[email protected]
د. حسين آدم الحاج
توطئة:
حسناً فعلت وفود الحركات المسلّحة بدارفور الدخول إلى الجولة الحاليّة من مفاوضات أبوجا بموقف موحّد، وبرنامج تنسيقى إستراتيجى لخوض غمار محادثات سلام ليست بالهينة قد تحدد ملامح سودان المستقبل إلى حد كبير، وتستر عيوب إتفاقية السلام الموقعة بين الحكومة السودانيّة والحركة الشعبيّة لتحرير السودان بنيفاشا. ولعلّى لا أكشف سراً القول بأنّنا كنا قريبين من هؤلاء الإخوة بمقدار ما قد يؤدى إلى توحدهم فى حركة سياسيّة وعسكريّة واحدة والتحدث بصوت واحد وذلك عطفاً على تجربة الحركة الشعبيّة لتحرير السودان، والتى يجب أن تظل كتاباً مفتوحاً تستهدى به هذه الحركات المسلّحة من نجاحاتها وإخفاقاتها على حد سواء بما يدعم قضيّة دارفور تحديداً والسودان إجمالاً. فمنذ أكثر من عام ونصف، وقبيل الولوج فى المفاوضات بصورة رسميّة، ظللنا وعبر كل القنوات الممكنة ننبه هؤلاء الإخوة بضرورة جمع الصف وتوحيد الكلمة، بل وتجسيد وحدة أهل دارفور من خلال تشكيلة وتركيبة الوفود المفاوضة، إقترحنا عليهم الدخول بوفد واحد تحت إسم "وفد دارفور"، ولعلّ هذا يمثل موقف الحكومة السودانيّة ذاتها وما خلصت إليه أخيراً، الشيئ الذى دفع بالدكتور مجذوب الخليفة رئيس الوفد الحكومى المفاوض بأبوجا بشكر الحكومة الأميريكيّة عند إفتتاح الجولة الحاليّة على جهودها فى توحيد موقف هذه الحركات.
وحدة الحركات المسلّحة خطوة لوحدة أهل دارفور:
لقد سبق أن قلنا فيما قلنا لإخواننا فى الحركات المسلّحة قبل أكثر من عام مضى الآتى:
بعد أن تأكدت حتميّة قيام مفاوضات مباشرة بين الحركات المسلَّحة فى دارفور والحكومة السودانيّة برعايّة دوليّة، يجب على هذه الحركات ترتيب أمورها جيداً فى إطار فهم فلسفى متكامل لطبيعة المرحلة المقبلة فى دارفور، يستند فى المقام الأول على هدف تحقيق وحدة أبناء الإقليم لمقابلة متطلبات تلك المرحلة، وتمكينهم من التعامل مع التحديّات الماثلة بكفاءة لإعادة بناء الإقليم وإنسانه بطرق حديثة وتنميتة بصورة شاملة بعد أن تخلفت عن ذلك بفعل سياسات أنظمة الحكم المتهالكة، أى وحدة أهل دارفور وإعادة إعمارها. إنَّ هذا الإطار الفلسفى يجب أن يستصحب الحقائق التاليّة:
(1) تنميّة إقليم دارفور وتطوير أهله تظلان رهناً بوحدة أبناء الإقليم وسواعدهم وأفكارهم وليس فى ذلك من مناص طالما أنَّ المفاوضات يجب أن تنتج درجة عاليّة من الحكم الذاتى غير موجودة من ذى قبل.
(2) وحدة أهل دارفور تتمثل فى وحدة كل قبائلها، وهذه حقيقة يجب مراعاتها جيّداً، ولقد سبق أن أشرنا إلى أنَّ مجتمع الإقليم يقوم على ساقين من الناحية العرقيّة: الجماعات ذات الأصول الأفريقيّة والجماعات ذات الأصول العربيّة، لكن فى المرحلة القادمة، وخاصة فيما يتعلق بمسألة هذه الوحدة، يجب تجاوز مثل هذه التصنيفات العنصريّة البغيضة والتى ما نشأت إلاَّ خلال العقود الأخيرة نتيجة للخلافات المتفاقمة التى أشعلها ورعاها من لا يريدون خيراً لدارفور وأهله.
(3) إنَّ الخلافات والمرارات التى خلَّفتها هذه المآسى الماثلة أمامنا، والتى إرتقت حسب تصنيفات الأمم المتحدة وغيرها كأسوأ كارثة إنسانيّة تحدث اليوم فى العالم، يجب ألاَّ تعطل التفكير الجاد فى إعادة لحمة أهل دارفور وتمكينهم من رتق الخروق القبليّة وردم هذه الهوة العميقة التى ضربت قاع مجتمع أهل الإقليم، وخير بدايّة لذلك هو شمول وفد التفاوض لعناصر تمثل كل أو معظم قبائل الإقليم.
(4) من أجل إعادة بناء وحدة أهل الإقليم، وكمدخل سليم لذلك، يجب على الحركات أن تدخل المفاوضات فى وفد واحد تحت إسم "وفد دارفور"، بدلاً عن دخول كل حركة بمفردها، يقيننا فى ذلك، إن هى فعلت، ستضع أول طوبة أساس وسترمى أقوى وأصلب حجر زاويّة لبناء تلك الوحدة من خلال تمثيل أهل دارفور كحقيقة مجسدة فى صلب المفاوضات، وبحيث لا يترك ذلك فرصة لباحثى الشقاق ومثيرى الفتن وخفافيش الظلام الذين لا يتورعون فى إيذاء بلدهم وأهليهم، وما أكثرهم.
(5) فى ظل ذلك ليس من الضرورى كم سيكون عدد أعضاء "وفد دارفور" لكن من الضرورى جداً أن يكون التمثيل صادقاً يعكس تنوع أهل الإقليم وقبائلهم، وعندها يمكن أن ينقسم الوفد إلى مجموعتين: مجموعة مفاوّضة وهم الذين يناقشون على طاولة المفاوضات داخل غرف الإجتماعات، ومجموعة إستشاريّة وهم الذين يظلون خارج الغرف، لكن لا تستطيع المجموعة المفاوّضة الموافقة النهائيّة على أى قرار ينتج عن المفاوضات دون الرجوع إلى المجموعة الإستشاريّة والتنسيق للموافقة النهائيّة.
هذا ما أشرنا لهم به قبل أكثر من عام مضى وما أشبه الليلة بالبارحة، وظللنا نلح عليهم مراراً وتكراراً بالشروع الفورى فى تطبيق ذلك رغم علمنا التام بأنّ بعضهم قد رفضها إبتداءاً لكنّهم آثروا ترك القنوات مفتوحة إحتراماً وتقديراً لمكانتنا لديهم فالشكر لهم وتظل القضيّة واحدة، لكن والحق يقال بأنّ بعض القيادات النافذة قد أعطتنا "شيكاً على بياض"، مبدين قبولاً مبدئياً وإستعداداً نادراً للوحدة على المستويين السياسى والعسكرى، بل ووضعوا أنفسهم رهن مقترحنا ذاك، لكن للأسف لم تبحر سفننا كما نشتهى لها من الرياح. وعلى العموم فقد قلنا لهم بأنّ النقاط أعلاه ربما تمثل سياجاً فكريّاً مبدئياً يبنى عليه الوفد المفاوّض إستراتيجيّة التفاوض، وهى مسألة تحتاج لجهود أخرى موازيّة يجب أن تهتم بها الحركات المسلَّحة بصورة عاجلة، وتدرسها بعنايّة ولا تترك شاردة ولا واردة إلاَّ وقد إنتبهت لها. لقد ذكرنا لهم بأنّ محاولة الدخول للمفاوضات تحت لواء "وفد دارفور" لها العديد من المزايا أجملناها لهم فى الآتى:
(1) وضع حجر الأساس لبناء وحدة أهل دارفور باكراً ومنذ ما قبل بدء التفاوض، وسيؤدى ذلك إلى فهم عام بأنَّ نتائج المفاوضات جاءت بمشاركة مختلف القوى من أهل الإقليم ممثلين فيها بكل طوائفهم وقبائلهم وإمكاناتهم البشريّة والفكريّة الشيئ الذى سيساعد فى تجسير الإنشقاق الذى ضرب نخاع التركيبة الإجتماعيّة بدارفور.
(2) تجميع القدرات المختلفة لكل أبناء الإقليم الحادبين على مصلحته يشمل ذلك الذين رفعوا السلاح بجانب السياسيين والمثقفين والناشطين من أجل خدمة دارفور.
(3) قطع الطريق على الذين يصفون الحركات المسلّحة بأنَّهم لا يمثلون أهل دارفور، كما سيدحض الإتهامات الباطلة بشأن أهدافهم.
(4) خلق مناخ إيجابى لنوعيّة الحكم القادم فى دارفور والتى ستتمخض عنها المفوضات. إنَّ أىّ حلول للحكم فى دارفور ينتج عن المفاوضات قد لا يكون أقلَّ من الحكم الذاتى فى الإقليم الموّحد، ولذلك لا بد من ضرورة إلتفاف وإستصحاب كل أهل دارفور حوله والمحافظة عليه كمكسب عادل فى القضيّة لا يمكن التفريط فيه.
(5) تمهيد الطريق لتطوير مسار سياسى يلبى أشواق أهل الإقليم وينتصر لهم فى المرحلة السياسيّة القادمة بالبلاد.
هل إنحرفنا بعيداً فى تقديراتنا تلك عمّا يحدث اليوم فى دارفور أو فى أبوجا؟ لم نكن نرجم بالغيب لكن النظرة الواقعيّة كانت تشير إلى مآلات ذلك، خصوصاً وأنّ محادثات السلام بين الحكومة السودانيّة والحركة الشعبيّة لتحرير السودان ظلّت خلال تلك الفترة تراوح طاولاتها ما بين نيروبى وماشاكوس وناكورو ونيفاشا فى أرجاء الجارة كينيا. وعلى العموم ما لا يدرك كله لا يترك جله، كما تقول الحكمة، أو كما تقول الحكمة الإنجليزيّة المماثلة: Better come late than not to come at all!، فالحمد لله الذى هدى إخوتنا أخيراً لطريق التوحد، ولو عن طريق ضغط القوى الأجنبيّة فمغنى الحى قد لا يطرب أحياناً، ونأمل أن تفضى بهم عاجلاً إلى الوحدة الحقيقيّة المتمثلة فى وحدة أهل دارفور، لكن كيف ذلك؟
الشروط الإستراتيجيّة لوحدة أهل دارفور:
إنّ التفكير فى مسألة تحقيق وحدة أهل دارفور يجب أن تنطلق من أسس معينّة نعتقد بأنّ أهمّها يتمثل فى الآتى:
(1) من حيث المبدأ، وحدة أهل دارفور ليست شعاراً أجوفاً تلوكه الألسن دون تطبيق برامج عمليّة على أرض الواقع للوصول إليها كهدف وغايّة.
(2) الوحدة الحقيقيّة تنبع من جوف وثنايا القلوب فتتحول تلقائياً إلى تيار إجتماعى دافق يسرى فى وجدان كل أهل الإقليم وتنداح فى ثقافاتهم وممارساتهم الحياتيّة بما ينفعهم ولا يضرّهم.
(3) نسبة للتعقيدات الماثلة والمفهومة فى مجتمع دارفور اليوم يجب الإعتماد فى تعزيز وحدة أهل الإقليم على الأفكار العمليّة التطبيقيّة التى تتميز بالذكاء والمرونة ويسهل على كل أطياف المجتمع تقبلها والتفاعل معها إيجاباً.
(4) يجب الإبتعاد قدر الإمكان عن الحلول النمطيّة التى أثبتت فشلها فى تجارب مماثلة مع الحرص على إبتعاد، أو إبعاد، أية آليات ذات رؤى أحاديّة أو أجندة خاصة.
(5) يجب حمل الفكرة وتنفيذها بواسطة كل قوى أهل الإقليم الفاعلة خاصة المثقفين، الإدارة الأهليّة، المزارعين والرعاة والتجار ومنسوبى الخدمة المدنيّة، قطاعات المرأة والشباب والطلاب، إضافة إلى الجمعيات الطوعيّة غير الربحيّة ومنظمات المجتمع المدنى مع عدم تدخل سلطات الحكم المحلى بصورة مباشرة إلاّ بما قد يساعد فى تنفيذ الأنشطة والبرامج الهادفة.
(6) كلّما كانت البرامج والأنشطة المتبناة لتعزيز الوحدة نابعة من تاريخ وتراث وثقافة المجتمع كلّما كان ذلك ممنكاً تقبله من جانب قطاعات واسعة ودعمه، فالحلول المستوردة لا يمكن هضمها بسهولة خاصة إذا ما تقاطعت مع الممارسات والثقافات المحليّة التى إنغرزت فى وجدان الأهالى عبر قرون من التطبيق والتفاعل.
(7) تهيئة الأجواء: ويشمل ذلك ضرورة حسم القضايا العالقة مثل مسائل الحواكير، الدارات، الديّات والتعويضات، إعادة إعمار القرى وإستقرار النازحين، تطبيق العدالة ومبدأ المحاسبة ضد كل ما تثبت من جرائم، إضافة إلى حاجة الدولة وأجهزة الإعلام إلى إستخدام لغة توافقيّة تسعى بقدر الإمكان إلى إشاعة البهجة والأمل والتطلع إلى المستقبل.
برنامج "بيت دارفور" لتحقيق وحدة أهل الإقليم:
إنّ التفكير الجاد لإيجاد آليات تطبيقيّة عمليّة لتحقيق وتعزيز وحدة أهل الإقليم ستؤدى بالضرورة إلى إبتكار مداخل مقبولة من كافة قطاعات المجتمع، وسنتقدم فى القريب العاجل بإقتراح نأمل تبنيه بواسطة "رابطة دارفور العالميّة" يهدف إلى تطوير بعض الأفكار الواقعيّة فى إطار برنامج عملى تحت إسم "بيت دارفور"، إستلهاماً للمثل الدارفورى القائل (البيت كان مال بلقوه عيالو)، والمهم فى هذا الإطار أنّ البرامج التى يراد تطبيقها يجب بقدر الإمكان أن تكون مستنبطة من تراث وثقافات أهل الإقليم، ومستندة على إمكانيّة تقبلها والتفاعل معها من معظم الكيانات السكانيّة، وحقيقة فإنّ الهدف الرئيسى وراء هذا المقترح يتمثل فى إنشاء "بنك أفكار" فى هذا المجال ستدعو لها الرابطة العالميّة، وتشرك فيها كافة أهل الإقليم لحملها والإرتقاء بها لتعزيز وحدة صفوفهم وكياناتهم (فبيت الشورى ما إنخرب)، وسنورد هنا بعض الأمثلة العمليّة نحو ذلك:
(1) مشروع التآخى القبلى:
فى تراث وممارسات بعض قبائل دارفور، خاصة العربيّة منها، توجد ثقافة "المؤاخاة"، وهى تآخى شخصين من أسرتين مختلفتين، داخل إطار القبيلة، منذ نعومة أظفارهما، فينشآن كأخوين شقيقين مع إلتزام روحى عميق وإخلاص نظيف لبعضهما البعض ويظلاّن على ذلك مدى الحياة، وكل منهما يكون عوناً لأخيه ومستعداً لتقديم روحه فداءاً له والوقوف بجانبه فى ساعة الفرح والكره. هذه الممارسة الكريمة نود أن نرى تطويرها من مستوى الأفراد والعلاقات الشخصيّة إلى مستوى القبائل، بحيث تتآخى قبيلتان وتتواءما فتتعاونا على فعل الخيرات لهما ولأهل الإقليم جميعاً وتتناصحا لتجنب كل ما فيه ضرر لهما ولأهل الإقليم أيضاً. وعندما يشمل ذلك معظم قبائل الإقليم لا يجد الخلاف طريقة للفتك بهم، وعلى هذا الأساس يكون من الخير تشجيع ثقافة التآخى القبلى خاصة بين القبائل ذات الجذور الأفريقيّة وتلك ذات الجذور العربيّة، فمثلاً يمكن تشجيع برنامج تآخى بين الفور والرزيقات مثلاً، الزغاوة والماهريّة، الميدوب والزياديّة، التنجر والمحاميد، المساليت والبنى حسين، الداجو والهبانيّة، البرقو والبنى هلبة، وهكذا، غير أنّه ليست بالضرورة أن تكون المؤاخاة بين هاتين المجموعتين العرقيتين فقط بل من المستحسن أن يمتد ذلك حتى عبر المجموعة الواحدة ذاتها، كما أنّه ليست بالضرورة كذلك أن تكون التآخى بين قبيلتين فقط بل يمكن أن تشمل عدة قبائل أو حتى عبر منطقة أو إقليم بحاله. ومن الجدير هنا الإشارة إلى أن هذه الممارسة ليست بجديدة على بعض القبائل فقبيلة الفور مثلاً سبقت لها أن دخلت فى علاقة توأمة ومؤاخاة مع قبيلة البطاحين، وهى ليست من قبائل دارفور، وقد قامت وفود منهم بزيارة مناطق الفور، فزاروا مقبرة السلطان على دينار فى منطقة زولى (كحكو)، على بعد عشرين كيلو متر جنوبى مدينة زالنجى، وتبرعوا ببناء مسجد وإنشاء مكتبة كرمز للتوأمة والمؤاخاة، صاغوها فى فعل الخير والتكريم والصدقة الجاريّة.
لقد علمنا مؤخراً بأنّ قبيلة الرزيقات تحاول القيام بمبادرة للتصالح القبلى عبر الإقليم وهو شيء إيجابى يجب دعمه من كافة القطاعات المعنيّة بأمر السلام والوئام الإجتماعى بدارفور، ولعلّ القائمين بأمر تلك المبادرة سيجدون السند الأكيد من رابطة دارفور العالميّة فهذا مجال أساسى فى إطار أهدافها، وبدورنا نقدم لهم هذا المقترح لإستصحابه فى مساعيهم الخيّرة والتى هى مسعى كل الحادبين على مستقبل دارفور وأهله.
(2) تنميّة وتطوير تكاملات وشراكات تنمويّة بين القبائل:
من المهم جداً تفريغ حماس الناس وطاقاتهم فى إتجاهات تفيدهم، وتصرفهم عن تبديدها فى الخلافات والمشاكل، ولذلك تظلّ من الأهميّة بمكان مساعدتهم لمعرفة إمكانيّاتهم الإستثماريّة وتطوير قدراتهم لإستغلال تلك الإمكانات لفائدتهم والإقليم على السواء. إنّ الناس إذا ما تنافسوا لتحقيق مصالح إقتصاديّة فإنّهم سينشغلون بذلك وينسون الخلافات لأنّ مصالحهم ستتغلب على عواطفهم فى هذه الحالة. وكمدخل لذلك يجب تثوير العمل الإستثمارى ومحاولة تكامل علاقات الإنتاج بدءاً بمستوى القبيلة ثمّ منظومة من القبائل وعلى المستويات المحليّة والولائيّة والإقليميّة. تكامل علاقات الإنتاج والإستثمار بين القطاعين الزراعى والرعوى وحول مناطق التماس بين ديار القبائل والمسارات يجب أن تنال إهتماماً خاصاً، خاصةًً وإنّ الهدف الأسمى هنا هو توجيه حماس المواطنين من التنافس على الموارد إلى التعاون من أجل إستغلال تلك الموارد بما ينفعهم ويدعم تعايشهم السلمى ووئامهم الإجتماعى. بناءاً على ذلك فإنّ تشجيع قيام مؤسسات وشراكات إستثماريّة صغيرة داخل وعبر القبائل سيكون مردودها كبيراً على المستويين الإقتصادى والإجتماعى لأهل الإقليم، ولذلك يكون من المفيد إنشاء مكاتب للإرشاد الإستثمارى وتسيير قوافل توعيّة إستثماريّة بالإعتماد على الخبراء من أبناء الإقليم بالإضافة إلى طلبة الجامعات والمعاهد العليا فى عطلاتهم الصيفيّة، كما يكون من الأجدى إعادة تخطيط المشاريع الزراعيّة المعطلة عن العمل مثل مشاريع ساق النعام، جبل مرة الزراعى، غرب السافنا، هبيلة، وأم بياضة وغيرها وتوزيعها للمواطنين فى شكل حيازات صغيرة (5 إلى 10 فدان مثلاً) ضمن خطط متكاملة للإنتاج الزراعى والحيوانى. مثل هذه الخطة ستوفر مجالات عمل ودخل لعشرات الآلاف من الأسر الشيئ الذى سيحد من درجات الفقر المتفشى ويدعم مسألة الأمن الغذائى، والذى تدهور بصورة خطيرة خلال العقود الأخيرة، كما سيوفر الإستقرار والتنميّة واللذان بدورهما يهيئان المناخ ويسهمان فى تحقيق وحدة أهل الإقليم.
(3) مجلس الشيوخ الإستشارى:
الإدارة الأهلية كمستوى رابع للحكم فى دارفور (بعد المستويات التنفيذيّة والتشريعيّة والقضائيّة)، ولدورها التاريخى فى حفظ الأمن والسلام على ربوع الإقليم، يجب أن تعود بقوة لتواصل رسالتها التاريخيّة خاصة فى مثل هذه الظروف التى تمر بها دارفور، ولذلك يجب إعادتها لتلعب دورها الطليعى فى صيانة إستقرار مجتمع القبائل وأهل الإقليم. ونسبة لما أصاب هذا النظام الحكمى من ضعف ووهن فإنّه يجب تطويرها عبر مداخل وأفكار إيجابيّة تتماشى مع التطورات والمتغيرات السياسيّة والإجتماعيّة والتعليميّة الأخيرة بالإقليم دون أن تنتقص من سلطاتها شيئاً أو أن تنتقص من حقوق القبائل التاريخيّة أيضاً. إنّ ذلك يتطلب إستراتيجيّة تشمل أفكاراً خلاّقة مثل مراجعة قانون الإدارة الأهليّة وإعادة تأهيلها بما يضمن لها السيطرة على الخلافات القبليّة كسابق عهدها لقرون فى ضبط حركة المجتمع بدارفور، وإقرار ممارسات الشورى والأعراف في اختيار زعماء القبائل، إعادة بعض السلطات الإداريّة والقانونيّة والأمنيّة والماليّة لزعاماتها مع توفير قوات حراسة تابعة لها، إضافة إلى إبتكار جملة من السياسات والتوجيهات التى تهدف لكسب الهيبة والإحترام الشيئ الذى سيساعد هؤلاء الزعامات فى إدارة مهامهم بثقة ونجاح. غير إنّ من أهمّ الأفكار العمليّة التى نعتقد بأنّها ستساعد على عودة الإدارة الأهليّة بقوة، وتمكنها من إستعادة هيبتها بسرعة، هو إنشاء مجلس شورى قبلى يضم زعماء كل القبائل الأساسيّة بدارفور، بواقع ممثل واحد فقط لكل قبيلة هو زعيمها، ويكون تحت مسمّى (مجلس الشيوخ الإستشارى) مثلاً، مثل هذا المجلس يمكن أن يكون بمثابة برلمان أهلى لشئون القبائل، تمتلك صفة الإستشاريّة، ويكون لها مقر دائم بمدينة الفاشر، العاصمة التاريخيّة لدارفور، وأمانة دائمة لتنظيم عملها، وتتبع للحاكم مباشرة، وتنعقد جلساتها مرتين على الأقل فى العام. إنشاء مثل هذه الجسم الإستشارى سيكون له أثر إيجابى وسريع فى رفد التعايش السلمى بدارفور ودعم خيارات التعاون والتصالح. نأمل أن يجد هذا المقترح الرائد طريقه إلى التنفيذ.
(4) ربط أنحاء الإقليم بطرق ثابتة صالحة للتنقل كل العام:
اليوم، لا يوجد ولو طريق واحد يربط بين مناطق الإقليم الشاسعة والذى تقدر مساحته بمساحة فرنسا. وحتى طريق نيالا، كاس، زالنجى، والذى تمّ إنشاءه فى الثمانينات، أصبح أثراً بعد عين لعدم وجود الصيانة، فتفككت وتآكلت وصار سائقو الشاحنات يتحاشونها وينزلون الدقداق. وفى فصل الخريف تنقطع أقاليم بأكملها بسبب الأوديّة الرهيبة التى تنحدر من هضاب ومرتفعات جبل مرّة وتجرى لمسافات بعيدة داخل الإقليم مع عدم وجود الكبارى أو المعابر الصالحة، فولايّة غرب دارفور مثلاً لا يمكن الوصول إليها فى فصل الخريف إلاّ بالطائرة، وبسبب كل ذلك ظلّ الإتصال ضعيفاً بين مجموعات الإقليم السكانيّة الشيئ الذى عمّق الإحساس بالمحليّة والإنكفاء فى القبليّة، وأدّى إلى تضييق فرص الحركة والكسب والعمل فزاد التمسك بالأرض كمصدر أساسى للرزق وكسب العيش، تحول تدريجياً إلى صراع حول الموارد. لكل ذلك تظل مسألة ربط أجزاء الإقليم بطرق مسفلتة صالحة للإستخدام طوال العام، بجانب جسور رابطة، على رأس أولويات إعمار دارفور. إنّ تواصل الناس وتداخلهم وتعارفهم تمثل إحدى أهمّ الوسائل لتعزيز أسس الوحدة والتجانس بين أهل الإقليم، وهى أيضاً من مقاصد الدين الإسلامى الحنيف فى عمارة الأرض.
(5) تطوير برامج موجّهة لتداخل الشباب بين مختلف أجزاء الإقليم:
قطاعات الشباب والطلاب تعتبر من أكثر العناصر الفاعلة فى إحداث تغيير فى أى مجتمع، ولذلك يجب توجيه طاقات شباب دارفور على مستوى الإقليم للمساهمة فى مشاريع إعادة الإعمار كمدخل رئيسى لترسيخ الوحدة وتنميّة المشاعر الوجدانيّة بين قلوب الفئات المختلفة من أهل الإقليم، ولنا أن نتخيل درجة الأحاسيس والمشاعر التى تنتاب أهل قرية نائية على سفح جبل أو فى منحنى وادى وهم يرون أبناء إقليمهم يشيدون لهم مدرسة أو يبنون لهم شفخانة؟ مثل هذه الجوانب العمليّة هى التى تقوّى الشعور بالوحدة والإنتماء خاصة إذا عرفنا بأنّ دارفور اليوم بحاجة إلى آلاف الكيلومترات من الطرق المعبدة، وآلاف من الفصول الدراسيّة، ومئات من القرى التى يجب إعادة بنائها من الأرض، بجانب المستشفيات ومصادر المياه وغيرها من البنيات التحتيّة. شباب دارفور يجب أن يلعب دوراً كبيراً فى تأهيل ذلك، ولا يجب علينا أن نغفل هنا الدور البطولى الذى قام به التجمع المركزى لطلاب دارفور بالجامعات والمعاهد العليا السودانيّة وهم يتصدون لمأساء نازحى دارفور فى منطقة مايو جنوبى الخرطوم فى وقت توقف فيه الآخرون عن فعل أى شيئ تجاههم، فلهم منّا التحيّة. ولا شكّ فى أن هذا التجمع الطلابى، وهو جزء من الرابطة العالميّة، موعود بدور مشهود فى إعادة لحمة وحدة اهل الإقليم وإرجاعها سيرتها الأولى.
هذه بعض الأفكار التى تواردت بالخاطر، وأحسب أنّ هناك حاجة لبناء بنك أفكار تهتم بمثل هذه القضايا تتم صياغتها فى قوالب عمليّة يمكن تنزيلها على أرض الواقع، فدارفور اليوم فى حاجة للعمل، والعمل الجاد، وأولى أنواع العمل وأبركها هى تحقيق وحدة البيت الدارفورى الكبير.