![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
والأزمة الأخيرة التي مرت بها عاصمتنا الخرطوم أشعرتنا أن عهد التسامح في السودان قد أنتهي إلي غير رجعة ، وان ثقافة العنف والشحن المذهبي وتهييج المشاعر التي سلكتها الجبهة الإسلامية منذ مجيئها إلي الحكم قد غيرت في سلوك الناس وحولتهم إلي دمي يسهل توجيهها بكل بساطة لتكون قنابل حارقة و قابلة للانفجار في أي وقت ، الخرطوم في يومي الأحد والاثنين والثلاثاء أصبحت مثل منروفيا عاصمة ليبريا أيام الحرب الأهلية ، أراد المتعافي من الخرطوم أن تكون عاصمة للثقافة العربية ولكننا كنا نريدها عاصمة للتسامح الديني والعرقي ، فالرسول ( ص ) عاش بين مجتمع مشرك ولم يطرق باب الهجرة إلا بعد أن ضاقت به السبل ، وفي المدينة عاش بين اليهود ولم يجليهم عن المدينة إلا بعد أن نقضوا المواثيق وتحيزوا لقريش في غزوة الخندق ، ان الدين الإسلامي نجح في أن يعيش في بيئة غير مسلمة وغير عربية وحقق الانتصار تلو الانتصار ، فالجاحظ وابن المقفع والبخاري ومسلم وأبو حنيفة النعمان ومالك صاحب الموطأ لم يكونوا من عرب قريش ولكنهم نفعوا الإسلام أكثر من قريش نفسها ، والصوت الذي علا في الأيام الماضية هو صوت جديد علي مسامع أهل السودان وبرزت علي سطح أزماتنا الاجتماعية المستعصية كلمة جديدة برعت الصحافة الإنقاذية في وصفها والترويج لها وهي كلمة ( أهل الشمال ) ، ولم يعطينا أحد تعريفا دقيقا لأهل هذه الفئة التي حازت مدينة الخرطوم وطلبت من الجميع الجلاء عنها وألا لاقوا الويل والثبور ، ولا نعرف ما هي الحدود الجغرافية لهذا الشمال وهل يضم في ثناياه إقليم الجزيرة ودارفور والشرق وكردفان أم لا ؟ وهل يحق لنا في دارفور والجنوب وحلفا الجديدة أن نطالب بطرد كل من أتي من الإقليم الشمالي أم أن هذا القانون خاص بمدينة الخرطوم فقط ، والأحداث الأخيرة كان يمكن تلافيها إذا فكرت الدولة بحكمة وعملت بسياسة توزيع الأدوار في الأجهزة الإعلامية ، وأجمع كثير من المراقبين لتطورات هذه الأزمة أن تعامل الإعلام معها كان في غاية السوء وعدم المبالاة ، كان أهل الخرطوم يتحلقون حول التلفاز من أجل متابعة خبر اختفاء طائرة نائب الرئيس ولكن التلفزيون السوداني كان يعرض مسرحية في غاية السخافة علي المشاهدين ، وبدأ الإعلان عن اختفاء طائرة نائب الرئيس متناقضا ففي أحيان كان المذيع يؤكد هبوط الطائرة بسلام في مدينة نيو سايت وفي أحيان أخري يؤكد أن الطائرة لا زالت مفقودة ، وبالنسبة لتاريخ فقدان الطائرة كانت هناك روايتين ، رواية ذكرها مذيع الأخبار أكد فيها أن الطائرة اختفت يوم الأحد ولكن عبد الباسط سبدرات سارع بنفي هذه المعلومة وأكد أن الطائرة اختفت منذ عصر السبت بتوقيت يوغندا ، وإعلان وفاة جون قرنق لم يأتي من جانب الحركة الشعبية وهي صاحبة الحق في نفي الخبر أو تأكيده ولكنه جاء أيضا بلسان عبد الباسط سبدرات ، أحتكر عبد الباسط سبدرات كل الأدوار وتعامل كعادته بفوقية وتعالي في إدارته لإعلام هذه الأزمة وتجاهل الجميع ، ويري بعض المراقبين أن خبر إعلان فقدان طائرة الشهيد جون قرنق وموته لو جاء بلسان الأستاذ/نيال دينق نيال سوف يكون تاثيره مهدئا لنفسيات أهل الجنوب ومشاعرهم ، وهذه الفوضى والتخبط في أداء أجهزة الدولة الإعلامية كانت بداية الشرارة التي أحرقت مدينة الخرطوم ، وحدث لغط وهرج ومرج كثيف وراجت الإشاعات المغرضة وأولها كان ربط المشاغبين بأهل الجنوب وبالحركة الشعبية علي وجه الخصوص ، وأول مسئول حكومي أنساق وراء هذه النظرية كان دكتور كمال العبيد عضو لجنة الاتصال بحزب المؤتمر الوطني الحاكم ، فقد أكد دكتور العبيد لقناة الجزيرة في مقابلة علي الهواء مباشرة أن المخربين انطلقوا من مقرات الحركة الشعبية وهذا هو الذي فسر الاعتداء علي هذه المقرات بعد هذه التصريحات من قبل جموع الشماليين الغاضبة ، وهذا التأكيد من مسئول رفيع بمستوي الدكتور عبيد أعتبر بمثابة الانطلاق لحصان هذه الفتنة ، فتحريات وزارة الداخلية أثبتت أن الذين قاموا بهذا العمل هم من أرباب السوابق ولهم ملفات جنائية بمكاتب الشرطة ولا علاقة لهم بالحركة الشعبية من قريب أو بعيد ، وفي أمدرمان شارك في عمليات النهب والسرقة أناس لا ينتمون إلي الإقليم الجنوبي وبعضهم من أبناء الشمال أنفسهم ، فكلنا نعرف أن الجريمة ليس لها وطن محدد أو عرق معروف أو مذهب خاص فهي انحراف في سلوك الإنسان بغض النظر عن المكان الذي أتي منه ، وقد شارك المتشردين من سكان مجاري الصرف الصحي في هذه الأعمال الإجرامية ،وهناك مجموعة من المخربين كانت تعمل في هذه الدور التي نهبت مثل خدم المنازل وعمال النظافة ، وهناك فئة كانت تسكن في البنايات الأسمنتية الغير مكتملة البناء داخل الأحياء الراقية في مدينة الخرطوم وأمدرمان ، هولاء هم الذين شاركوا في النهب والسلب والسرقة وجمهور الحركة الشعبية كان بريئا من هذه الفوضى ، ولكن من خطط لهذه الأزمة كان يقصد هدفا بعيدا ولا علاقة له بحماية المواطنين أو شرفهم ، شخص كان يريد صيد عصفورين بحجر واحد بحيث يجرح في جمهور الحركة الشعبية ويجعل أبناء الشمال ينفضون من حولها والهدف الثاني كان إظهار الحكومة السودانية بأنها ضعيفة وغير قادرة علي فرض سلطة الدولة والقانون في الخرطوم ، وألان كثر الحديث عن المليشيات الشمالية التي دعا إلي تكوينها الطيب مصطفي من أجل طرد الجنوبيين من العاصمة ، فالرجل ألان يعتم بعمامته بعد أن أصبح متفرغا من العمل ليؤجج الفتنة وسط هذه الظروف الحساسة ويطرق أبواب الدبابين من أبناء الشمال ويطلب منهم نصرة الخرطوم العربية الأصيلة من جحافل الجنوبيين المتوحشين ، وقد قلت لكم سابقا أن هناك من شارك في هذه الفوضى بالسرقة والنهب وهناك من شارك بالفكر والقلم مثل الطيب مصطفي وحسين خوجلي ، متي يتوقف هولاء عن الدعوة إلي الفتنة ، أما تكفيهم هذه الدماء التي أريقت أو الممتلكات التي نهبت ؟ وقد أبدى هولاء توجسهم من السلام قبل أن يجف حبره وليس بالغريب أن يركبوا حصان الفتنة الجامح في هذه اللحظات .
سارة عيسي