مصعب أحمد الأمين [email protected]
بعد نهاية الحرب الباردة و الانتصار الساحق لأمريكا في توقيت غير متوقع و لو أن بوادره و شواهده أطلت من وقت ليس بالقصير على حياة الاتحاد السوفيتي . إذ صار من المقبول طرح الجدل في الغرب و لدي المحللين السياسيين فكرة انهيار الشيوعية. غير أن عواصف التغيير _ إن صح التعبير _ في الاتحاد السوفيتي كانت أقوي من أشرعة الجميع . و أعني بالجميع معارضو الشيوعية في داخل تلك البلدان و الحزب الشيوعي نفسه. فمن الواضح إن أحدا لم يكن متوقعا أو معدا أو مستعدا لذلك التغيير. فمعارضو الشيوعية في روسيا لم يكونوا قد نظموا أنفسهم أو اوجدوا لأنفسهم أيديولوجية بديلة إذ لم يكن من المنظور القريب انهيار الشيوعية هكذا و بكل تلك البساطة فلم يعرف مناهضو الشيوعية قائدا يلتفون حوله. كل ما هناك أشواق للحريات العامة مثل الحريات الدينية و التعددية السياسية و حريات التملك و إلي ما ذلك من رغبات مكبوتة أطلقت خيالها بعض مقولات الجلاسنوست و البيروستريكا و بعضا من نظريات المنشقين السوفيت.
أما الغرب فكان موقفه من الانهيار السوفيتي فيه قدر كبير من الادعاء الكاذب و صناعة الوهم التي أجادتها مطابخ السياسة و صناع التسلية في هوليود . فليس صحيحا إن أمريكا كانت وراء انهيار الاتحاد السوفيتي , إذ كان الأجدر أن تسقط حكومة كاسترو التي كانت كالشوكة في خاصرتها. و نذكر القارئ , فبينا الاتحاد السوفيتي كان يعيش أيامه الأخيرة , كانت مراكز البحث الإستراتيجية في أمريكا تبحث عن شكل العلاقة بين الولايات المتحدة و الاتحادي السوفيتي للخمسين سنة القادمة على ضوء انتهاء الحرب الباردة. و هنا نتذكر الآية الكريمة التي حكت عن قصة موت نبي الله سليمان_ عليه و علي نبيينا و أنبياء الله السلام _ و الجن . إذ كانت الجن تقوم بأشق الأعمال كان نبي الله عليه السلام قد قضى و انتقل لجوار ربه حتى أكلت دابة الأرض منسأته فخر و تبينت الجن أنها لو كانت تعلم ما لبثت في العذاب الأليم. المهم كان ذلك حال الإدارة الأمريكية مع قصة الهالك المتكئ على عصاه الاتحاد السوفيتي. لكن أمريكا التي روجت لفرية وصولها القمر_ و التي غدت عند الكثير محل التسليم المطلق و صار يقال ( الناس طلعوا القمر) *_ , تعرف كيف تعيد تفسير المشهد لتجد لنفسها مكان في قدرية سقوط الاتحاد السوفيتي و الذي لم يسقط طبعا بعد إرادة المولى عز وجل إلا بسبب التركيبة القومية القسرية غير المتجانسة . و نعلم و تعلمون كيف أفضى انهيار الاتحاد لقيام حروب آنية بين أقطاب جمهوريات الاتحاد. أما النظرية فلم تسقط بالبساطة التي صورها انتصار الغرب : و المضحك المبكي كيف لم ينهار الغرب أولا و اقصد بالغرب أمريكا و لعلكم تذكرون كيف تكونت أمريكا و لعلكم كلكم تذكرون المسلسل الأمريكي الرائع( How the West was Won ) . فأمريكا التي بدأت قصة حياتها بالإبادة الجماعية للهنود الحمر و استغلال العبيد البشع تدعي التباكي علي جرائم الإنسانية ( طبعا دون إدراج العراقيين من ضمن الإنسانية!! من يريد تعكير صفو الوحش) . المهم سنعود للتفاصيل في سياق عنوان المقال. لكن ما نختم به هذه الرؤية و إعادة صنع المشهد كإسهام فكري و كفهم استراتيجي لعالم ما بعد الاتحاد السوفيتي. فلو أن هناك حتمية تاريخية _ علي غرار المقولة الشيوعية في المادية الجدلية, لكان من الحتمي انهيار كوريا الشمالية و الصين و كوبا كما أسلفنا لكن كما نقول هنا في العالم الإسلامي أمريكا كمن يريد مظهرا بعد العيد.
و السؤال لماذا هذه المقدمة الطويلة و ما علاقتها بموضوع العنوان؟ و هل هناك أصلا من ينازع أو يتجاهل النزعة الاستعمارية للغرب و محاولة الهيمنة علي مقدِّرات الشعوب؟ و هل هذا المقال إعادة إنتاج لكتاب ايلتش لينين( ما العمل)؟
لا هذا و لا ذاك !!! لكن مع القارئ و اعتمادا على الردود الأكاديمية المتوقعة على المقال افترض إننا يمكننا فهم واقعنا في المقام الأول و خلق رأي عام مساند لهذا الفهم لدي الفرقاء السياسيين في السودان. لذلك على طريقة عمل المحققين و رجال الاستخبارات فضلت أن أعيد ترتيب المشهد من مراحل ما قبل الإنقاذ و ما قبل تمرد قبيلة الزغاوة السودانية المسنودة برجال القبيلة من تشاد فتفضلوا بالمتابعة.
ليكـــن مدخلنا النقطة الأخيرة لماذا تساند أمريكا قبيلة واحدة في السودان و تسبغ عليها صبغة إقليم أو شعب و ما هذه المزحة الثقيلة الجديدة المسماة النوبيين في الشمال؟ و هل اكتملت صناعة المثلث العربي في السودان على غرار المثلث السني في العراق؟ و لأن النصر في السودان سهل و بدون تكــاليف فهل تريد أمريكا محو صورة المثلث السني العراقي من الذاكرة القريبة للعالم و الشعب الأمريكي و تثبيت مثلث جديد في العالم الإسلامي يسهل سحقه و تعيد بالتالي الإدارة الأمريكية رسم صورة رامبو بعد اهتزازها في العراق؟ و ما علاقة كل ذلك بحرب فيتنام التي لم تنفك تلهم صناع السينما الأمريكية صور البطولة و الأخلاق و الإنسانية؟
عودة لمقدمة الموضوع :
خلصنا في المقدمة إلي أن أمريكا عندما فوجئت كما فوجئ العالم بانهيار الاتحاد السوفيتي و لم تدع أي جهة إسقاطه , التقطت المناسبة كأنها تعترف بابتسامة واثقة أنها هي من قتلته و هي الآن بأدب الغرب الجم للخصوم ترفع قبعتها و ترسم نظرة حزينة و انكسار علي فاجعة أهل الاتحاد و هي تعزيهم في فقيدهم الذي قضى اثر سكتة قلبية لم تمهله طويلا. فكما أسلفنا لم يكن احد مستعدا أو معدا خططا أو برامج لذلك الفراغ , فحبس الناس أنفاسهم و هم يتابعون ارتجال الخطط الفطيرة في شرق أوربا و كيف أن الوعود و الدعم المعنوي كان أقصى ما يقدم لإخوة الدم العائدين من ثمانية عقود التيه . و لم يمض وقت حتى أدار الغرب و من خلفه أمريكا ظهره لأوربا الشرقية و تركها نهبا لتجار الرقيق الأبيض و المافيا لتنشأ فيها إمبراطوريات فساد و عصابات اعتي من دكتاتوريات الماركسية اللينينية بمراحل لا تقبل المقارنة. فزاد الفقر و نمت القوميات كشئ يمكن أن يجمع بقايا أشتات فقدت القواسم .
عند ذلك المنعطف , بدأت المراكز الإستراتيجية في البحث عن سبل التصرف في الميراث الضخم الذي تركه الفقيد الاتحاد السوفيتي . فمن جمع لرسائل و أبحاث في أضابير مراكز البحوث و مكاتب الاستخبارات , بدأ أعنف فصل لإعادة تشكيل النظام العالمي , و الذي لم يجد سوى العالم الإسلامي حجر عثرة في طريقه و على سبيل التسويق التجاري للايدولوجيا الجديدة تم إلحاق كوريا الشمالية و كوبا التي كانت تحجز مقعدها من وقت بعيد في أجندا الاستخبارات الأمريكية. و أحيانا يتم إضافة أعضاء غير كاملي العضوية لنادي محاور الشر مثل فنزويلا . لكن التشكيلة الرئيسية ظلت علي الدوام هي الشرق الأوسط الذي سمي كبيرا كتلخيص لحدود المهمة . انه العالم الإسلامي عربيه و أعجميه. الهدف و السانحة التاريخية:
لم يكن الظرف الاستعماري مواتيا لأمريكا و خادمتها من عجائز الاستعمار السابق كما هو الحال الآن فعلى سبيل المثال نسوق نماذج العراق و السودان و أفغانستان .
فالعراق بعد اجتياح الكويت أصبح الغصن الذي أثقله الجني ثمار يانعة و فرع تدلى , فالكرد على استعداد لبيع تاريخ صلاح الدين لأنه يجمعهم في كيان اسمه العراق و الشيعة لا يمانعون في تأخير ظهور مهديهم طالما الخلاص من صدام و لو بأيدي الأمريكان هو مدخلهم لإعادة أمجاد الدولة الصفوية و أيام تذبيحها للسنة كما تفعل كتائب بدر و تسليمها السلطة العليا للعراق بيد السيستاني الفارسي الذي يستنكف أن يرد بجملة بالعربية التي يجيدها, ليتملقه _أو ربما هذا موقفه _ الحكيم بمطالبته تعويض إيران عن الحرب العراقية الإيرانية.
أما أفغانستان فكانت التجلي المثالي لازمة العالم الإسلامي. تضييع أعظم انتصار في التاريخ الحديث ربما بالقياس يمكن تقديمه على انتصار الحلفاء على هتلر: فهتلر ربما غلبت الكثرةُ شجاعَته, لكن انتصار الأفغان علي اتحاد الجمهوريات السوفيتية حوي كل شئ ! ماذا تريد؟ القلة التي غلبت الكثرة !! الشجاعة التي غلبت الكثرة !! البدائية التي غلبت التطور !! الفقر الذي هزم الغني !! لو كان هوميروس حيا لمزق إليازته الأسطورية ليؤرخ للأسطورة الحية الناطقة الموثقة!! لكن عندما جاء الطمع : جاءت الفتنة ! فقاتل المجاهد أخاه المجاهد بنفس الضراوة إن لم تكن اشد !! و سافر شذّاذ الآراء من تكفيريي مصر ليصبوا على الفتنة زيتا على نارها الضارمة ! و ما يملأ القلب قيحا و كمدا كان ذلك بعد انتهاء الجهاد !! كان ذلك عندما كان الوقت للإصلاح . فقط بقيت ذكرى البطولات و تُرك الزمانُ لكرزاي سيدُه الخصيّ. و يتم تثبيت صورة المارينز مقابل الأُسد الهصورة عزام و سياف و قلب الدين حكمتيار و رباني و العقد الفريد. و طالبان تريد أن تعيد رسم الصورة فتوحد تحت حكمها جل التراب الأفغاني و تكاد تقضي علي تجارة المخدرات و استبدالها بالعنب لتعيد لأفغانستان مجد إنتاج الزبيب الأفغاني الذهبي. لكن كان ذلك مع بداية الاستعمار الأمريكي العنيف! ممنوع الانتصار!!!
النموذج الأخير هو هدف الدراسة التطبيقي , هو السودان فبوصول حركة الأخوان المسلمين للسلطة في يونيو يكون الرهان علي وصول الاتجاه الإسلامي للسلطة في العالم الإسلامي من الناحية العملية مقبولا . و قد رأينا كيف كانت مؤتمرات حركة الإخوان المسلمين ( دون الاهتمام بشكلية الاسم الذي اتخذته: فهي اتخذت أسماء مختلفة في أحوال كثيرة بلدان مختلفة : فهي حركة النهضة في تونس و جبهة الإنقاذ في الجزائر و لكن التنظيم ظل في الخطاب و الأدوات هو نفس الخطاب) قلت فظلت حركة الإخوان المسلمين مع مختلف البهارج التي حاول يضفيها عليها الترابي هي نفسها حركة الإخوان المسلمين . و لا يستغرب انطباع الحركة بطابع التدين السوداني الذي للتصوف المظهر الأبرز في اتجاهاتها عكس الإخوان في الكويت الذين يتماهون مع الطابع المحلي لمسلم جزيرة العرب فأخذت البعد السلفي و كذلك الحال بالنسبة للحركة الإسلامية في الباكستان و من ثم الجزائر. غير أن المأزق الذي وقعت فيه في السودان كان ذا جذور ربما تعود لفترة الستينات عندما تمت شخصنة الحركة و اختزال عنصر الفكر و الاجتهاد في شخص زعيم الحركة دكتور الترابي الذي لن تجديه عملية تأريخه للحركة الإسلامية بنفسه و الذي ادعى فيه بأن عنصر التضييق قد جعل الناس يلتفون حول الزعيم لأن العكس صحيح إذ إن ظروف الضغط و التضييق تخلق قادة متألقين عند غياب الزعيم . لكنه أي الترابي يريد حتى احتكار تاريخ الحركة لنفسه بعد أن احتكر القرار فيها لأربعين سنة. فشاهدنا علي ما قلناه أن الظروف الحرجة تصنع القادة , فكمثال من الحركة الإسلامية نفسها: في الجزائر برز نجم الشيخ علي بلحاج مخترقا الصفوف بل منافسا لزعيم الحركة عباسي مدني لكن الترابي الذي لم يفق حتى بعد المذكرة المشهورة بل و لا بعد الانقسام لا يبدو ثمة تغيير في قناعات الزعيم الأوحد الذي استمر لأربعين عاما لا يأتي الباطل ما يقول لا من خلفه و لا بين يديه!!!! و ربما يحلم البطريق في خريف عمره بعودة الأبناء الضالين لكنفه يرددون يا أبانا استغفر لنا !!! إن لم ينتظر يا أبانا اغفر لنا !!فكما كبرنا على سماع إن ما يقوله الشيخ و لو بدا ظاهره مخالفة الشرع : إنكم لا تستطيعون فهم الشيخ !! فكبر الوهم و كبرت الأسطورة فامتزج الوهم بالحقيقة و الشخصي مع العام كما مزج الصهباء نشوان !! و زاد الوهم و داعبت الشيخ أحلام العالمية ,فارتُهِــن السودان لطموح رجل واحد لا ينظر للأرض كما الناس و لكن عيونه حادة الذكاء تهوِّم لآفاق الخلافة الإسلامية لا ترضى بأقل من ذلك !!! و هكذا بدا هوس تغيير الأنظمة يعرو و بدا بعشيرته الأقربين..... جيرانه !! بدا بتشاد و نجح في ذلك و في ارتريا دعم الثوار بالغذاء و هو عنصر مهم و حاسم في الجمهورية الأثيوبية إحدى الصق أخواتنا في المجاعات المتتالية غير أنها فاقتنا بأدواء النزوح و اللجوء!!! و الخطوط الحمر تتراجع لأجل طموحه المتجه شمالا دون أن يكلف نفسه مراجعة قصة محمود ود احمد فكانت القشة التي قصمت ظهر البعير و بدأ التراجع الخطير و عصبية الشيخ تزداد و تذهب الهالة و الوقار و يبدأ الأتباع بأنسنة الطوطم و يصل ( الرَبَع) سوق الحمير و يختوه قرض و يكفكف الترابي يدينو و يداوس بنفسه و يظهر معرفة بالدارجة السودانية كما نقل عن مجلسه :( الشايقي المعفن دا) و يأتي من يحدثنا من حوارييه انه يعرف الوست و الكنكان و نحن بانتظار آخر يقول لنا ( انو بيعرف يدنكل السفة و يشنقا إذا لزم الأمر) لكن البطريق لا يعترف بخريفه!!!! و يرتهن السودان و شعبه !! و الباقي معروف حروب من ثلاث جبهات و أخرى( النوبة) يدشنها بوش عما قريب.
بعد هذه الصورة التقريبية لأحوال العالم الإسلامي , تشرع أمريكا لتنفيذ مخططات لم تستوِ علي نار هادئة كما هو المتوقع بعد النهضة العلمية العالمية و نمو مقولات حقوق الإنسان . فبدلا من ذلك ظللننا نسمع قوانين و مشاريع قوانين عقوبات دول العالم الإسلامي تتسابق في أروقة الأجهزة التشريعية و منتدى الدردشة العالمي مجلس الأمن الذي لا بيهش و لا بينش .
أما ما يميز هذه الهجمة هي عدم اكتراثها للإخراج الجيد : كأن عالم اليوم لا يسمع و لا يشاهد و يحلل . إنها تستلهم التاريخ الاستعماري لا من حيث انتهى في صناعة الذرائع و إنشاء الأحلاف الوطنية , و لكنها ترتد لمرحلة ما قبل اختراع الطباعة . لذلك أصبحت تلعب بخطة واحدة و مكشوفة تستقطب اضعف فئات المجتمع تأهيلا للقيادة السياسية و البناء الاقتصاد و إدارة الدولة, حتى تكون بحاجة أمريكا في الصغيرة و الكبيرة لأن افتقارها آنذاك لأمريكا سيكون حقيقي . و بدورها أمريكا تستعين بالقوي القديمة كمرتزقة لديها ( كرزاى مثالا) و لهذا في خاتمة هذا المقال تلح على ذاكرتي بقوة رواية George Orwell التي منعت من دخول المعسكر الشرقي _مع أن جورج أُورويل كان اشتراكيا_ و أخشى إن ترجمت روايته ( إن لم تكن قد ترجمت بعد) من دخول العالم العربي . إنها رواية Animal Farm عندها _لا سمح الله إن وقع هذا السيناريو _ سيعي السودانيون جلابتهم ( الاسم المفضل لمناهضي البشير) و زغاوتهم و بجاهم و لكن عندها سيكون ما أشقاه من وعي. الله يكضب الشينة!!
*الإشارة للوثائقي الذي بثته العربية حول دعوى وصول القمر.
و أيضا كتيب لسماحة الشيخ عبد الكريم بن صالح الحميد بعنوان دعوى وصول القمر و فيه يورد شهادة كاتب غربي ذكر أن اسمه بلكسنج كتب كتاب _كما يذكر الشيخ حفظه الله – بعنوان: " تكاليف باهظة و قصة بارعة" تدور حول الفيلم الذي صوِّر و تم تسويق فكرة الوصول للقمر به.