بريمة محمد أدم
[email protected]
بسم الله الرحمن الرحيم
أولاً التعازى الحارة في فقد الوطن لإحد قياداته الفذة: الدكتور جون قرنق، الذى قادنا حرباً وسلماً، فقد أستطاع د. قرنق أن يخاطب عقول الشعب السودانى، جنوبه، غربه، شرقه وشماله، بموضوعية وعقلانية بعيداً عن الحساسيات العرقية، الدينية والجهوية. وبفهمه المتطور للواقع السودانى المعقد سياسيا، إجتماعياً وثقافياً، إستطاع د. قرنق كسر حواجز نفسية عنيدة ليخرج حركته من أطارها الأقليمى الجنوبى إلي الحيز القومى والشمالى. ففى زيارتة لواشنطن الأخيرة في الخامس من يونيو 2005 ، قال أن هناك مليون ومئتين ألف من أبناء الشمال الجغرافى سجلوا رسمياً في كشوفات الحركة منذ أن عادت قيادات الحركة إلي الخرطوم، وقال أنه يخاطب الجموع الأقليمية عبر وسائط الأنترنت، ثم أضاف قائلاً أن فكرة السودان الجديد وجدت قبولاً عند المثقف الشمالى والسودان سوف يتغير وإلي الأبد نحو الأحسن في المطالبة بالحقوق المدنية والدستورية والحريات العامة. ومع يقيننا بعمق جوف الرجل ومعرفتة بدقائق قضيته وفلسفته للأمور في الأتجاه الذى يريده، إلاً أن هناك حقيقة أصبحت مثالة وهى أن الدكتور قرنق طرح نفسه بقوة كبديل سياسى برؤية ثقافية جديدة لما هو قائم منذ الأستقلال، وأدخل مفردات سياسية هامة إدت إلي سبر غور جدلية الهوية السودانية، مما أفرز حواراً عميقاً حول إيجاد قواسم مشتركة تعبر عن الهوية الحقيقية للشعب السودانى. ايضاً طرح الدكتور قرنق، جدلية الأمن القومى والأمن الأقتصادى السودانى بأنهما يمكن تحقيقهما بصورة أفضل إذا إتجه السودان تلقاء أفريقيا وتبنى تلك القضايا من ناحية هويته الأفريقية، معللاً وجود سته دول أفريقية من أصل ثمانية تحد السودان مما يعنى أن القواسم الأمنية والأقتصادية الأفريقية هى الأكثر إشتراكاً. وهكذا علي مدار عقدين من الزمان أستطاع د. قرنق التأثير في الوجهة الثقافية السودانية وبلورتها بمفاهيم مغايرة لما هو سائد ومألوف مما جعله رمزاً يعبر عن هموم كثيرين من أبناء الشعب السودانى. أين يقف التطور السياسى للسودان اليوم بعد مقتل قرنق؟ وماهى رؤية المثقف الجنوبى والشمالى إلي مستقبل السودان كدولة؟ وماهى فرص أبناء الهامش فى إدارة شؤون السودان سياسياً وإدارياً؟ مع صعوبة الإجابة علي تلك الأسئلة إلا أن مقتل د. قرنق يعد بداية محبطة لمشروع الهامش وتناقص ديناميكيته وفاعيلته وقد بدت إرهاصات ذلك الأهباط في الأحداث الدامية التى تشهدها البلاد والفجوة الحادة في الثقة بين الشمال والجنوب.
رحيل الدكتور قرنق، قد أصاب أبناء الهامش في مقتل أشد من غيرهم، فهم اليوم علي مفترق طرق. والحق يقال، أن فكرة السودان الجديد قد بنيت علي أكتاف أبناء الهامش السودانى، فلو لا وجود أبناء جنوب كردفان، جنوب النيل الأزرق والأنقسنا، ومناطق أبيى، في الحركة وتبنيهم لها لما تبلورت فكرة السودان الجديد من إطارها الأقليمى الجنوبى لتأخذ الطابع القومى. هل يعد موت الدكتور قرنق بداية بروز إتجاهاً جديداً في أرض الهامش السودانى؟ أم كيف تصير العلاقة بين الهامش والجنوب بعد غياب ربان سفينة السودان الجديد الذى أستطاع موازنة طرح الحركة ليستوعب التركيبات الأثنية والقبلية المتنافرة؟ كل الدلائل تشير إلي إختلال التوازن الذى أوجده د. قرنق بعامل شخصيته الكارزماتيه، مما ينذر ببروز إتجاهات جديدة في أرض الهامش السودانى تخالف الرؤى الجنوبية. والسؤال الأهم هل الرؤى الجنوبية تظل مطابقة لمفهوم السودان الجديد الوحدوى؟ الأجابة علي هذا السؤال تظل غامضة لبعض الوقت، ولكن تشير الدلائل إلي أن الوطنيين الجنوبين، الذين يتبنون قضية إنفصال جنوب السودان هم الذين سوف يسيطرون علي مجريات السياسة الجنوبية. تعيين د. رياك مشار، زعيم حركة إستقلال جنوب السودان، نائباً لرئيس الحركة الجديد القائد سلفا كيير ميارديت، مؤشر هام لهذا الأتجاه.
يعتبر ملف أبيى من أهم الملفات التى سوف تكشف ما بجوف القيادة السياسية الجديدة للحركة. مشكلة أبيى تعتبر من أهم المشاكل الأمنية في حزام التماس، والتى يمسك بتلابيبها قطبين فقط في المحيط السياسى السودانى: الراحل الدكتور قرنق والنائب الأول علي عثمان محمد طه. فقد كان الحوار العقلانى بين الزعمين قرنق وعلي عثمان، والذى أخرج السودان من نفق الحرب لحرى بأخراجنا مرة أخرى من دائرة الحرب التى أوشكت أن تفرضها علينا قضية أبيى والتى تعتبر قضية معلقة بموت الدكتور قرنق. من؟ غير د. قرنق في الطرف الجنوبى يمكنه أن يتعامل مع ملف أبيى بعقلانية وبعد نظر؟ ذلك السؤال يظل محل إستفاهم لوقت ليس قصير. فقد أدت لجنة المفوضية التى قدمت قرارها الجائر بتقسيم أراضى المسيرية وإلحاقها بحدود الجنوب الجغرافية علماً أن تلك المناطق لم تكن يوماً تحت حدود الجنوب ولم يوجد بها غير أبناء المسيرية حتى اليوم، إلي إدخال المنطقة في نفق مظلم مما أدى إلي إثارة مخاوف أبناء القبائل العربية في أرض الهامش من نوايا الحركة والحكومة السودانية علي السواء. فقد وجدت الحركة الشعبية مسكباً مجانياً في أرض المسيرية. فالحركة – كما يقول العارفون بملف المفاوضات، إنها لم تطلب أكثر من عشر ألف كليومتر مربع من أصل خمسة وعشرون ألفاً كيلومتراً تمثل منطقة أبيى، لكن نتيجة لفلسفة ورؤية النائب الأول علي عثمان محمد طه، الذى رأى أن شمل كل المنطقة فى المفاوضات يسهل ضمها إلي الشمال الجغرافى بأعتيار أن المسيرية هم الغالبية العظمى لسكان المنطقة، ذلك المنحى ربما قد أستنتجه النائب الأول من ملابسات ضم ولاية غرب كردفان إلي ولاية جنوب كردفان ليعيد التوازن الأثنى في الأقليم وبالتالى قياساً إيجاد موازنة سياسية لقضية أبيى. وقد أدى عزل أبناء القبائل العربية من الأشتراك المباشر في الحوار في نيفاشا ومشاكوس إلي التشكك في جدية الحكومة وأن هناك إجندة سرية تحاور خلفها الحكومة يعتبر من ضمن شروط تحقيقها تقديم تنازلات في أرض أبيى لصالح الجنوب، وقد تعززت تلك المخاوف بأقحام قضية أبيى نفسها في صلب المفاوضات بعد أن كانت قضية غير مطروقة أصلاً من قبل المفاوض الجنوبى. أضف إلي كل ذلك إدارة الحكومة لملف الأزمة التى نشأت بعد إعلان اللجنة المفوضة لقرارها المشؤوم، حيث تراخت الحكومة وحتى الأن في التعامل مع القضية بأعتبار إنها قضية تمس الأمن القومى السودانى أرضه وشعبه، وتحاول إخراجها علي أساس إنها نزاع قبلى بين المسيرية ودينكا أنقوك محاولة بذلك نسف أخر ما تبقى للمنطقة من أواصر التعايش السلمى، علماً أن قضية حلايب، التى تعتبر مشابهة تماماً لقضية أبيى تعاملت معها الحكومة بأعتبار أنها قضية قومية تمس الوطن وسيرت بشأنها مسيرات هادرة تعكس عمق القضية وأهميتها بينما أبيى تعتبرها نزاع قبلى على الأرض. كل تلك الخلافات تلقى بظلال كثيفة حول مساومة الحكومة بأمن القبائل العربية بأرض الهامش وسوف يظل مستقبل ملف أبيى كتاب مفتوح لأبناء القبائل العربية في أرض الهامش لقراءته بروية وأستنباط مدلولاته علي أمنها الأقليمى.
ومن ناحية الحركة الشعبية، فقد بدت الحركة أنها كسبت قضية أبيى بأعلانها المبكر وغير المدروس بأن قرار اللجنة المفوضة ملزم دون الرجوع إلي ملاحظات المفوضية حول إقرارها بفشلها في تحديد حدود 1905م، مما هدى بالمفوضية إلي إتباع أساليب أخرى منها إضافة أراضى البترول إلى الجنوب كما يقول حاكم إقليم كردفان السابق عبدالرسول النور، أو أتباع طبيعة التربة وضم الأراضى الطينية إلي الجنوب وأراضى القوز إلي الشمال، مما أدى إلي ضم كل أراضى المسيرية التى تقع داخل الأراضى الطينية إلي الجنوب كمنطقة كيلك وغيرها. وقرار المفوضية أفرز بؤرتين جديدتين حول صراع أبيى، الأول هو عمل وأمل أبناء القبائل العربية علي إقناع المجتمع الدولى بخطأ قرار المفوضية بحقائق الأرض، الجغرافيا، التأريخ والوجود البشرى، الثانى هو العمل إلي إيجاد تسوية سلمية للمناطق التى تم ضمها جزافاً إلي الجنوب. قبل موت الدكتور قرنق كانت تلك النقاط ممكنه بحكم تمسكه بترك الحرب والركون إلي الحوار لحل كل القضايا العالقة مما يعنى توفر النوايا الحسنة تجاه قضية أبيى من جانب الدكتور قرنق، تلك النوايا الحسنة أصبحت في مهب الريح الأن! مما يوجب فهم القضية علي أسس جديدة أهمها فهم ثلاثة تيارات فكرية وسياسية جنوبية، أولها التيار الجنوبى الوحدوى أمثال اللواء فاولينو ماتيب، الثانى التيار الوطنى الجنوبى الذى يرى أن الجنوب للجنوبين وعلي راس هذا التيار، النائب الأول لرئيس الجمهورية الجديد، القائد سلفا كيير ميارديت، الثالث التيار الأنفصالى الذى يتبناه معظم قيادات الحركة الشعبية ومنتسبيها وعلي رأسهم نائب رئيس الحركة الشعبية الجديد، د. رياك مشار، والقائد الجنوبى د. لام أكول أجاوين. وتعتبر أراء هذه التيارات الثلاثة غامضة بحكم سيطرة د. جون قرنق علي مقاليد السياسة الجنوبية مما أضعف أراء هذه التيارات في الماضى، وبالتالى يستطيع المرء أستفشاف أهمية ترتيب البيت الجنوبى في المرحلة القادمة والذى سوف يأخذ أهمية قصوى في الرأى السياسى الجنوبى ويتم تأجيل ملف أبيى إلي حين، ويأتى ضعف أهمية ملف أبيى من ناحية الطرف الجنوبى إلي حقيقة مفادها أن معظم القيادات الجنوبية المؤثرة في الحركة هى ليس من أبناء بحر الغزال بأستثناء المسؤول الأمنى الأول للحركة القائد إدوراد لينو، فالقائد سلفا كيير ميارديت من أبناء الأستوائية، و د. رياك مشار من أبناء أعالى النيل. ومن هذا التحليل يمكن أن يخلص المرء إلي أحتمال بروز القائد إدوراد لينو، المرشح المحتمل لوزارة العدل السودانية، كطرف أساسى سوف يؤثر في ملف أبيى بطريقة مباشرة تمس أمن قبائل التماس بشقيها الأفريقى والعربى، كما سوف تظهر أراء القيادات الفكرية، تحديداً د. فرانسيس دينق، والتى يتحفظ شخضى علي محتواها المغلف ظاهرياً بأنها تحمل بذرة شقاق حادة يصعب تجاوزها فى مرحلة الصراع القادمة من أجل أنتزاع الحقوق في أرض أبيى.
إذن ماذا يجب أن تعمل القبائل العربية في أرض الهامش لتفعيل قضية أبيى إيجابياً:
يجب العمل علي بناء وحدة صف حقيقية من أبناء القبائل العربية في أرض الهامش بشقيهم العربى والأفريقى، وتفعيل دور أبناء الأقليم في الحركة وتحديداً تعفيل دور أبناء النوبة في الحركة نحو تبنى قضية أبيى بأعتبارها جزء من أقليم جنوب كردفان وأعتبار أمنها وأرضها ومواردها موارد أقليمية تخص كل أبناء الأقليم، أيضاً يجب تفعيل دور الشارع السياسى السودانى الذى بدأ يتجاوب إيجابياً مع قضية أبيى مؤخراً كحزب الأمة الذى أصدر بياناً يحمل رؤية متقدمة لبحث الأشكال وتفعيل القضية علي أسس قومية جامعة تعالج قضية الموارد والأرض والملكية لكى يتم إخراج القبائل في المنطقة من الأحتكاك القبلى، وأهم من ذلك يجب الضغط من أجل أن تتحمل الدولة مسؤوليتها تجاه شعبها في المنطقة ودرأ أسباب فشلها، كما يجب علي أبناء المنطقة أخراج القضية من إطارها القبلى وعدم تعلقيها علي فشل إتفاقية نيفاشا وإيجاب معالجتها علي أساس إنها خطأ من قبل اللجنة المفوضة وبالتالى ينصب الجهد نحو تدارك الخطأ في قرار اللجنة المفوضية وضمان مراجعته بأشراك أصحاب الأرض الحقيقيين في الصراع.
نخلص أن رحيل الدكتور قرنق قد أصاب قضية أبيى في مفصل حساس، هو غياب القيادة الكارزماتية التى تضمن الحقوق وتؤكد نفاذ العهود والمواثيق، مما ترك أبناء القبائل العربية في شك من أمرهم تجاه نوايا القيادات الجنوبية ومستقبل الصراع في المنطقة ومصير علاقة القبائل العربية في أرض التماس بالجنوب. وخاتمة القول أن مستقبل مأزق قضية أبيى إلي أين سؤال مفتوح يجب أن تجيب عليه القيادات الجنوبية والحكومة علي السواء وهو حق من حقوقنا المشروعة في العيش، الأمن والبقاء ولا يتحمل التسويف والمماطلة، وسوف لن يطيع حق خلفه مطالب.
أرجو من القراء الكرام متابعة الحوار علي صفحات المنبر العام لسودانيز أون لاين.
بريمة محمد أدم.
مقيم بالولايات المتحدة الأمريكية.
7 أغسطس2005