة، لا علاقة لها بالدين، و لا بأس من القول بأن المؤدلجين التاريخيين أساءوا إلى الإنسانية، و ارتكبوا جرائم ضدها، و أن هذه الجرائم لازالت قائمة إلى يومنا هذا.
و جعل المثقفين مصممين على أدلجة الدين، يقتضي تسلح هؤلاء المثقفين بالمعرفة اللازمة، و العميقة بالتاريخ، و بالحركات التاريخية، و بأساليب أدلجتها للدين، و بانعكاس تلك الأدلجة على الواقع الموضوعي، حتى يستطيع المثقفون التعامل، مع كل ذلك، تعاملا علميا دقيقا، بهدف توجيه التفاعلات القائمة فيه لتحقيق هدف نفي ادلجة الدين القائمة فيه.
و بجعل المثقفين مصممين على نفي أدلجة الدين، على أساس نظري سليم، فإن تصميمهم ذلك، و انخراطهم في العمل على إنضاج شروط نفي الأدلجة في الواقع، يصير الواقع، و بشكل تلقائي، نافيا لأدلجة الدين، لأن شروط إنتاج تلك الادلجة تصير منعدمة فيه، بصيرورة المستهدفين بتلك الادلجة حاملين للوعي الحقيقي الذي لا يكون إلا وعيا طبقيا، يقود إلى فرض ممارسة الصراع الطبقي في مستوياته الإيديولوجية، و التنظيمية، و السياسية، و الفكرية، و الثقافية، و الاقتصادية، و الاجتماعية، من منطلق: أن الصراع الطبقي، وحده، هو الذي يكون منتجا، بمساهمته الفعالة، في تطور التشكيلة الاقتصادية، و الاجتماعية، و الثقافية، و المدنية، و السياسية، و في إنضاج شروط الانتقال إلى التشكيلة الأعلى في شروط معينة.
7) و دور المثقفين الثوريين، الذي أشرنا إليه في الفقرات السابقة، لا يكون فاعلا، و قادرا على تحقيق نتائج أحسن، إلا بالإدراك الدقيق للفرق القائم بين منهج أدلجة الدين، و منهج رد الدين.
فمنهج أدلجة الدين: هو منهج يسعى إلى تأويل النصوص الدينية، تأويلا مغرضا، يهدف إلى جعل النص الديني، بطريقة مباشرة، أو غير مباشرة، في خدمة الجهة المؤولة، أو في خدمة الجهة الموظفة للجهة المؤولة، و التي تسعى إلى إعطاء الشرعية الدينية لممارستها الاقتصادية، و الاجتماعية، و الثقافية، و المدنية، و السياسية، التي تحكم مسار المجتمع، و تهدف إما إلى تأبيد سيطرتها عليه، باسم الدين، أوتسعى إلى السيطرة عليه ، باسم الدين. و هي، في طريقها إلى تضليل الناس، تستحضر العقيدة، كما تستحضر الشريعة، و تعمل على الربط بينهما، إلى درجة صعوبة الفصل بين المقدس، و غير المقدس، سواء تعلق الأمر بالعقيدة، أو تعلق بالشريعة. و أكثر من هذا، فإن مؤدلج الدين يصير بدوره مقدسا، و كل متنمط على أساس أدلجة الدين يصير مقدسا، إلى درجة أن الناس جميعا في المجتمع الذي تسود فيه أدلجة الدين، يصير المقدس حاضرا عندهم بشكل مكثف. و يصير التقديس غاية يسعى إليها كل متنمط، و كل من يرفض السير على هذا المنهج، يصير فاقدا لشرعية الوجود، فيتم الإفتاء فيه بالقتل، أو بالكفر، و الإلحاد، أو بكونه علمانيا، أو يهوديا، أو صهيونيا، أو غربيا، أو غير ذلك من التصنيفات الطائفية في المجتمع ،الذي يصير بحكم إشاعة أدلجة الدين مجتمعا طائفيا. و المجتمع الطائفي: هو الذي يعرف شيوع أشكال الصراع الديني-الديني، أو العرقي-العرقي، أو القبلي- القبلي، أو اللغوي-اللغوي، و هكذا. و الشيء الوحيد الذي يغيب، و بصفة نهائية، من المجتمع الذي تسود فيه أدلجة الدين هو الصراع الطبقي. لأن مؤدلجي الدين لا يريدونه و لا يسعون إلى ممارسته، و يعملون على التخلص من كل من يسعى إلى ممارسته.
أما منهج رد الدين: فهو منهج قائم على الفصل بين شؤون الدين، التي لها علاقة بالعقيدة، و بممارسة الطقوس، أو الشعائر الخاصة بها. و بين شؤون الدنيا، التي لها علاقة بآليات تنظيم الحياة الاقتصادية، و الاجتماعية، و الثقافية، و المدنية، و السياسية، كما يختارها الناس، أو كما اختارتها الطبقة الحاكمة، في إطار تشكيلة اقتصادية، و اجتماعية، و ثقافية، و سياسية. و عملية الفصل هذه بين الدين، و الدنيا، أو بين الدين، و الدولة، لا يدرك كنهها و مغزاها إلا المثقفون الثوريون، أو العضويون، حتى لا يختلط في أذهان الناس أمر الدين، و أمر الدولة. فالدين لله، و الدولة للبشر، لأنهم هم الذين يشكلونها على جميع المستويات الاقتصادية، و الاجتماعية، و الثقافية، و المدنية، و السياسية، من أجل الإشراف على تنظيم شؤون المجتمع، بواسطة المؤسسات التابعة لها، و التي تتمثل في المؤسسة التشريعية، و المؤسسة التنفيذية، و المؤسسة القضائية. و هذه المؤسسات الثلاثة تكون مستقلة عن بعضها البعض. و لكنها في نفس الوقت مكملة لبعضها البعض. و هي جميعا من صنع البشر، و من إبداعهم، و لا علاقة لها بالدين، إلا في مخيلة مؤدلجي الدين. و بالتالي، فمنهج رد الدين، يقوم على أساس أن ما لله لله. و ما لقيصر لقيصر، كما يقولون.
و بهذا التمييز الدقيق بين المنهجين، يستطيع المثقفون الثوريون، أن يصيروا أكثر فاعلية، و أكثر ارتباطا بالكادحين، و أكثر قدرة على نفي أدلجة الدين. خاصة، و أن زمن ظهور الأنبياء قد ولى، و إلى الأبد، بنزول الآية الكريمة "اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام دينا".
8) وبقيامنا بالتمييز الدقيق بين منهج أدلجة الدين، و منهج رد الدين، يردنا سؤال : من هم المثقفون المعنيون برد الدين ؟
لقد سبق أن أشرنا إلى أن تصنيف المثقفين يكون حسب الجهة التي ينتمون إليها، أو حسب اقتناعهم بأيديولوجية معينة، و بينا أن مثقفي الإقطاع يمارسون ادلجة الدين لخدمة مصالح الإقطاع المهووس بالشرعية الدينية، و أن مثقفي البورجوازية التابعة يزاوجون بين أدلجة الدين، و اعتماد أيديولوجية الرأسمالية العالمية، و أن مثقفي البورجوازية الليبرالية يتمسكون بالإيديولوجية الليبرالية، و لكنهم لا يتورعون عن اللجوء إلى أدلجة الدين في شروط معينة، و أن مثقفي البورجوازية الصغرى يتحلون بالخليط الإيديولوجي، و أن مثقفي الظلامية يغرقون في أدلجة الدين، و من أجل الوصول بالبشرية إلى الاستغراق في ظلامية التاريخ. و المثقفون الذين يمكن أن نقول إنهم معنيون برد الدين هم المثقفون الثوريون، و يمكن أن ينضاف إلى جانبهم المثقفون التقدميون. و كذلك يمكن أن يكون المثقفون الديمقراطيون معهم، في نفس الخانة، إذا تحرر هؤلاء جميعا من عقدة الموقف المتمركس من الدين، و تعاملوا معه على أنه قوة مادية قائمة في وجدان الجماهير، يمكن الاستفادة منها لصالح الجماهير الشعبية الكادحة، و في حال تحرر المثقفين الثوريين، و الديمقراطيين، و التقدميين، من الموقف المتمركس من الدين، فإن على هؤلاء أن يقوموا بدراسة الدين دراسة عميقة، و أن يعملوا على التمييز بين الدين، و أدلجة الدين، حتى يعملوا على نفي الأدلجة، و يتمرسوا على احترام الدين، دون تأويل، من أجل كسب ود الجماهير الشعبية الكادحة المتدينة. و حتى لا تكيل هذه الجماهير العداوة للمثقفين المعنيين برد الدين. و في حال اقتناع الجماهير الشعبية الكادحة بما يعمل من اجله المثقفون المعنيون برد الدين، فإن هذه الجماهير ستكسب حصانة ضد أدلجة الدين، و ستعمل على نبذ مؤدلجي الدين من بين صفوفها، لأنه حينها ستعرف الجماهير الشعبية الكادحة أن ما لله لله، و ما لقيصر لقيصر.
و على المثقفين المعنيين، أن يجيبوا على الأسئلة المطروحة، في هذا الإطار، حتى يخوضوا معركة رد الدين على أساس الوضوح :
- ما هي حقيقة الدين ؟ و ما هي حقيقة أدلجة الدين ؟
-
- ما هو الدور الذي تلعبه أدلجة الدين في تهريب الدين ؟
-
- و ما هو الدور الذي يلعبه "المثقفون" في تهريب الدين ؟
-
- و ما هو المدى الزمني الذي يمكن العمل في أفقه لرد الدين ؟
-
- و كيف يتم رد الدين إلى وجدان الجماهير الشعبية الكادحة ؟
-
- و ما هي العلاقة القائمة بين منهج الأدلجة، و منهج رد الدين ؟
-
- و لماذا كان المثقفون الثوريون، و التقدميون و الديمقراطيون هم المعنيون برد الدين ؟
-
9) و الخلاصة أن الدين، أي دين، يجب أن يبقى بعيدا عن التلوث بالأمور الإيديولوجية، و السياسية، التي لها علاقة بالمصالح الاقتصادية، و الاجتماعية، و الثقافية، و المدنية، و السياسية، حتى يتأتى ابتعاده عن الادلجة، التي تكرس تحريف الدين، الذي يصير متطابقا مع الدين، و بديلا عنه، في معظم الأحيان. و هو ما يقتضي تمييز الدين عن أدلجة الدين، و قيام المثقفين بحملة واسعة في هذا الاتجاه، حتى يمتلك الناس الوعي بتحريف الدين، و دور ذلك التحريف، فيما يسميه البعض بتهريب الدين، عن طريق تحويله من دين إلى وسيلة لخدمة المصالح الطبقية الإقطاعية، أو البورجوازية، أو البورجوازية التابعة، أو البورجوازية الصغرى، أو لخدمة مصالح المؤدلجين، و وسيلة لوصول الأحزاب المؤدلجة للدين إلى السلطة، و الوقوف على ضرورة التفريق بين فئات المثقفين الذين يكرسون تهريب الدين، و المثقفين الذين يوكل إليهم رد الدين، عن طريق إشاعة الفكر الاشتراكي العلمي، و العمل على التمييز بين الدين، و أدلجة الدين، و بين منهج الدين، و منهج أدلجة الدين، وصولا إلى الإجابة على سؤال : من هم المثقفون المعنيون برد الدين؟ و المتمثلون في المثقفين الثوريين، و التقدميين و الديمقراطيين، و في إطار بناء جبهة وطنية للنضال ضد تهريب الدين، في إطار النضال من اجل تحقيق الحرية و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية.
و بذلك نكون قد حاولنا الإجابة على السؤال العنوان : كيف يرد المثقفون الدين ؟ الذي جاء على خلفية طرح بعض الصحف لسؤال : متى يرد المثقفون الدين ؟
ابن جرير في 22/08/2005
محمد الحنفي