هل للذكاء شرط اساسي ان يرتبط بالاخلاق و نجاح المعتقدات الفكرية
الصالحة و الشخصية الناجحة و الصالحة في المجتمع ؟ " هل يتحتم ان يكون الذكي
حسن الاخلاق ؟ قد يبدو هذا معقولا , فالذكي اقدر على التبصر في عواقب سلوكه
من غير الذكي . غير اننا يجب ان نذكر ان الذكاء ليس الا عاملا واحدا من
العوامل الكثيرة التي تسهم في تعيين السلوك و توجيهه. فالى جانب الذكاء هنالك
الدوافع الشعورية و اللاشعورية, و ما لدى الفرد من معايير و مثل اخلاقية هذا
فضلاً عن قدرته على ضبط النفس و مقاومة الاغراء . قد لا يعز على الفرد ان يميز
بين النافع و الضار , بين المباح و المحظور لكنه يعجز عن ضبط اندفاعاته. بل قد
يكون الذكاء عونا على التمويه و التعمية و اخفاء ما يتورط فيه صاحبه من خطأ او
سلوك معاد للمجتمع. و بعد هذا كله يمكن ان نقول ان الذكاء يزود الفرد بالوسائل
لا بالدوافع" هذا ما قاله الدكتور احمد عزت في كتابه " اصول علم النفس"
الاجابة علي سؤالنا موضوع هذا المقال يبدو واضحا لا ريب فيه . اذا اردنا
ان نخوض في المرجعيات السايكولوجية للنخب السودانية التقليدية ذات الفكر
النخبوي . تبدو لك في سوآت النتاج السياسي السوداني و مناحيه التي تبدو
متأرجحة بين الفكر و الآخر و بين التجربة و الاخرى .
لا شك ان السودان وطن حبيب و قطر ممزق من ناحية الخارطة الفكرية و السياسية
مما اصاب الثقافة و الارث الاصيل بحور دائم و اصابها بحنين الى الاصل و
الكينونة . و العقود التاريخية السابقة تدل على صدق الميراث الحاضر من وحشية
في الحكم و تكتلات عرقية و دينية و اجتماعية و ازمات حادت به عن جادة الطريق و
اسلمتة الى سلطة الحاكم الوحشي الظالم واحدا بعد الآخر لا ينفك عن رعاية
المفكر اللااخلاقي تحت اغطية الوطنية و العقيدة الواحدة الملزمة للآخرين دون
دراية كافية و كلها اغطية خادعة لعموم الوعي العاطفي كل في اتجاهه , و ما
كانت النتيجة الا نتاج استخدام خاطي للذكاء دون قيمة اخلاقية .
لم تنفك النخبة التقليدية تنخر بنيان السودان من درك لآخر حتى وجدت نفسها معه
من جراء ممارسة الترف النفسي و الاجتماعي و فوق ذلك كله العلمي و المعرفي .
ان الاختلال الفكري و الاختلال القيادي لم يكونا صدفة بل جاءت نتائج صادقة
لممارسة تاريخية واقعه لنوع من التربية الوافدة سواء اكانت ارستقراطية ام
برجوازية لم يكن السودان يعرف طبقة النبلاء او الاقطاعيين الا عندما عرفها
هؤلاء المفكرون ثم داعبت ذكاءهم الفطري و ذكرياتهم الاسرية فجعلوها انتصارا
جديدا للشعب الكادح . الذي اصبح كثير من قطاعاته قراصنة يسرقون مغتنيات الشعب و
شموخه .
فقدت النخب السودانية العقدية مصداقيتها منذ ان بدأت تقلد التاريخ الاسلامي
في حوادث ليس جدير بها ان تقع الا في ازمنتها نسبة لظروف نفسية و اجتماعية و
موضوعية تخص مفكريها . كان معتزلة واصل بن عطاء قد اختلفوا في مسائل عقدية
دينية كالحكم على مرتكب الكبيرة و الحديث في القدر , فاعتزلوا المسلمين و
اعتزل واصل بن عطاء حلقة الحسن البصري . و قال الحسن: " اعتزلنا واصل" كما انهم
قالوا باعتزال مرتكب الجريمة . اذا الاعتزال الاول كان سببه ديني فالوجه
الآخر للاعتزال سببه سياسي اذ ان شيعة علي اعتزلوا الحسن عندما تنازل لمعاوية
فاعتزلوا الفريقين . وان كان من وجهه نظر اخرى ان الاعتزال هو ثمرة تطور تاريخي
لمباديء فكرية و عقدية وليدة النظر العقلي المجرد في النصوص الدينية نتاجا
للفلسفات اليونانية و الهندية و العقائد اليهودية و النصرانية .
و هذه الحقائق آنفة الذكر ليست ببعيدة عن مؤدلجي الحركة الدينية و العقدية في
السودان . كما يهمنا هنا الخلفيات العقدية و الدينية للاحزاب التقليدية و التي
يحسبها الكثير من المراقبين انها آلت للسقوط مبكرا و شاهت خلفياتها بالتالي
انسلخت عن جلودها المتنوعة في كل حقبة . و عندما نأخذ تجربة جبهة الميثاق التي
تفتتت عدة مرات الى ان وصل بها الحال الى مؤتمر وطني و مؤتمر شعبي في شقين
متناحرين مختلفين اعتزل بعضهم الآخر فاعتزلهم الشعب . فقال اتباع الترابي
:"اعتزلنا الترابي فعزلناه" فتفرقوا غير آبهين لشيء ليجتمعوا في شتات جديد بثوب
لا ينقصه الاهتراء اذ يقبض على جنباته ذوي حرص شديد دافعهم الخوف و عدم الثقة
فتنكسر الرغبات القديمة و تظهر على السطح الفضيحة . فتشيعوا الى شيع جماعة
تتبع الترابي و هم لم يدركوا بعد طعم النعمة التي كانوا يوعدون او وهم الدولة
التي كانوا يرجونها فهبوا من جديد بعد الهزيمة يطعنون و يلمزون مرة في شخصيات
و مرة في معتقدات حتى صار شكل المناكفات من بعيد و من الدهاليز اشبه بالعبط
السياسي و بخيبة الذكي الذي لم يوظف وسائله فاصيب بالافلاس , بعدما ابعد من
احب ممارساته في ارضه المحببه .
وجماعة اخري منتفعين تشيعوا ليقبضوا مقابل ما ابلوا من اجله بلاءً , و قادوا
الحركة المتقطعة الاوصال و بينها النطيحة و العرجاء . تحاول ان تخرج ما في
جعبتعها جراء الصراع المحموم الذي تبدو ملامحة مخفية و لكنها واضحة وضوح الشمس
. صراع لا رفق فيه بأخ او صديق او تابع ما لكسرى لكسرى و ما لله لله . تمارس
فيه وحشية القياصرة التي تؤدي بهم الى الدير كما فعل "ايفان الرابع" قيصر
روسيا في اخريات حكمه كان يعول على الروح اكثر من العقل و رقم اعلانه الحرب
على السلطة الكهنوتية الا انه اخيرا انسحب الى الحياة الرهبانية. و ربما اتعظ
هؤلاء الرهبان السياسيين في بلادي من ايفان الرهيب و سخرية الاقدار توقعهم في
شر اعمالهم ويقنعون ان هذا ليس الا تطهير ديني .
مصائب عدة يرثها من لا ذنب له من الشباب الحاضر ويقع فريسة مترفي السياسة
اللاواقعية . ليس لهم ذنب الا انهم اتوا الى الدنيا و تقودهم خطاهم ان يترعرعوا
في بلادهم و هم كارهون . من يصدق ان النخبة هم الذين اتعسوا السودان و جعلوه
بؤرة لا تطاق من الحروب و التمزق . ممارسين سياسة المعتزلة في اروقة الحكم من
على ظهور جيادهم ضد الاحزاب الاخرى زعما منهم انهم الاوصياء على الشعب الاعزل
الذي اعتزله ابناؤه البرره و يوقعون العقاب القاسي على مرتكب الكبيرة حسبما
يظنون. و لكنهم لا يصبرون على اى رأي مخالف فيهرعون الى قتله في بادرته . ولكن
الصراع القائم في البلاد العربية و الاسلامية لا يشبه تلك الصراعات و الجدالات
في البلاد غير العربية و الاسلامية . فالاسرة العربية تفرخ افرادا و جماعات
تهتز في دواخلها و تعاني عقدة الذات و صراع المؤسسات و فرز الافكار وتدجين
الظلم و ممارسة البيرقراطية السلطوية و قتل الديمقراطية من الاسرة الى القاعدة
العريضة في العمل و المدارس و الجامعات . و من هذا الوصف يحق لكل فرد و ان كان
جاهلا ان يصف السلطات العربية التي تحكم شعوبا اسلامية لها تقاليدها الخاصة
بها انها سلطوية لا تمارس النقد الذاتي ابتداءا من الاسرة انتهاءا بالدولة
مرورا بكل مؤسساتها .
النخب التي غرقت في الترف منذ دخولها للجامعات فقادتهم افكارهم الي قلب الواقع
في افكار اشبه بالحقد ففتحت المجال واسعا لممارسة سوء الظن بالآخر . فبناء
الدولة غير مقبول عقليا و منطقيا ان يقوم بنيانها مؤثرا علي حقوق الشباب او
على حساب الانسان بصورة عامة , ان البنيان الذي يقوم على تغليب مصلحة حزب حتى
تحيط باحلام الشعب ما هو الا هدم فكري مقصود وضعف لانه حينذاك لا يستطيع
المفكر ان ينشر افكاره في بيئة سليمة نقيه.
فقادة الاحزاب التقليدية الثلاثة ( الامة-الاتحادي – و الجبهة الاسلامية) ما
هم الا قادة معزولين عن قواعدهم
و احزابهم بها عطب اصابها منذ آماد بعيدة فانتقلت العدوى لبقية الشعب بالممارسة
الوحشية . حقائقها مقفلة على قادتها التي لا يطرأ عليها التغيير و من هنا جاءت
فكرة الديمومة القيادية الواحدة و تبجيلها لدرجة التأليه
يكفي الصراعات التي تبرز كل حين حتى من مثقفيها في الانسلاخ و عدم الرضا بثبات
القيادة هذا يودي الى عدم تغير الآراء و المواقف حسب تغير الزمان و تصلب الآراء
مما ادى الى طول امد الصراع في السودان . و أخذ الناس يتحدثون في جدل مثير و
طويل و يتساءلون ما اذا كانت هذه القيادات ستنقرض ام لا؟ و هل هنالك غيرهم من
يخلفهم ؟ الا يجدر بهم ان يكلفوا تلامذتهم وذلك فخر لهم لانهم تتلمذوا على
ايديهم ؟ ام انه حب السلطة و التسلط ؟ الذكاء الاكاديمي الذي يتصف به كثير منهم
لا يجدي نفعا امام الميول و الدوافع الثابته اذ يجعل طبيعة الطريقة التي يؤدى
بها العمل السياسي بسيطة اشبه بتفكير البسيط العادي. شكل الكارثة التي المت
بالسودان سياسيا و اجتماعيا ما هي الا نتاج سلوك فوضوي احتكاري المنشا و النشاة
. و من الضروري ان يجعلهم غصبا عنهم جهال في السياسة الخارجية . لان القيادي
الذي يحمل في داخلة فكرة الوطن مجزأة لم يكن يوما هو ناضج . لان سلوك التجزأة
خاصة في حالة التعامل مع مشكلة الجنوب و هى المشكلة الاهم في السودان منذ
الاستقلال جعلته و بمفكريه مدعاة للسخرية في اوساط المثقفين و المجتمعات
الدولية . و هذا الداء الذي صنعوه و خاصة الجبهة الاسلامية اصبح ثقافة تافهة لا
داعي لها فكرست ثقافة الانفصالات في السودان و تكريس الفهم الاسلامي الخاطي ادى
الى تمزيق الجسد السوداني و وصف برجل افريقيا المريض رغم ان السودان غني
بالثروات. فجعلوا المشكلة اسلامية فعمقوا الشقاق في سبيل التعايش السلمي . لكن
هذا لا يرجع الا لتضخيم الافكار و تهويلها . لم تعد هنالك مشكلة في ان يعيش
المسلم و المسيحي في رقعة واحدة فهنالك مثال حي في دولة مصر يتعايش المسلمين و
المسيحيين في بلد واحد و لا تعرف فرقا بينهم . و نسبة لان الفكرة اصلا صماء لا
معنى فيها مما ادي الى ظهور الاختلاف الفكري بين افراد الحزب الواحد تجاه هذه
المشكلة الهامة .
لقد عاش الناس في مأسآة طويلة تشكلت فيها كل صنوف العذاب و ابتذال القيم لم يكن
الدين ليفعل هذا في المجتمعات المدنية التي اغلبها من المسلمين فالصراع هنا ليس
حقيقة اسلامي لان نتاج هذه الافكار حتى للرجل العادي لا يفسرها الا اطماع حزبية
فقط. و الزخم الاعلامي و الفكري الغير مقنع لكل حزب من الاحزاب التقليدية لم
يجدي نفعا لانهم جربوا الحكم و رومانسية الافكار هي ما عصف بحكوماتهم التي لم
تستطيع ان تقنع الناس و لو ليوم واحد . الم يحن الوقت ان يعترفوا باخطائهم كما
فعل شيخ الاسلاميين بعدما فقد السلطة و عندما عرف انه فارق جماعته او هي من
فارقه تأكد ان لا سبيل يعيده الى الحكم مرة اخرى من غير زمرته و كرر مرة اخرى
التعصب و مداعبة الافكار الهوجاء . فخير لهم ان يعتزلوا المجتمع و ان يتفرقوا
الى كتابة مذكراتهم و ليدعوا الشباب و الفكر الجديد و المعاصر ان يشقوا الطريق
الى المستقبل. اذ انه لا عقبة تعترض الطريق غير شخصياتهم . و من الاجدى لهم ان
يعودوا الى ديرهم و خلاويهم حتى يتطهروا من ذنوب العباد الذين حملوا الامانة
عنهم من غير رضاهم . فلتصبح توبة عن السياسة نصوحة حتى تقبل منهم و يرضى عنهم
الشعب و يكفي ان ينظر اليهم بعين الشفقة بعدما ان يشق السودان طريقه نحو آفاق
ارحب . بعد صياغة النفسية المريضة التي تشبعت بالافكار الانفصالية و التي يجنون
ثمارها الآن . و ان صوت الجنوبيون للانفضال فلا احد يستغرب هذه الخطوة لانها
نتاج طبيعي لسياسات تعسفية و قمعية لا علاقة لها بالعقيدة و الدوافع العقدية.
لان الذي تشرد من وسط اهله و بلدة بايدي اخوانه لا يغفر ابدا و رغم اننا ندعو
بالوحدة لبلد واحد تسوده ثقافات متعددة و وشائج مرتبطة .
بقلم : أ . احمد يوسف حمد النيل- الرياض