إذا كان هذا هو حال الدولة الرسمية وإلي جوارها الحركة الشعبية لتحرير السودان وكافة دول الجوار والعالم فمن باب أولي أن يصل الأمر إلي مرحلة الذهول وفقدان الوعي والجنون لدي رجل الشارع العادي الذي لا يكلف نفسه عناء البحث والتقصي والتحليل كل ما يعرفه " الأبيض أبيض والأسود أسود". هذا وحده كاف أن يجعل الأمور تخرج عن نطاق السيطرة بدافع إشباع الحاجة من جهة والرغبة في الانتقام من جهة أخرى ، وأنى لنا تصور الموقف عندما يتبرع من يصب الزيت علي النار لتحقيق أهداف سياسية. هذا المهمش الذي خرج قبل حين لاستقبال بطل السلام وأحد صناعه الأخيار في حفل مهيب ، تبادل فيه الطرفان معنى الحب والوفاء والتمسك بالأمل لصنع غدٍ أفضل لإنسان يستحق أن يحيا كريما بين الأمم. قبل أن تتصافح الأيادي وتمتلئ عين كليهما بحبيبه تشوفاً ، جاء الخبر الفاجعة و بدون أي سابق إنذار أن الحبيب الغالي قد رحل. رحل وهو لم يقل بعد كلمة الوادع ، ولكن أنى له بقول هذه الكلمة وهو لم يكمل المشوار بعد. ويعلم علم اليقين أنه إذا ما لمح إليها دعك من تلاوتها فإن الحاضرين تأكيدا لوفائهم يساومونه في الرحيل بدلاً عنه إذا كان لابد من الرحيل.
ما المقصود بالوحل:-
الشعوب الحية التي تمتلك نخبة واعية ومدركة تحتاط لكل كبيرة وصغيرة خاصة في الظروف الصعبة ، وعند مدلهمات الخطوب. والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هل هذه هي المرة الأولي التي يفقد فيها السودان أحد أبناءه بهذه الطريقة الدرامية أو ما شابهها؟ وهل سوف تكون هذه هي المرة الأخيرة التي يحدث فيها شيء مريع كهذا؟ أقطف ثمرة الإجابة علي هذا السؤال من سجل الإنقاذ عبر تاريخها الطويل ومنعطفاته المتعرجة. فموت الشهيد الزبير محمد صالح وكذلك الشهيد إبراهيم شمس الدين ورفاقه ومن قبلهما الإعدامات التي جرت لضباط المحاولة الانقلابية في رمضان ، هذه التجارب لم يتم التحقيق بشأنها من قبل أطراف محايدة ومستقلة ، عبر لجان تخصص لمثل هذه الأغراض. والكل يعلم أن الباب ترك مفتوحا للشائعات أن تعلب دورها ، وتفعل فعلها في نفوس جماهير الشعب السوداني المتعطشة لمعرفة حقيقة ما جرى. لا يوجد عاقل لديه مصلحة في إخفاء الحقيقة عن الناس وحجبها لمقيات يعلمه اللهم إلا إذا أراد أن يضع نفسه في خانة المتستر علي جرم ما ، وفي هذه الحالة يكون الجرم أكبر. لأن التاريخ علمنا أن الحقيقة تمتلك قوة في ذاتها تؤهلها للتعبير عن نفسها في يوم من الأيام وأن مرتكبها مهما تهرب أو بني من مجد ينهار لحظة الكبس علي زرها. خلق هذه الماضي البعيد القريب خيالاً خصباً لتجربة تتكرر مع رجل فريد وصانع سلام ويمثل ضمير المهمشين الذين توسموا فيه خيراً لتخليصهم من ضروب المعاناة والألم. فإذا بالخبر يأتي بفقدان الاتصال بالطائرة التي تقل من يحبون الدكتور جون قرنق دي مبيور، وقبل السؤال عن كيف حدث ذلك؟ وما معنى فقدان الاتصال بالطائرة لدي رجل عادي بسيط ، يأتي خبر آخر بهبوط الطائرة في أحد معسكرات الجيش الشعبي لتحرير السودان بأمان. كيف يفوت علي هؤلاء أن السماء باتت اليوم مفتوحة أمام تكنولوجيا الهواتف المحمولة؟ فكان أول المستفيدين من هذا التضارب في نقل الخبر ونفيه شركات الاتصال الداخلية والخارجية. وعندها بدأ الشعور بالخوف من المجهول وحدوث ما هو أسوأ تداعب خيالاتهم وهم يتهربون منه. بدأت الأسئلة الابليسية تطل علي رؤوس الأشهاد ، وفي مقدمتها من لديه المصلحة الحقيقية في اختفاء الدكتور جون قرنق من الساحة السياسية السودانية أهي الحكومة أم بعض من أفرادها أم هي المعارضة أو جزء من قياداتها؟ أم هي أطراف خارجية تتحالف مع أطراف داخلية؟ تلك هي نظرية المؤامرة عندما تفعل فعلها في نفوس البشر وتستهدف التلاعب بعقولهم. لا يمكن تفاديها إلا بقطع الشك باليقين ومعرفة الحقيقة ولا شيء سوى الحقيقة عبر لجنة تحقيق تلك التي لو أعلنت منذ الوهلة الأولي لتمكنا من حجب دماء كثيرة ، ونفوس بريئة نتضرع إلي المولي عز وجل أن يسكن الجميع فسيح جناته مع الصديقين والشهداء والصالحين.
توعية الجماهير:-
يضاف إلي كل ذلك أن التوعية باتفاقية السلام لا تزال محدودة وفي بواكيرها وأكبر دليل علي ذلك أن ما تمت إذاعته مما تفضل به الراحل لم يبلغ كافة جماهير الشعب السوداني قبل موته عبرالأجهزة المرئية والمسموعة. فضلاً عن أن الحركة الشعبية لتحرير السودان لا تزال هي الأخرى مهيضة الجناح من الناحية المادية مما يمكنها من خلق آلياتها الإعلامية المستقلة التي تمكنها من الوصول إلي جماهيرها علي وجه الخصوص وجماهير الشعب السوداني عامة. وهذا يدعونا أن نتوجه بالنصح إلي القائمين علي إدارة الأجهزة المرئية والمسموعة في بلادنا زيادة حصة البرامج التوعوية والتخلي عن كافة البرامج التي تحمل تفسيرات متعددة وتأويلات جمة، وتساهم بطريقة أو أخرى في نكأ جراح الماضي واستدعائه ، في تجاهل شبه تام لما حدث علي الأرض بتوقيع اتفاقية السلام الشامل.
خيط الثقة وليس حبلها رفيع جداً:-
كشفت الأحداث الأخيرة عن هشاشة خيط الثقة بين جماهير الشعب السوداني في الجنوب والشمال. وأن عبء التاريخ لا يزال يثقل كاهل الغالبية من الناس مما يتطلب الأمر بذل جهود كبيرة ومضنية لإزالة ما علق بالنفوس من شوائب وأدران طيلة الفترات السابقة، خاصة مرحلة الحرب. وما يدعو للتفاؤل أن صانعي السلام قد تنبهوا إلي ذلك وتحدثوا عن المصالحة الوطنية حيث جاء في الفقرة (1-7) من بروتوكول قسمة السلطة ( يتفق الطرفان علي بدء عملية مصالحة وطنية شاملة وتضميد الجراح في جميع أرجاء القطر كجزء من عملية بناء السلام . وتتولي حكومة الوحدة الوطنية صياغة آلياتها وأشكالها.) والمطلوب هو الإسراع في إجراء هذه المصالحة الوطنية.
خلاصة:-
لا أقول علي نفسها جنت براقش ولكن بدا لي كمراقب للساحة السياسية السودانية غياب الأجهزة العلمية المتخصصة التي تقرأ الأحداث بصورة علمية استطلاعية. كي تعين متخذ القرار علي القرار الصائب في الوقت المناسب وليس بعد فوات الأوان. زد علي ذلك أن جماهير الشعب السوداني لديها عواطف جياشة وغضب مدمر ، ينبهنا علي التعامل مع الأمر بالجدية المطلوبة وفي الوقت المناسب. بالإضافة إلي كل ذلك تأكد مما لا يدع مجال للشك أن هناك من يرد أن تبقى الجماهير بلا وعي ، حتى يتمكن من توظيفه في الوقت المناسب لتحقيق أغراض ومصالح حزبية ضيقة.
معاً من أجل سودان جديد