مجدي الجزولي
استعرضت في الكلمة السابقة جزءاً من فقه لينين الخاص بالامبريالية ومآلاتها، وخلصت إلى أن لينين قد أصاب الحقيقة بتعريفه لامبريالية آخر القرن التاسع عشر وأول العشرين كمرحلة انتقالية تعبر منها الرأسمالية إلى مرحلة "أعلى" من التطور الاجتماعي والاقتصادي، ظن هذا البارع وأراد ان تكون الاشتراكية لا غير. ربما إشتط لينين في تفاؤله الثوري لكنه لم يخطئ توصيف الامبريالية وتحليلها، فقد خرجت من الحرب العالمية الثانية مرحلة جديدة من التطور الرأسمالي تشغل فيها الخدمات والمعلومات موقع القلب وليس بالضرورة مصدر الفائض الإنتاجي المباشر. من وجهة نظر إحصائية يمكن القول أن تغييرات عظيمة قد طرأت على هيكل الاقتصاد الرأسمالي في مراكزه المتقدمة، وعلى توزيع العمالة بين القطاعين التقليديين الزراعي والصناعي والقطاع الجديد الخدمي المعلوماتي، لكن ذلك ليس مربط الفرس إذ أن التغيير في طبيعته تغيير كيفي وله سوابق في صيرورة الرأسمالية. عندما أخضعت الزراعة للإنتاج الصناعي لم يؤدي ذلك إلى اندثار الزراعة بل تم "تصنيع" الزراعة إذا جاز التعبير وأصبحت تحت رحمة الضغوط الاجتماعية والتمويلية للصناعة، بحيث تولدت "زراعة" حديثة اندغمت في هيكل الإنتاج الصناعي.
البيّنة الإحصائية المحضة تفشل كذلك في إدراك التراتبيات الاقليمية وعلاقات القوة في هيكل الاقتصاد العالمي مما يقود إلى كثير من الخلط وسوء الفهم، مثلاً قد يقود الإحصاء إلى اعتبار وجود تماثل بين اقتصاد في القرن العشرين يعتمد في جله على الزراعة والتعدين كاقتصاد نيجيريا أو الهند واقتصاد فرنسا أو انجلترا في حقبة تاريخية سابقة، بينما الفرق أنه في الماضي كانت الزراعة تشغل موقع الغلبة في هيكل الاقتصاد العالمي وفي القرن العشرين الزراعة خاضعة كلياً لعلاقات التصنيع، إن وجهة النظر الإحصائية في هذه الحالة تعتبر المجتمعات كافة في تتابع خطي كاذب. لتصحيح هذا الخطأ لا بد من تمحيص علاقات القوة والهيمنة الحاكمة للمجال الاقتصادي في النظام العالمي. أخذ خطاب التنمية الذي فرضته الهيمنة الاميريكية ما بعد الحرب العالمية الثانية بهذا المنطق الاحصائي معتبراً التاريخ الاقتصادي لكل البلدان في سير خطي يقود من التخلف إلى التقدم على منهج واحد حسب سرعة كل مجتمع بحيث أن البلدان التي لا تتمتع اليوم بمستوى الإنتاج الاقتصادي للبلدان المتقدمة تعتبر بلدان "نامية"، لكنها إذا اتبعت نفس الدرب الذي سلكته البلدان المتقدمة وأعادت تطبيق نفس السياسات والاستراتيجيات ستصل إلى درجة مماثلة من التطور. يغيب عن البصيرة في هذا التصور النموذجي أن البلدان المتقدمة ليست كذلك فقط بفضل خواصها النوعية أو بفضل هياكلها الداخلية لكن ولحد كبير بفضل موقعها الغالب في النظام العالمي.
إن العَرَض الأساسي للرأسمالية المعلوماتية في المركز هو هجرة الوظائف من القطاع الصناعي إلى قطاع الخدمات والمعلومات، وهو قطاع يتوسع يومياً: الصحة، التعليم، الاتصالات، الترفيه والإعلان، تحقق هذا الانتقال فعلاً من الطور الصناعي إلى الطور المعلوماتي في المراكز الامبريالية كالولايات المتحدة، لكن ذلك لا يعني بأية حال اندثار الإنتاج الصناعي أو تناقص أهميته، فكما تحولت الزراعة في مرحلة سابقة إلى زراعة "صناعية" يخضع الإنتاج الصناعي بالتدريج للشروط الغالبة للقطاع الجديد، تحت شعار "إجعلوا من الصناعة خدمة". حقيقة أن تحولاً معلوماتياً قد حدث في البنى الاقتصادية للبلدان المتقدمة، بحيث تم تهجير الصناعات إلى بلدان في مرتبة أدني - من الولايات المتحدة واليابان مثلاً إلى المكسيك وماليزيا -، ليست حجة للنموذج الرأسمالي الخطي في التنمية، إذ أن المصنع الذي يتم بناءه اليوم في المكسيك لا يمكن مقارنته بمصنع مشابه تم بناءه في ثلاثينات القرن العشرين في الولايات المتحدة لا من حيث التكنولوجيا ولا علاقات الإنتاج، فالرأسمال الثابت يتم تصديره في أقصى درجات تطوره التكنولوجي والإنتاجي. الواقع أن مصنع الثلاثينات الأميركي كان في موقع هيمنة اقتصادية بينما مصنع اليوم في المكسيك أو الهند ليس كذلك بل يخضع لإنتاج الخدمات عالي القيمة، عليه ليست الاختلافات الجغرافية في الاقتصاد العالمي بدليل على وجود مراحل مختلفة من التنمية بقدر ما هي نتاج لعلاقات الهيمنة في التراتبية الاقتصادية الدولية. من ثم أصبح واضحاً أن "التحديث" على النمط الرأسمالي ليس مفتاح التنمية والتقدم الاقتصادي تحت شروط المنافسة الحالية، إذ تجد أقاليم مضطهدة كافريقيا نفسها مستبعدة من سيل الاستثمارات والتكنولوجيا الجديدة، بينما أصبحت المنافسة على المواقع الوسيطة في التراتب العالمي معتمدة في الأساس على الانقلاب المعلوماتي في الإنتاج وليس التصنيع فقط. بالتالي يلاحظ في اقتصادات بلدان كالهند والبرازيل تعايش كافة مستويات الإنتاج: إنتاج الخدمات القائم على المعلوماتية، إنتاج السلع الصناعي الحديث، الأعمال الحرفية التقليدية، الزراعة والتعدين، كل هذه الأنماط تتواجد مختلطة تحت هيمنة إنتاج الخدمات المعلوماتي (هاردت ونيجري، 2000).
إذا كان من تغير إجتماعي عظيم في العالم الثالث أو البلدان "النامية" يمكن عبره رصد فعل الامبريالية في هوامشها فهو نمو المدن أو بالأحرى تورمها. في العام 1950 كان عدد المدن في العالم التي يفوق عدد سكانها مليون فرد لا يتجاوز 86 مدينة، اليوم هناك 400 مدينة في العالم يفوق عدد سكانها هذا الرقم و يتوقع أن يصل هذا العدد إلى 550 مدينة عند العام 2015؛ التهمت المدن المتضخمة ثلثي النمو السكاني في العالم منذ الخمسينات ويستمر هذا النمو اليوم بمعدل مليون طفل ومهاجر في الأسبوع. عدد سكان المدن الحالي (3,5 بليون) يعادل مجموع سكان العالم في سنة 1960، وحسب تقديرات الأمم المتحدة فإن عدد سكان الريف قد وصل حده الأقصى ويتوقع أن يبدأ في التناقص من العام 2025. مدن العالم الثالث هي التي تستوعب 95% من التورم السكاني بحيث يصل عدد سكانها في الجيل القادم 4 بليون. الخاصية الأساسية لهذا التضخم في سكان المدن "النامية" تتمثل في فك الارتباط بين نمو المدن وبين التصنيع، أو التنمية في إطلاقها، نتيجة للتحول الحادث في طبيعة الإنتاج في المراكز الامبريالية أي فك الارتباط بين نمو الإنتاج والتشغيل أو بلفظ آخر اقتصاد البطالة. بالطبع للقصة تاريخ يعود إلى أزمة المديونية في السبعينات وإعادة الهيكلة الليبرالية التي فرضتها مؤسسات التمويل – صندوق النقد الدولي – على البلدان النامية، ويستمر فيما تفرضه اليوم منظمة التجارة الدولية من إملاءات "تحريرية"، حيث استمر نمو عدد سكان المدن بمعدل 3,8% في الفترة 1960 – 1993 رغم تناقص القيمة الحقيقية للأجور وارتفاع الأسعار الجنوني وتزايد نسب البطالة. مثلاً زاد عدد سكان المدن في ساحل العاج وتنزانيا والغابون بمعدل 5 – 8% بينما انكمشت اقتصادات هذه البلدان بمعدل 2 – 5% (ديفيس، 2004).
التنمية الرأسمالية مسؤولة بدرجة كبيرة عن محنة المدن هذه فما من عاقل يستطيع إنكار العلاقة المباشرة بين سياسات الليبرالية الجديدة أو سياسات الامبريالية القاهرة وبين تضخم مدن الصفيح في العالم الثالث. مدن كالخرطوم أوكنشاسا أو دار السلام تتمدد يومياً وبدرجة غير معقولة برغم أنها امتنعت منذ زمن عن إنتاج الوظائف نتيجة لسياسات تواطأ عليها مركز في المركز ومركز في الهامش الدوليين تجمع بينهما روابط الرأسمال. ليس من نتيجة أخرى يمكن توقعها من رفع الدعم عن الزراعة وتفكيك القطاع العام الإنتاجي وخصخصة الخدمات العامة بل عولمتها وفتح الحدود مشرعة للاستيراد، بينما تحتفظ المراكز الامبريالية بأفضليتها عبر الحماية الجمركية ودعم الزراعة المحلية.
إن نمو المدن في العالم الثالث ليس إلا نمو الفقر حيث يعيش معظم القادمون الجدد فعلاً على هامش الحياة، مثال ذلك أثيوبيا التي يقطن 99,4% من سكان مدنها في غيتوهات الصفيح، في تشاد كذلك، في أفغانستان النسبة 98,5% وفي نيبال 92%، بينما يتجاوز العدد الكلي لمناطق السكن العشوائي (كما جرت التسمية في بلادنا) على مستوى العالم ربع مليون منطقة سكنية. بالطبع ليس بوسع الخدمات العامة مهما حسنت النية أن تلحق بهذا السيل، خاصة تحت شروط الليبرالية الجديدة، لذا فإن غيتوهات البروليتاريا المتفسخة هذه تفتقد كقاعدة عامة أساسيات الحياة من مياه صالحة للشرب وصرف صحي دع عنك خدمات الصحة الأولية والتعليم، وكنتيجة مباشرة لذلك تحصد الأمراض الناجمة عن تلوث مياه الشرب بفضلات الإنسان والحيوان أرواح 2 مليون رضيع وطفل من سكان المدن سنوياً. لإكمال الصورة، 57% من سكان المدن الأفريقية لا تتوفر لهم مراحيض، حتى أنه في مدينة كنيروبي يعتمد الفقراء على "المراحيض الطائرة" أي التبرز في أكياس البلاستيك. مع استبعاد الأيدز تقدر الأمم المتحدة أن فرد من كل خمسة من سكان الغيتوهات الافريقية يعيش تحت شروط من الفقر تهدد الحياة. مرة أخرى ودون أن أمل التكرار يعتبر نمو الفقر هذا ظاهرة مصاحبة لإعادة الهيكلة الليبرالية بعناصرها المعروفة ونتائجها المشهودة، في بلادنا مثلاً أدت سياسات الخصخصة إلى إنتاج 1,1 مليون من الفقراء الجدد معظمهم من أصحاب الأجور أو العاملين بالقطاع العام (عادل أحمد وعطا البطحاني، 1995).
حاولت في الحلقات هذه أن أشد الانتباه من لجاج يصم الآذان في معظمه كيدي القصد حول الحزب الشيوعي السوداني ومؤتمره إلى بعض من القضايا التي يتوجب على يسار جذري فاعل مواجهتها ليس فقط من باب التفقه النظري في الماركسية وكسبها بل عبر الاقتراب مرة أخرى من الواقع القاتل الذي صنعته الرأسمالية. الماركسية لا تعني على الاطلاق القبول غير الناقد بكل ما قال ماركس فهي ليست كتاباً مقدساً يعاد ويكرر أو حزمة من العقائد الابدية بل منهج يغتني بالواقع ودراسته ويشد النظرية أبداً إلى الممارسة. وليس الشيوعيين السودانيين بغرباء الكون في هذا المراد، حيث يتجدد النزال ضد الرأسمالية مرة أخرى من خلال حركات متعددة تعبر الأقطار كما يعبر الرأسمال، تناهض العولمة وتحتج على استغلال العالم الثالث و"تكاجر" مجموعة الثمانية من قمة إلى أخرى، كما تنتصر القوى الجذرية بالانتخاب وبالثورة في فنزويلا وبوليفيا.