وقد قدر جميع أبناء الوطن ذلك للحركة الشعبية , ووصفوا تصرفها بالحكمة والكياسة , في المقابل اتسم موقف النظام وقادته في الخرطوم أيضا بشيء كبير من التعقل والدعوة الى اتقاء الفتنة بين أبناء وطن كبير, وان بدا من اللحظة الأولى أن النظام يحاول التستر على خطائه في عدم اتخاذ الاحتياطات الكفيلة بحماية مواطنيه الشماليين من حالة الفوضى اللامبررة التي افتعلها أناس كان أغلبهم الأعم من الجنوبيين, بل حتى أن النظام واعلامه الرسمي لم يستطع أن يجاهر حقيقة بأن الجنوبيين كانوا لهم اليد الطولى في أعمال الشغب. وتلى ذلك دعوة رأس النظام في الخرطوم الى تشكيل لجنة تحقيق وطنية (على حد قوله) على أن تشمل هذه اللجنة أيضا أعضاء من حركة التمرد في الجنوب . وتكون مسؤلية اللجنة الرئيسية هي التحقيق في أسباب سقوط طائرة النائب الأول.
وعلى ذلك فان ملخص موقف النظام وحركة التمرد مجتمعين هو تشكيل لجنة وطنية للتحقيق, وقد صرح كل من نائب رئيس حزب الجبهة الاسلاماوية الحاكم نافع علي نافع ومعه القيادي نيال دينق من جانب التمرد أن اللجنة يمكن لها الاستعانة بالجانب الأوغندي وذلك نظرا لكمية المعلومات التي يفترض أن تكون في حوزة أوغندا والمتعلقة بحادث المروحية.
في خضم كل تلك الملابسات أعلنت أوغندا عن دعوة دول المنطقة لقمة طارئة لبحث الوضع في السودان اثر أحداث الشغب الأخيرة.والدعوة عندما تأتي من بلد مثل أوغندا يكون لنا الحق في اثارة العديد من علامات الاستفهام حولها, ولسنا بمنطقنا هذا نتحامل على أحد, فالتاريخ والأحداث تظهر أن أوغندا كانت ولاتزال تتدخل بصورة مباشرة في عدة دول مجاورة لها. ان يد أوغندا ونظام موسيفيني قد لعبت دورا قذرا يعرفه القاصي والداني في مجازر وتصفيات ماعرف حينها بحرب دول البحيرات. ولايزال موسيفيني يتدخل الى الآن في الكونغو كينشاسا ولايزال كابيلا الصغير يتهم موسيفيني الكبير بالتدخل فيما لايعنيه.
. وقبل الدخول في التفاصيل لابد من الاشارة الى دول المنطقة المدعوة الى القمة الطارئة قد تكون بروندي, رواندا , كينيا , أثيوبيا , أرتريا والصومال وقد تكون هناك بعض الدول الأخرى التي لم يصل الى منتهى علمنا الى الآن مشاركتها من عدمها
ان كل هذه الدول عن بكرة أبيها وبلا استثناء تعاني الى الآن من مشاكل داخلية مزمنة سببها الرئيسي نزاعات أهلية لم تبق ولم تذر من أبنائها وثرواتها شيئا يجعلنا نطلق عليها لقب دول. فاذا كان فاقد الشيء لايعطيه , فكيف لهذه الدول أن تناقش شأن السودان.
لقد كان قرنق في رحلته الأخيرة يمارس دور الجودية بين أوغندا وبين قوات مايعرف بجيش الرب.
ان الحركة الشعبية (صاحبة الوجعة) التي فقدت نتيجة للحادث قائدها ومنظرها وزعيمها الروحي , لم تطلب عقد قمة لدول الجوار أو حتى دعوة المجموعة الدولية للنظر فيما حدث , فمال أوغندا تطلب؟ وقطعا لن يعتقد أحد أن حركة التمرد أوكلت مهمة الدعوة الى هذه القمة الى الجزار موسيفيني نيابة عنها, فرجالات الحركة يقولون مايشاؤن في الخرطوم وفي نيوسايد وفي غيرها من مناطق السودان , وكان بامكانهم الدعوة الى هذه القمة من الخرطوم عن طريق الناطقين باسم حركتهم.
اضافة الى كل ذلك فانه ليس بين الضحايا أوغندي واحد ولا بين المصابين, ولم ينتج عن هذه الحادثة عمليات نزوح من الخرطوم وسيرا على الأقدام الاف الكيلومترات الى داخل الأراضي الأوغندية, ومن غير المتوقع أن يؤثر الوضع في الخرطوم على أوغندا بأي شكل على الأقل في هذه المرحلة المبكرة.
ولكن هل لنا أن نسأل عن ماهية البنود الموضوعة على الطاولة لتناقشها قيادات هذه الدول المدعوة الى هذه القمة؟ وما هي الحلول المقترحة؟ واذا كانت هذه الدول تملك حلولا واقتراحات فلماذا لاتطبقها على نفسها لحل مشاكلها ؟ وكيف سيتم تطبيق هذه الحلول ؟ وماهي الآليات الضاغطة التي تمتلكها هذه الدول على السودان لدفعه لتطبيق الحلول المقترحة؟
لقد وضح جليا مدى وعي قيادة التمرد لخطورة الأزمة, وبدا ذلك في بياناتها الرسمية التي أصدرتها, وبدا أيضا أنها ونظام الجبهة في الخرطوم متفقين تماما على حلحلة الأمور بأسرع الطرق وأنجعها وأسلمها.
غير ان من أكثر ما يثير الريبة في الدعوة الأوغندية هي السرعة التي تم بها توجيه هذه الدعوة, فالاضطرابات في الخرطوم لم تزل في يومها الثاني والنظام والحركة يؤكدان للعالم قدرتهما على كبح جماح التطرف والفوضى, فاذا بموسيفيني يعلن دعوته. لماذا؟
ان من الواضح للعيان أن موسيفيني يرغب في لعب دور البطولة المطلقة والذي هو أكبر بكثير من حجمه, ومن حجم دولته الصغيرة المحبوسة في أواسط أدغال أفريقيا, لقد فقد السودان الغالي ابنه قرنق في طائرة موسيفيني , انقطع الاتصال مع طائرة الراحل المقيم ولم يخطر موسيفيني السودانيين لا نظاما ولا تمردا الا بعد ساعات.
على السودانيين أن يحذروا من أعداء الخارج على الأقل خلال الستة سنوات الطويلة المقبلة الى أن يأتي وقت يقرر فيه جيراننا الجنوبيون مصيرهم الذي يبدو واضحا بعد الأحداث الأخيرة أنه من الأفضل أن يكون الانفصال أو لنقل استقلال جنوب السودان ليكون دولة جديدة , يرفرف علمها عاليا خفاقا على جوبا أو رومبيك أو أي مدينة أخرى, المهم بعيدا عن باقي أجزاء السودان
للأسف لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تحصل فيها أحداث عنف على هذه الشاكلة, فلقد حدثت قبل ذلك مرات عديدة ولكنها المرة الأولى التي تحدث بعد توقيع اتفاقية نيفاشا. وأدعو الله أن تكون الأخيرة. لقد تكرر مشهد هذه الفوضى في جوبا في العام 1955 وتكرر في التسعينيات في واو وتكرر زمن انهيار حكم الفريق عبود رحمه الله تعالى.
وعلى السودانيين شماليين وجنوبيين أن ينقلوا الى أفهام الغير ألا حرب ستدور مرة أخرى فاما الانفصال وتكوين دولة مستقلة حرة ذات سيادة في الجنوب بحدود متعارف عليها ومرسمة دوليا يعيش فيها الجنوبيون وينتقل أيضا اليها كل ضيوفنا من الجنوبيين القاطنين في مناطق السودان المختلفة ليعيشوا في الدولة الوليدة الى جانب اخوتهم الآخرين بعيدا عن السودانيين, واما وحدة.
وهنا لابد من الاشارة الى أنه كان من العدالة أن يتم منح حق تقرير المصير للشماليين أيضا. وليتم الاستفتاء في وقت واحد في الشمال والجنوب فاذا اختار أحد الطرفين أو كليهما الانفصال فليكن. لقد اخنار أعيان وقيادات الجنوب الوحدة قبل الاستقلال وهاهم الآن ستتاح لهم الفرصة مرة أخرى, فأين العدالة؟
ان الأخطار التي قد تحدق بهذه الاتفاقية ضخمة . فالأعوام الستة التي تفصلنا عن تقرير المصير فعلا طويلة طويلة جدا. والمهم أن يتفق الجميع ألا حرب مجددا.
د/ عمر عبدالعزيز المؤيد/ لندن