كنا في (عزومة) سودانية خارج الديار ، وكالعادة فنحن لا يُشق لنا غبار في النقاش سياسياً أو تحليل الأوضاع المعقدة عالمياً وإقليمياً ومحلياً (عيني باردة علينا) .. وارتفعت الأصواتُ و (جاطت) الدنيا .. ( قرنق .. فلسطين .. العراق .. أمريكا .. الجنيه والدينار.. سلفاكير .. الحكومة الجديدة .. دارفور ورمبيك) ، فالكل يتكلم في نفس اللحظة ولا تدري من المستمع ، فجميع الأفواه مفتوحة على مصراعيها وكأنهم على كرسي طبيب الأسنان ، وإذا بطفل صاحب الوليمة يسألني بصوت هادئ وبحياء الأطفال وكأني به أراد أن لا يسمعه أحد فيزج به في تلك (المشادات) الكلامية المخيفة التي لا يصل لمستواها إلا صياحات (الخرخرة) في الكوتشينة السودانية .. سألني الطفل : يا عمو شنو عايزه أمريكا من العراق وليه ما عايزه تخليه في حاله ؟! وكمان ليه (إحنا) ما قادرين نقول لأمريكا فقط (حوشي) اليهود من أخوانا الفلسطينيين ؟! فأخذت بيد الطفل إلى ركنٍ هادئ وقلت له (كما المستضاف في حلقة تلفازيه) والله يا ولدي سؤالك جميل وصعب في آن واحد .. ولكني سأحاول أن أقرب لك القضية ..
أولاً قضية العراق تذكرني يا ولدي بنكتةٍ سبق أن استشهدت بها في مقالة عن صندوق النقد الدولي وتعامله مع العالم النامي قبل أكثر من عشرين سنة خلت . ويمكنني الاستعانة بها للخروج من هذا المطب الآن .. فأمريكا يا ولدي تفرض نفسها كطبيب علينا وتريد إصلاحنا كما تدعي . وهذا الطبيب (أمريكا) يعتمد بالطبع على (إشاعات) وتحاليل (السي آي أيه) المغلوطة والملوثة والفاشلة دوماً وهي مثل (إشاعاتهم وتحاليلهم ) التي قصفوا على ضوئها مصنع الشفاء السوداني ولم يعتذروا حتى اليوم !، هذا الطبيب (أمريكا) واعتماداً على (إشاعته) ومآربه الأخرى (المصلحية) قرر بتر ساق العراق المريضة . وهنا تدخلت أوروبا (بأشعتها) (وليس إشاعاتها) وقالت لأمريكا أن الساق سليمة ! .. أما نحن كأمة فلا معامل أو مختبرات استراتيجية لنا حتى نقول كلمتنا أو نعالج ساقنا بنفسنا إن كانت مريضة .. وهكذا قام الطبيب الأمريكي وعلى (الهواء مباشرة) ببتر ساق المريض (الذي هو العراق) . ونجحت العملية حسب رأي أمريكا! . وعندها دخل الطبيب (أمريكا) على المريض وهنأه على السلامة ، وبأمانة (الديمقراطية الأمريكية!) قال الطبيب للمريض : لدي خبران لك ، أحدهما مفرح والآخر محزن فبأيهما أبدأ ؟!. فقال المريض أبدأ بالسيئ يا دكتور ومِن ثم أفرحني بالآخر .. فأجاب الطبيب قائلاً : نحن مع الأسف بترنا ساقك السليمة عن طريق الخطأ لأن التقارير كانت مغلوطة فأربكتنا .. فبكى المريض بمرارة لأنه قد فقد ساقه السليمة (أونطة) . ثم أردف الطبيب قائلاً : أما الآن فأفرح يا عم واقذفنا بباقات الزهور التي طالما اشتقنا لها فإننا قد اكتشفنا بأن ساقكم التي كنا نظن حسب (إشاعات) مختبراتنا وتحليلاتنا بأنها مريضة إنما هي سليمة !! وعندها بكى المريض بحرقةٍ أكبر لا يدرك مداها أو مغزاها اليانكيس !! .
أما يا ولدي بالنسبة لكوننا لا يمكننا مع كل قوتنا ومقدراتنا و(أهميتنا لأمريكا) أن نقول لها (اقرصي أذن إسرائيل) ولو (بحنية) لكي ترفع يدها وبطشها وظلمها وإرهابها عن أهلنا في فلسطين ، فهذا الأمر يحير كل أفواه أعمامك التي تراها جميعها مفتوحة الآن في هذا النقاش الصاخب . ولكني أيضاً أحاول أن أقرب الصورة لك بقصة الديك وحبة القمح ...
والديكُ يا ولدي هو أمريكا التي يمكنها أن تصيح و (تنقد) و (تنقر) و (تنفش) دون أن يسكتها أحد .. والديكُ يصيح عالياً ويُسمَع صوته في كل أرجاء المنطقة .. وأحياناً يصيح الديكُ في غير أوقاته المعهودة وحسب المصالح ! .. وبالطبع حبة القمح تهابه خوفاً من أن تؤكل !! ويقال هنا بأن أحدهم ذهب عقله فظن أنه (حبة قمح) وكلما صاح الديك (أمريكا) ارتعب الرجل واختبأ خوفاً من أن (يبتلعه الديك) , فاجتمع به أهله ومعهم الطبيب النفساني في محاولة لإقناعه بأنه ليس بحبةِ قمحٍ وأنه قوي ويمكنه مواجهة الديك ولو (فقط) لكي ينصحه بأن يكف عن إيذاء البشر ، و(أضعف الإيمان) عن طريق الإدانة القوية والفعالة ، وبأنه تحت أية حال سوف لن يؤذيه الديك (أمريكا) طالما أنه سيترك له (أي لأمريكا) البيضَ كله ويبتعد عن أسلحة الدمار الشامل وتخصيب اليورانيوم ! . فقال لهم الرجل المريض الذي يظن بأنه حبة قمح ( خلاص يا جماعة أنا اقتنعت بأنني لست بحبةِ قمحٍ ولكن يا ربِ من سيقنع الديك بأنني لست بحبةِ قمحٍ) ؟!
فيا بني أرجو أن أكون قد قربت لك فهم (بلاوينا) , فالعراق بُترت ساقه السليمة وغيره ربما تبتر ساقاه ! .. والديك سنعمل حسابه (خوفاً) و (دوماً) كي لا يلتقطنا فيهضمنا ومن ثم (…..!!) .. ومع هذا فالأمل كبير فيكم أنتم شباب الغد في أن تبتكروا لنا (نظام تعامل) جديد يُلزم الديك حدوده ..!
توفيق منصور (أبو مي)
[email protected]