صديق أحمد
صناجة الشمال (1)
بقلم / سيف الدين عيسى مختار/ جدة
لا يسع المرء الا أن يشد على يد الفنان صديق أحمد في تحية خالصة وهو يبحر في أعماق الكلمة يخرجها من صمت الحروف لتحمل عبق الجروف وقد شربت الندي وتدثرت بالهمبريب، حتى اذا اكتملت توهجا وألقا عبرت الى الناس في كل مكان بذات الانسيابية والعمق 0
من خرير المياه في رحلتها الأبدية الى الشمال، ومن صفاء النهر الخالد حين يمنح الرواويس مساحة للصفاء والخيال والأمل، ومن نواح السواقي، واشتعال البيادر قمحا وسنابل، من ألواح الخلاوي حين تضمخ المكان بالقران ينداح من حناجر الحيران بركة وفألا ورحمة، من دعوات أم صابرة، من شبال امرأة تمتد في الوجدان سهلا وربوعا وبقاع، من كل أشكال الجمال المتجسد في مناحي الحياة في الوطن الحبيب، اتحذ صديق أحمد آجره التي ينحت منها ألحانه وأغنياته المنحازة أبدا الى المعاني الانسانية في أرقي وأرفع درجاتها، وأصبج بذلك علامة مميزة في خارطة الغناء الشمالي بصفة خاصة، والسوداني بصفة عامة0 بل أصبح المحطة الأهم في مسيرة أغنية الطنبور، وبصمة مميزة في هويتها0
لم يتخذ صديق أحمد الفن منديلا حريريا يجفف به حبات العرق المتساقط من لهاث الأغنيات ، بل جعل منه قضية وضرورة ملحة، ورسالة تعبر عن الوجدان في أصدق تجلياته، لقد تمثل دوحة الشعر الشمالي وتفيأ ظلالها الوارفة، ليتخير كلماتها الفخمة الفارهة، لم يعتمد على مكانة الشاعر في اختيار الكلمات بل استرشد بذوقه الرفيع وموهبته الصادقة التي صقلها بالدأب والمثابرة0
شكل ثنائيا متناغما مع الشاعر الملهم عبد الله محمد خير، ثنائية لم تمنعه - وقد بسطت مائدة الشعر السوداني أمامه- من أن يتخير منها الأجود والأكثر هضما لدى المتلقين الذين احترم ذوقهم وخبر احتياجاتهم، وكانت العلاقة التي حرص عليها هي تلك التي تربطه بالمتلقين الذين بادلولوه نفس الشعور وألهموه دفق الاحساس بقضاياهم وأمنياتهم وتطلعاتهم، فما أن يكتمل عمل فني جديد في معمله الابداعي، الا ويسري في وجدان الناس ويستقر في دواخلهم كنوع من الخدر الجميل، وبهذا الاحساس استطاع أن يحيل اشعار المبدعين الى ديوان يكتب بمداد الروح يحمله اللحن الأصيل الى كل بيت فيفتح النوافذ مشرعة لأشعة الشمس ، وكما فعل الفنان الراحل مصطفي سيد أحمد الذي استطاع أن يفرض مستوى محددا يتبعه الشعراء الذين يريدون التواصل مع الجمهور عبره، فاتقنوا صنعة الشعر مبنى ومعني، كذلك فعل صديق الذي كان اختياره للكلمات تصريح مرور يجب الحصول عليه، لكنه لم يفرض أسلوبا معينا كمصطفي سيد أحمد بل اكتفي بالايحاء0 غنى للمبدع عوض عبدون ، وللسر عثمان الطيب، وحسن الدابي، ومحمد الحسن سالم حميد، وعلاء ابو سير ، وخالد شعوري، وعبد الله كنه، وصديق محمد طه ، وصديق حسن الدابي، وغيرهم من الشعراء الشباب والمخضرمين0
لقد استطاع صديق أحمد بالكلمة المموسقة واللحن الجميل أن يؤرخ لجميع نواحي الحياة، يؤرخ لتلك الأحداث التي تغفلها كتب التاريخ، يؤرخ للحياة الاجتماعية في تفاصيلها الدقيقة، ووجدانها المتدفق وعلاقاتها الانسانية، تغنى للحب، لعاطفة الأبوة والأمومة، لتلك العلاقة التي تربط الانسان بالأرض، للطبيعة، للفأل السمح، للمرأة حين تصبح عنوان حياة متخيلة في رحم المستقبل، أو حين تصير هي أصل ومنتهى الأشياء، تغني للاغتراب ، هذه الحركة الارادية التي تشكل قطيعة قهرية مع الماضي، خاصة تلك الغربة التي تكون بلا عنوان أو هدف:
لا خلا عنوان للبعاد
لا حتى وصى على البلد
يا حليلو روح وابتعد 00
رصد لحظات الوداع في محطات الرحيل مع علاء ابو سير فابدع في نقل صورة حية لزوجة تحرمها التقاليد من التعبير عن مشاعرها وهي تفارق رفيق زوجها، تغني لكافة انماط المواصلات من الدواب والى أحدث أنواع النقل الجوي، وأرخ بشكل يكون فيه متفردا عن غيره من الفنانين لطريق أم درمان دنقلا، منذ أن كان عمر عبد السلام باسطوله من البصات أول من أنشأ شريان الشمال، والى أن بدأ مشروع الشريان الذي بظهوره اختفت ذكريات عديدة مع هذا الطريق، واليصات الشمالية لم تكن وسيلة للمواصلات فحسب، بل كانت تحفة تشكيلية رائعة يتفنن السائقون في تزيينها بأشكال من الديكور والعبارات التي تحث على تحمل وعثاء السفر، كما كان السائقون يحرصون على حسن استخدام الة التنبيه (البوري) في كل محطة يصلونها أو يغادرونها بعزف أشهر الأغنيات عليها، وقد بلغ عشقهم للنغم الجميل أن غيروا من صوت الماكينة باضافات تجعل من صوت الماكينة أثناء سير الحافة على الرمال الموحلة أشبه بالأنين والنواح وهو ما يتناسب تماما مع الحالة النفسية للمسافرين الذين يشعرون بنوع من الحزن لمن خلفوهم من ورائهم، لقد استغل صديق أحمد هذه الوسئلة الاعلامية خير استغلال حين تغني بأمجاد السائقين الذين ما توانوا في قصر أجهزة التسجيل بحافلاتهم على أغنيات صديق فقط، وتعتبر أغنياته رصدا للمحطات القديمة0 حين تغني للسائقين قبل مرحلة الشريان كان يبدأ الرحلة من الجنوب (من ام درمان) فيعدد المحطات ومناطق الوحل ومشاعر السائقين والمسافرين، وحين تغني للحافلات السياحية الحديثة بدأ من الشمال واصفا أهم المحطات التي اختصرت الى اثنين أو ثلاثة (القبولاب- التمتام - الحميدي)
خلاص انا هبت رياحي
صفا لي زمان ارتياحي
الزال المي وجــراحي
قام بالتوفيق السياحي
وهو لا يكتفي بذكر المواقع والديار في وقوف اشبه بوقوف أمريء القيس وغيره من الشعراء القدامي، بل يدعو للسائق
من عند الفاتح قيامـو
ختم ورقو وأخد تمامو
يا ربي تبارك ايامـــو
وتعدل الخطوة قدامو
صديق أحمد مثال للفنان الذي يحترم فنه ويسعي لتطويره، وهو يدرك أن الايقاع الواحد قد يصيب المستمعين بالملل، لكنه يعوض ذلك بالاداء المتجدد وحسن اختيار الكلمات والاستفادة القصوى من امكانياته الصوتية اضافة الى اشراكه للكورس في العملية الابداعية، والكورس جزء أساسي في الأغنية الشمالية، والعلاقة التي تربط الفنان بشركائه في العمل الفني هي علاقة ينبغي أن تتخذ نموذجا للتكامل الفني الذي يهدف خدمة الأعنية، وخاصة عند صديق أحمد وكل من المعتصم تميم والمقداد عيسى ، فاذا قدر لك أن تشاهدهم عن قرب أدركت تماما لماذا نجح صديق فالمقداد والمعتصم عنصران مهمان في الأغنية الصديقية، ولكم كان ذلك المنظر مؤثرا في أول حفل يقيمه صديق بجدة بعد عودته من السودان مطلع العام 2005م، فقد جاء والحزن في عينيه من فقده لأبنه عليه رحمة الله، ثم تعرض لأزمة صحية أثقلت حركة يده اليمني ولم يقو على العزف على الطنبور، ورغم ذلك اصر على اقامة الحفل في موعده وعلى الغناء أيضا رغم المحاذير الطبية، وقف شامخا يغني والمقداد يعزف له الطنبور والمصفح يقود الكورس في تناغم وانسجام بديعين0
اذا علمنا هذه المكانة العظيمة لصديق أحمد في وجدان أهل الشمال بصفة خاصة والسودان بصفة عامة، ندرك عظمة الدور الذي قام به رجل الأعمال الاستاذ صلاح الدين ادريس الذي تكفل بعلاجه كما هو دأبه دائما في الاحساس العميق بالأخرين، وهذا هو المؤمل من رجل يتعامل باحساس الفنان المرهف، وينطلق في كل أعمال الخير التي يقدمها من نفس صافية يعجبها أن ترى البسمة تعود مرة أخرى الى الشفاه، وأن يعود صديق أحمد معافي يحلق في الوجدان ويرتحل بنا الى أجمل المدارات، ونحن أبناء الولاية الشمالية لا يسعنا الا أن ندعو لصلاح ادريس (يا ربي تبارك أيامو وتعدل الخطوة قدامو) ولعلى أطمئن هنا كافة محبي ومعجبي صديق بأنه كان قد تعرض لوعكة طفيفة عوفي منها، لكن الاستاذ صلاح ادريس أراد أن يجري له فحصا طبيا شاملا للاطمئنان عليه وأجراء اللازم له لتفادي الوعكات التي تنتابه من آونة لأخري، نسأل الله أن يمن على صديق أحمد بالشفاء التام والعاجل شفاء لا يغادر سقما ان شاء الله0
ملحوظة: الصناجة هو الشاعر والمغني الذي يتغني بمآثر الشعب ومناقبه ويتولى عن طريق الكلمة الدفاع عنه وعن موروثاته، وقد أطلق هذا المصطلح على شعراء الأغريق الذين كانوا يتولون مهمة تحميس المقاتلين أثناء المعارك ، كما أطلق على الأعشي (صناجة العرب) لأنه كان يتجول بشعره بين القبائل العربية المختلفة ويتغني بالمآثر والقيم العربية، والصناجة بهذا المفهوم مصطلح أكثر ما ينطبق على الفنان صديق أحمد0
صديـــق أحمـــد
صناجـــة الشمـــال (2)
في الحلقة الأولي من هذا المقال، أشرنا أشارات عابرة الى ريادة الفنان صديق أحمد في مجال الغناء لوسائل المواصلات المختلفة، والتأريخ لأهم محطات طريق دنقلا ام درمان0 واكتشفت من خلال اتصالات القراء العديدة، بعد نشر المقال، أن هذا المنحى الذي أتجه اليه صديق أحمد والشعراء الذين تغنى بأشعارهم، وعلى رأسهم الشاعر عبد الله محمد خير، يعتبر خلاصة التجربة الشعرية السديدة، وثمرة الذوق المرهف للانسان الشمالي0 وهي تجربة غذاها المحيط الذي نشأ فيه هذا النمط من الفن بكل ما توفر فيه من انطلاقة فكر، ورحابة صدر، ورقة عاطفة، ورهافة ذوق، وجمال طبيعة0 وهي معطيات ان توفرت في بيئة ما، كان الابداع فيها ذا قيمة انسانية عالية0
وقبل أن نسترسل في هذا الصدد، أقرر هنا بأن مادة هذا الموضوع كان قد أمدني بها بعض الأخوة الأفاضل، منهم الأستاذ حاتم حسن محجوب الذي جمع لى أسماء المحطات أو الاستراحات التي كانت تنتشر على طول طريق اللواري القديم بين دنقلا وأم درمان، نقلا عن أحد مشاهير السائقين في هذا الطريق، وهو العم عبد الرسول الشهير بـ(كمبه)0 كما اتصل بي الاستاذ الشاعر بابكر محمد محمد خير وأملى على بالهاتف النقال قصيدتين للشاعر عبد الله محمد خير هما: (صابر جرا) و(السموم با فيصل الحر)0 وكان للشاعر علاء الدين ابو سير الدور الكبير في تنشيط ذاكرة الاستاذ صديق أحمد لتذكر أشهر الأغنيات التي تناولت السفر والمواصلات، في ذلك اللقاء الذي تم مع صديق في مستشفى المستقبل بجدة، وهو يتأهب لمغادرة المستشفي بعد أن تماثل للشفاء0 واكتشفت أن علاء أبو سير يكاد يحفظ عن ظهر قلب كل أغنيات صديق0 وقد ذكر لي الاستاذ صديق أحمد بأن الاستاذ صلاح الرشيد بالرياض يحتفظ بأكثر من مائة وعشرين كاسيت تحتوي على كافة أغنيات صديق أحمد، وهو يحاول الاستفادة من التقنيات الالكترونية الحديثة بنسخها على أأقراص مدمجة حفظا لهذا التراث الثقافي والفني الكبير0
لقد قدر لانسان الشمالية -نتيجة لأسباب مختلفة- أن يعرف الهجرة الى بلاد الله الواسعة طلبا للعلم والرزف0 ومن ثم فقد كان الحنين والشوق للبلد أو للمسافرين هما القاسم المشترك الأعظم في أدب هذه المنطقة من السودان0 وقد شكلت وسائل المواصلات المختلفة من دواب (الحمير في المسافات القصيرة، والجمال في المسافات الأبعد قليلا)، ثم المراكب الشراعية فالمركبات البرية والبحرية والجوية المختلفة) شكلت أهمية قصوي في وجدان الناس هنالك ترجمت بشكل واضح في أنماط الأبداع المختلفة لهذه المنطقة0 فالطيب صالح مثلا وهو يعيش في مدينة الضباب (لندن)، حيث الحضارة الأوربية التليدة، ووسائل المواصلات والنقل المتطورة، يتذكر وبالتفاصيل الدقيقة رحلة بالحمير لأبطال روايته (مريود) يقول: " كانت حوافر الحمير تقطع في الحصى، محدثة نغما نشطا متحفزا، يتزعمها حمار سعيد في أقصى اليسار، تليه حمارة ود الرواسي التي تسير بلا جهد مثل شخص واثق من مقدرته، ثم حمار سعيد القانوني، وحمارة محيميد في الوسط0 وفي اليمنة حمارة أحمد أبو البنات، وعلى بعد منهم حمار عبد الحفيظـ يسير كأنما وحده، يسرع ويبطيء، كان عبد الحفيظ صامتا يحرك حبات مسبحته، وقد وضع عنان الحمار على حافة السرج"0 وهي رحلة لا تنتهي بانتهاء المسافة الزمانية والمكانية، بل تمتد لتشمل العمر كله، تنداح كالحلم الجميل، والذكريات الدفينة، لآنها كانت رحلات ذات ايقاع بطيء تتثبت من خلالها صور الأمكنة والناس في الذهن، فتتولد منها تلك العلاقة الحميمة مع الواقع0 وهي أساس هذا الحب الذي يحسه الفرد تجاه الأرض التي ترعرع في أحضانها0 وهي ذات العلاقة التي ربطت العربي بناقته، التي كان وهو يتوصل على ظهرها يبثها لواعج النفس وهموم الذات، ويجتر من خلال حركتها الرتيبة أجمل الذكريات0 واقرأ ان شئت المعلقات السبع والشعر الجاهلي، وخاصة معلقة أمريء القيس لتجد سيل الذكريات، وأمواج الهموم تتلاطم في نفسه وهو في رحلته المصيرية لاسترداد عرش آبائه المضاع0 أو اقرأ ان شئت المدائح النبوية التي تصف رحلات الحجيج السوداني الي الأراضي المقدسة وقد تناول المادحون فيها جميع أعضاء الجمل أو الناقة بالوصف الدقيق الأسر طالما انها تحملهم الى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم0
انها علاقات التوحد بين الذات الانسانية، في تجلياتها الصادقة مع الأخر الذي لا تتحقق غاياته الا به0 بعد ذلك يمكن أن نجد تعليلا لهيام الشعراء بالمواقع، وذكرها بالتفصيل في أشعارهم0 انها علاقة الانسان بهذا المكان0 هذا المكان الذي قد يبدو في فترة من الفترات مدار الشقاء والألم والمعاناة ، وحين تنقشع مسببات الألم والمعاناة يصبح المكان ذكريات جميلة، وموضعا أنقضت فيه لحظات من الحياة ينبفي أن تسجل0 وما العمر الا تلك العلاقة بين الزمان والمكان0 غير أن هذا المكان قد يصبح أحيانا في غاية الرومانسية الحالمة، عندها تنطلق النفس من أسرها وتسبح في فضاء الابداع المتجدد، مثل ذلك الرواسي الذي يتكيء على الدفة وقد هبت عليه النسمات عليلة تحمل عبق الجروف، وقد أقمر الليل، وهدأت الأمواج الا من صوت ارتطام متقطع بالمركب في ايقاع منتظم يغري الرواسي ليوقع على طمبوره أجمل الأنغام يطرب لها سكان الضفتين الذين تصلهم أنغامه واضحة المقاطع، شجية الألحان0 وتساعدهم مياه النيل المنبسطة على نقل الصوت الى مسافات بعيدة0
أكاد أذكر الآن، أنني كنت استمع الى هذه الأنغام، وأطرب لها وأنا ملقى على فراشي في منزلنا الذي يبعد عن النيل مسافة ليست بالقصيرة، ولم يكن يشوش تلك الأنغام الا صوت المذياع المنبعث من راديو قديم في قوز العرب الرابض على هضبة مرتفعة في أقصى شمال قريتنا، وقد تعود أحدهم تقليب المحطات الأذاعية في منتصف الليل بحثا عن البرامج المتنوعة، كان صوت هذا الراديو يسمع من مسافات بعيدة جدا حيث لم تعرف القرية وقتئذ مكبرات الصوت أو الساوند سيستم، كما لم تكن قد غزتها بعد تلك المضخات العملاقة، والطلمبات ومولدات الكهرباء التي أحدثت ضجيجا شرخ غلالة الهدوء والسكون الذان كانا يسودان القرية، ومن ثم فقدنا ميزة الاستمتاع بتلك الألحان الصادقة الموقعة على أوتار الطبيعة البكر، ولله الأمر من قبل ومن بعد0
هؤلاء الناس في الشمال والذين يوحدهم الطمبور فنيا، كانوا يعتبرون بقية أنواع الغناء ترفا لا يحبذ تعاطيه، بينما كان الطمبور لديهم -وما يزال- يحظي بالاحترام والتبجيل0 وهؤلاء الرواويس هم الذين ساهموا في تطوير فن الطمبور ونقل ألحانه بين المناطق المختلفة في الشمالية0 فالطمبور آلة نوبية قديمة يسمى (الكسر) بالنوبية، وقد انتقلت هذه الكلمة الى اللغة اليوناية واصبحت (قيثر) عربت من بعد الى القيثارة وأصبحت اسما لآلة هوائية بدلا من الآلة الوترية والتي هي أساس الأسم0 التطوير الذي أدخله العرب على هذا الفن يكمن في تلك الكلمة العربية الرصينة والايقاع الراقص (الدليب) وان كان الدليب في الأساس مولد من ايقاع الجابودي، والجابودي ايقاع نوبي قديم0
هذا الفن الذي تشكل وفق البيئة التي وجد فيها، كان أمينا في نقل تراثها وحفظ مآثرها، فعجلة التطور تدور، وتطوي في دورانها العديد من المعالم التي كانت نابضة بالحياة والحركة ذات يوم، وقد تهملها كتب التاريخ، لكن الفن هو الذي يخلدها لأنه يعيدها حية في الأذهان والوجدان، فالقطار الذي دخل وعم استخدامه أنهي الى حد كبير قوافل الجمال، لكن الفن هو الذي حفظ لنا اسم أشهر الجمال وهو جمل ود عطاية الله، وهو من عرب القراريش وكان يتفاخر بجمله لسرعته الفائقة، وقوة تحمله حتي انه سابق القطار عند أول ظهوره بالمنطقة وسبقه (جمل ود عطاية الله ، سيدو مزودو الغلة)0 والقراريش والكبابيش والهواوير وغيرهم من القبائل العربية هم اصحاب ابل ساهموا في اثراء الفن الشمالي بما أضافوه من أشعار رائعة وايقاعات العرضة0 وقد أوحت رحلاتهم الى وادي العطرون والى مصر عبر طريق الأربعين بالعديد من القصائد الحماسية مثل قول شاعرهم،
درب الأربعيـن صعب يــــا صـاح
ما بشقو ناس يا يمه زيـدي ملاح
وكما أنهت القطارات السريعة قوافل الجمال فقد حجمت البواخر النيلية سفربات المراكب الشراعية0 فهذا الشاعر عبد الله محمد خير لم يعجبه ذلك البطء الشديد في حركة البواخر النيلية التي افتقرت الي رومانسية المراكب وافتقدت سرعة المركبات الحديثة، وقد وصفها عبد الله محمد خير في أغنية لصديق أنها لا يتحمل عذاب الانتظار فيها الا العاملون عليها والذين ينسيهم السكر ويلات البطء والرتابة يقول::
رحلة ألم وعلي قسم
زولا يقوم بي كربكان
من أهلو تب ما عندو راس
امن يكون رواسي شغال فيها
شد ملاحو لي قراصتو عـــاس
وسلم أخو الوردية واتكرفس رقد
في أوضتو أخدلـــو كـــــاس
وكربكان اسم لاحدى البواخر النيلية التي كانت تعمل في الولاية الشمالية من كرمة والى كريمة، وكن خمس بواخر هن: عطارد، والزهرة، وفشودة، وكربكان ، والجلاء وقد ذكرن وتداول اسمهن في أغنيات شهيرة منها أغنية المبدع عوض عبدون:
يا عطارد شلتي لى زولي المســالم
يا حليلو الليله يوم ودعنا قايــم
وعوض عبدون أحد الرواد الكبار في تأصيل وتطوير أغنية الطنبور، وكان شاعرا وملحنا ومغنيا له العديد من الأغنيات الجياد، نتمنى أن نقف عنده قليلا في مقالاتنا اللاحقة، كذلك نذكر الشاعر أحمدون من حوض لتي وهو من أولئك الذين أرسوا دعائم فن الطمبور، وفي منطقة دنقلا نذكر الفنان محمد اسماعيل وهو من أشهر من تغني بالجابودي، وكان أيضا من المولعين بذكر القري المختلفة لمنطقة دنقلا، ومدح شخصياتها، اضافة الى أنه كان صاحب ملح ونوادر عليه رحمة الله0
أما الباخرة الزهرة فقد استطاع الشاعر عبد الله كنه تعداد اشهر محطاتها في هذه الأغنية التي تعتبر ثبتا لأشهر المحطات من الدبة والى بورتسودان0
من الدبة وانجرا
سريع النهمة طب جرا
دقائق وتاني قام فرا
وفاتها قشابي بالمـره
العفاض خلاهــو ورا
والدخله قنتي بان شجرا
من منصوركتي قـام وجرا
الكلد مورا امبكول في ضرا
جوارن كورتي جات دافرا
الباسه وأسلي ديك ظاهرا
المقل والريح لقينا ضرا
والقرير حيـرنا بالخضره
على تنقاسي منحدره
وسواقها عصر بها الحجره
مبيتو الليله وين يا ترا
في مروي الوقف غفرا
الفجر قام الأجراس نـقرا
بابورا اتوسطن بحرا
يا ديك كريمه وداك قطرا
واقفين والنهار حرا
فاتا كريمه بي برا
وفي أولى مجهزة القمره
في الكاسنجر دمعي جرا
يا لروعة المشاعر الانسانية التي تسقط اشراقاتها على النصوص الأدبية التي ترسم بالكلمات المضيئة أجمل الصور لواقع أشبه بالحلم، لهذا الانسان الذي اتكأ على حضارة تليدة وتراث غني ليستقبل الجديد، ويبدع فيه بذات القوة0
هذه المركبات التي غيرت نمط الحياة وقربت المسافات، كيف تعامل معها وكيف استقبلها، لقد استطاع أن يحولها من آلة صماء الى رومانسية حالمة0 يدخل سائقوها مصطلحات جديدة الى اللغة، وتعبيرات جديدة في الاستخدام اليومي لها0
الذي صنع هذه المركبات لم يتجاوز الجانب المادي، السائقون السودانيون هم الذين أعطوها ذلك البعد الروحي ان صح التعبير، لم تعجبهم جلبة واصطخاب التروس في ماكينتها فأضافوا كوزا معدنيا يصدر أنينا اشبه بالنواح المكتوم في لون من الشجن المحبب، حتى اذا حزبتها الرمال صدر منها أنين مبحوح يشعر السائق معه بنوع من البطولة، ويحس المسافرون بدفق من الحنين ينفس عنهم ما يعانونه من لوعة الفراق0 ذلك الجفاف التشكيلي في تصميم المركبة لم يعجب السائقين فأضافوا الى شكل الباصات من ألوان الزينة والديكور ما يريح النظر ويسر العين0 لم تعجبهم أصوات الأنذار التي تصدر من الة التنبيه (البوري)، وهي أصوات ارتبطت بسيارات الاسعاف، والاسعاف ارتبط في أذهان الشماليين بنقل الموتى فقط، فغيروا من شكل آلة التنبيه لتصبح الة موسيقية متكاملة يمكنها أن تعزف معظم الألحان، فأصبح لكل باص نغمة خاصة به، وأذكر هنا أن من اشهر من استخدم أنغام البوري من السائقين هو السائق بلال (من مدينة كرمة)، ومن التقاليد المتبعة أن السائق يصدر هذه الأنغام كلما حل بقرية أو محطة وكأنها تحية خاصة لأهل المنطقة، وأذكر أنني عندما كنت صغيرا كنا نجلس في حلقات السمر ومعنا من سبق وأن عمل في الباصات سائقا أو مساعدا، فاذا مر باص من بعيد يقول لنا أنه باص فلان يعرف السائف من طريقة تغييره لناقل الحركة (التعشيقة) وكنا نعجب لذلك أيما عجب0 لم يكن السائق صاحب مهنة مهمة فحسب، بل كان من الشخصيات الفاعلة في المجتمع، فهو الخبير بالصحراء، وهو الضليع في الميكانيكا وهو فوق كل ذلك المؤتمن على الأموال والأعراض، وهنا مكمن عظمة أولئك السائقين ومفخرتهم، فقد كانوا محلا للثقة وعنوانا للآمانة0 لذلك لا غرو أن خلدتهم اغنيات صديق أحمد وغيره من فناني المنطقة في ذاكرة الناس0
واذا علمنا أن الرحلة لم تكن لساعات كما هو الحال الآن، بل لأيام وقد تمتد لأسابيع، أدركنا عظم المسؤولية التي كان يتحملها السائقون0 فهذا السائق عبد الرسول الشهير بـ(كمبه) في افادته يشير الى أن الطريق الذي كانت تسير عليه اللواري والباصات من أمدرمان والي شمال السودان، كان في الأصل طريقا للقوافل وقد افتتح الخط الحاج عمر عبد السلام بمساعدة خبير عربي يدعي عباس قبورا0
وذكر أن الرحلة كانت تبدأ من ام درمان صباحا، وتصل الى ابي ضلوع ظهرا، حيث تبدأ عملية تنفيس الكفرات، وكانت منطقة أبى ضلوع عبارة عن مجرى واحد تصطف فيه العربات، ويستغرق قطع هذا الوادي حوالى عشر ساعات، بعد ذلك تصل اللواري الي محطة جبرة ، ثم محطة حوا، وبير الأخريت (مدينة الشريان حاليا) ثم قهوة ام الحسن هذه المرأة الشهيرة التي توفيت قبل سنوات قليلة0 ويكون المبيت في هذه القهوة0 في الصباح الباكر تصل اللواري الى محطة القبولاب وهي من المحطات الشهيرة وتصل الي مدينة الدبة بعد المغرب ثم الغابة حيث تبيت فيها اللواري لليوم الثاني، وفي الصباح الباكر تبدأ المرحلة الأخيرة حيث تصل القولد بعد معاناة في الباجة ثم دنقلا التي تصلها في منتصف الليل وتتحرك منها في صباح اليوم التالث الى مناطق المحس، وبعد دنقلا تعتبر قهوة ود الباهي غرب أكد أولى المحطات شمال دنقلا، وسوف نتناول في مقال لاحق أشهر المحطلات والاستراحات من دنقلا والى حلفا ان شاء الله0
ويعدد العم عبد الرسول في شهادته أشهر السائقين الذين عملوا في هذا الخط منهم سيد أحمد فارساب، حاج عبد الله ، وعلى لقمان، وعيسى الطاهر، ومحمد محجوب الشهير بحامنتود، ومحمد عبد الرحمن، والصادق محمد اسماعيل، وحسن بلبلي، وغيرهم0 ويقال أن أول سائق افتتح طريق دنقلا ام درمان هو السائق محمد نور وهو من أبناء ناوا، وقد تردد اسمه في الأغنية الدنقلاوية الشهيرة (انبي ار ووا باص ني بسوكي باص محمد نور ايقى سوكى) وترجمتها:
يا باص محمد نور بتشيل منو؟
وقبال ما تقوم شيلنى معاك
كل هذا التاريخ التليد كان قد وعاه صديق أحمد والشعراء الذين تعاملوا معه وكان نتاج ذلك ملاحم حقيقية كان لصديق أحمد فضل الريادة في تسجيلها واختراع ما يمكن أن نطلق عليه مجازا (فن المواصلات) ولم تكن العملية متفق عليها بين صديق أحمد والشعراء، بل نبعت من عشق كليهما للسفر والترحال وفهمهما العميق للدور الذي يقوم به هؤلاء الرجال0 فصديق أحمد يعتبر من أكثر الفنانين سفرا وتنقلا بين أقاليم السودان المختلفة وخاصة الولاية الشمالية0 وكانت طبيعة عمله تقتضي التنقل المستمر بين المدن، بينما كان الشاعر عبد الله محمد خير والذي عمل ترزيا ثم تاجرا للمحاصيل والغاكهة كثير السفر، الا ان ما يميز الشاعر عبد الله محمد خير أنه كان شاعرا مطبوعا يجري الشعر على لسانه سهلا وجميلا دون تكلف أو صنعة0 وكان قريبا من العاملين في هذا الحقل خبر مصطلحاتهم واستخدمها بعناية فائقة في أشعاره0 وقد انتشر شعره لأنه خاطب الناس بلغتهم التي يفهمونها تماما0 ثم جاء صديق أحمد فوضع ألحانا تتناسب والذوق الرفيع لهذه الفئة من الناس معتمدا على صدق الاحساس والمشاعر، فأبدع روائعا بل قل ملاحما تحكي عظمة هذا الشعب مما يجعله بحق صناجة الشمال يتغنى بمآثره ويعدد مناقبه0 لا يتغني لفئة دون أخري أو لمجموعة معينة بل يوجه خطابه الفني لكافة الناس ويعمق فيهم الاحساس بالجمال، يزين ذلك كله الصور البلاغية الرائعة في شعر عبد الله محمد خير تأمل مثلا قوله:
توكـــل بالحــامية نش
دقائق في قبــولي خش
لقى الخلا ما خدلو رشه
كسح بالنــــور والمنشه
تأمل استخدامه للغة السائقين في (نش) و (كسح) والتصوير البديع للظروف الجوية، ثم استخدامه للآسم الحقيقي للقبولاب (قبولي) لأنها مسماة على اسم رجل يدعي أحمد قبولي0 وهذه الأغنية من روائع الفن الشمالي تحكي عظمة الانجاز الكبير الذي تحقق واصبح واقعا ملموسا0 وقد بلغ الأعجاب بمثل هذا اللون من الفن أن طلب السائق نوح من الشاعر بابكر محمد محمد خير أن ينظم قصيدة مماثلة فقال:
ماشي نوح أب طبعــا رزين
وقايد الموتور السنيــــن
دوبــو عـاد اصبحنا آمنين
نحمـــدك رب العالميـــن
صرنا متــل الناس آدميـن
راح قسى الأيام والسنيـن
لحظة يا السفار نحن وين
كنا وين واسع بقينا ويـن
في قصيدة طويلة يعدد فيها مآثر هذا الطريق الجديد الذي وضع حدا للمعاناة الطويلة التي كان يعانيها المسافرون الي الشمال، أما رائعة عبد الله محمد خير فانها تعتبرر نموذجا لأدب المواصلات الذي اشرنا اليه بقول في أغنية (السموم يا فيصل الحر):
دار أقــوم بالتوفيـــق غفر
ما لــو زي دا ومــال السفـر
تسعـه للاستارتــر نقـــر
فــارق السجانــة مضطـــر
حتى مـا استني لى زول فطر
لحظــة في ام درمان ما صبر
حــل قــال اللـــه أكبــر
شب بالحنكات وانحدر
ولى خور كامل سدر
شقق القوز فجاهو ودفر
لا مساعد جرى لا حفر
بى تحت لى بوحات خطر
حوا والبير كانو سنتر
في اب سيال والوقت عصر
طب في جبره بلا خبر
واستراح في ضل الشجر
تم مويه وتاني هاجر
بالقعاد لا شكا لا فتر
لما نور الدبة بهر
قال نقيف سنده وبنبحر
الحفير ما جدعة حجر
وفي أغنية (صابر جرا) يعدد المحطات الرئيسية لطريق ام درمان الجنينة في وصف دقيق وجميل، فيذكر المويلح ، وسايرين، بربري، وفنخ ، زغاوه، ام حايمي، كتم والفاشر ثم الجنينة وغيرها من المحطات:
سم باسم الله وقرا
وفارق ام درمان غادرا
بالمويلح قام سادرا
والدروب أصلو هو خابرا
جبره اشجارا مكدره
للمقبل لا ضل لا ضرا
ساري سايرين ما خبرا
وبالعجاج بربرى مغبرا
وفي فنّخ الرملة مضفره
ماشي فيها قطع مسطره
الى أن يقول:
بى بشارة الخير بشرا
السمحه داخله على فاشرا
في وصف دقيق للمحطات، واسلوب عبد الله محمد خير في مثل هذه القصائد أنه يذكر اسم المحطة أو الاستراحة ثم يصف المنطقة أو يتغزل أو يمجد السائق وهي طريقة ممتعة تزاوج بين الوصف والغزل حتى يهيىء المتلقي الى مواصلة الاستماع الى القصيدة بكاملها0
هذا غيض من فيض، وريحانة من بستان هذا الفنان الأصيل صديق احمد الذي ابدع في اختيار النصوص، وكان اختياره تصريح مرور كما اسلفت من قبل، ولم يكتف بذلك بل حرص أيضا على تقديم الكلمات التي تصف المشاعر في أدق المواقف، من ذلك ما يتعلق بالسفر أيضا وهي مشاعر الوداع، خاصة وداع زوجة لزوجها المسافر، قدم لنا لمحات رائعة للشاعر علاء الدين ابو سير منها:
ساعة الوداع شلتك حضن وفضلت فيك متعلقه
وما خفت من كل العيون الكان علـى مبحلقــه
أخرت أيدي في أيديك ما كنـت رضيانه أمرقـا
تابعاك بى نظرات فراق مذهوله ماني مصدقه
ساعة خلاص حان الفراق ولمحت دمعة مرقرقه
فجأة انفجر بركان بكاي رج البوادي وغرقـــا
أهواك عشق من نوع فريد هتك القوانين خرقا
لو قسموه على الخلوق براحه أكيد بيحوقــــا
انت الفرح وانت الأمل انت الأماني المطلقـــــه
وانت الهدف في كون بقت أهدافو ماها محققــه
وبعد00 ليس أشد على الشعوب السائرة في طريق التطور والنمو والمتمسكة باصالتها ومعتقداتها وعاداتها وتقاليدها، من خطر الغزو الثقافي الذي يهز أركان اصالتها وينسف مقومات وجودها ويفصم عرى وحدتها ثم يفرغها بالتالي في بوتقة غير ذات هوية0 ومن عجب أن أصبحت الموسيقى هدفا لهذا الغزو الثقافي المنظم تشا