السودان
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام

حوار مع الروائي جمال الغيطاني(الجزء الاول) بقلم أحمد ضحية

سودانيزاونلاين.كوم
sudaneseonline.com
8/3/2005 3:31 ص

لكاتب الكبير جمال الغيطاني :

لم أقرأ لابراهيم اسحق لكن بهرني احمد حمد المك فروجت له !!
بدأت الكتابة بنوع من " الكذب الابيض " احكي وقائع لم تحدث ..
تجربتي في " الزيني بركات " شبيهة بتجربة ابن اياس في بدائع الزهور في وقائع الدهور ..
جئت الى هذا العالم كاتبا !!..
(1-2)

الاستاذ جمال الغيطاني , احد اعمدة السرد الروائي في العالم العربي منذ ستينيات القرن الماضي . تبدو رحلته وقد صاحبتها الازمنة – كما يقول دكتور فيصل دراج – للبعض متكلفة ومليئة بالغموض . تكتب ما كتب, وتستقدم ما لا حاجة اليه , وما يقول به هذا البعض خاطيء ويجانب الصواب في اكثر من اتجاه . فالغيطاني يحاور الماضي بمعرفة من الحاضر , أي أنه ينظر الى الماضي وهو زمن محدد ومحدود بزمن لاحق اكثر اتساعا وتعقدا , الامر الذي يجعله يقرأ الماضي ولا ينغلق فيه , وهو يتعامل مع الموروث وهو عمومية ثقافية بمنظور روائي لا عمومية فيه ..
لانجاز هذا الحوار , ظللنا لاكثر من اسبوعين نرتب له في اطار الظروف المتغيرة حولنا , بذل خلالها الصديق الصحفي الاستاذ صلاح خليل مجهودات جبارة حتى نتمكن من اجراء هذا اللقاء , الذي تم تأجيله لاكثر من مرة بسبب الظروف الصحية للكاتب.. والذي على الرغم من توعكه , تغلب على احساسه بالاعياء , فجلسنا اليه في مكتبه بمقر عمله في اخبار اليوم و بكل الاريحية والحميمية التي اتسم بها الكاتب الكبير جمال الغيطاني اخذ يرد على اسئلتنا في تلقائية ووضوح ويسر ..
كانت تساؤلاتنا ( لا اسئلتنا ) حول الاسئلة التي يطرحها مشروعه الادبي بعد كل هذه الرحلة الممتدة منذ الستينيات حتى اليوم .. نهضت اسئلة حوارنا في هذا التصور , في قراءة الغيطاني للمعطى البسيط بمنظور لاحق متقدم عليه .. ذلك ان الزمن الروائي في دلالته الثقافية , يتضمن زمن الموروث ويفيض عليه في آن , لذا فان نص الغيطاني لا يستقدم الماضي من الحاضر ولا يرحل الحاضر الى الماضي بل يتكون في زمن متغير ومتنام خاص به . يتهم حداثة يعرفها , ويبحث عن حداثة اخرى يتعرف عليها دون انقطاع . فالي مضابط حوارنا مع الكاتب الكبير جمال الغيطاني حول : مشروعه الادبي وحول المشهد الثقافي المصري وحول العلاقة الثقافية بالسودان ..

القاهرة : أحمد ضحية

المفروض انني اخصائي في السجاد!!

الاستاذ جمال الغيطاني القاريء السوداني يود لو يعرف , بدايات المبدع جمال الغيطاني في الكتابة السردية . وكيف كانت بدايات تعرف المشهد الثقافي في التعرف عليك .. نود لو نتعرف على جذور هذا الالحاح الابداعي " الورطة " .. ورطة الكتابة ؟!..
ولدت في اسرة فقيرة . ويمكنني القول : انني جئت الى هذا العالم كاتبا . لم يكن في اسرتي اى شخص يهتم بالادب , الا قدرة غير عادية للوالد على الحكي . ودائما اقول انه لو اتيحت له فرصة في التعليم لكان روائيا – ربما - .. اكتشفت نفسي بنفسي , منذ كنت في سن الخامسة , وقد كنت بدأت في هذه السن المبكرة بنوع من " الكذب الابيض" , اذ كنت احكي لوالدتي احداث ووقائع لم تحدث – من نسج خيالي- عن سفن فضائية هبطت في الحارة , وسراديب تحت الارض , الخ .. فتتظاهر بتصديقي . وكانت هذه الحكايات مستوحاة من الافلام التي كنت اشاهدها في السينما الصيفية بالجمالية . وكانت تلك السينما تتوسط البيوت والحواري .
عرفت القراءة قبل ان ادخل المدرسة , فالوالد كان يحرص على شراء جريدة يومية , ويشير لي الى الكلمات والحروف حتى حفظت شكلها . وعندما دخلت المدرسة وتعلمت القراءة , فتح لي باب سحري من عوالم مدهشة , اذ بدأت اتعامل مع كتب المكتبة في المدرسة , والتي كان ضمنها مجلة السندباد , بلغتها العربية السليمة وتحريرها الرفيع . ..( مقاطعة مكن الخارج ) .. القراءة كانت هي البداية للكتابة , وهكذا بدأت اقرا الكتب التي اجدها , وهنا انا مدين لمدينة القاهرة القديمة , فحياتي في درب متفرع من شارع " قصر الشوق" , وطدت علاقتي بالمكان .. كان هناك قصر اثري اسمه " المسافر خانه" _ احترق منذ سنوات للاسف – وعلى مسافة 200 متر منه كان مسجد مولانا وسيدنا الامام الحسين , وكانت هناك مكتبات حوالي المسجد , فكنت عندما اذهب مع الوالد للصلاة , اشعر بالمكان .. فبالنسبة لي كان ميدان الحسين آخر حدود العالم . والشارع مزروع بالكتب , والمنطقة المحيطة بالمسجد فيها عدد من المطابع القديمة جدا مثل مطبعة الحلبي ومكتبة الجمهورية ومكتبة القاهرة , وكانت تلك اولى المطابع في القاهرة .
أهم مجموعة منذ صدور ارخص ليالي :
كانت الكتب على الرصيف خاصة على رصيف الازهر ( روايات عربية , كتب تراثية , روايات مترجمة ,الخ ) ومن هنا بدأ تكويني غير المباشر فقد كنت اقرأ مايقع تحت يدي , واذا تاملت تجربتي تجدني كنت احاول الجمع بين المعارف المختلفة .. اذا المكان الذي نشأت فيه كان له تأثير كبير .
استمريت في القراءة من سن 6 سنين الى سن 14 , ومنذ العام 1959 يمكن القول انني بدأت كتابة القصة القصيرة . استمريت في كتابتها حتى 1963 بدون نشر , فالنشر وقتها كان من الامور الصعبة جدا خاصة انني كنت صغير السن . , اتردد على مجلات كثيرة لكنها لا تنشر لي . الى ان نشر لي مقال في مجلة " الادب" التي كان يصدرها المرحوم امين الخولي في يوليو 1963 . وفي نفس الشهر نشرت لي قصة قصيرة اسمها ( زيارة) في الاديب البيروتية , وما بين 63 – 1969 نشرت أكثر من خمسين قصة قصيرة , وثلاث روايات , ولكن عندما اصدرت مجموعتي الاولى ( اوراق شاب عاش منذ الف عام ) ضمنتها خمسة قصص قصيرة فقط كتبت كلها بعد 1967 , وكانت المجموعة بمثابة شهادة الميلاد لي , لانها احدثت ضجة كبيرة , فعندما صدرت كتب عنها الاستاذ / محمد عودة مقالا قال فيه : ان هذه المجموعة اهم مجموعة قصصية منذ اصدر يوسف ادريس " ارخص ليالي " .
أعتقلت بتهمة الشيوعية المتطرفة وتم تعذيبي في 1966

تعليمي فني , فقد دخلت مدرسة فنية في وقت مبكر . والمفروض انني اخصائي سجاد .. بعد ذلك التحقت بكلية الفنون التطبيقية , ولكن لم اكمل فقد بدأت اقرا في كتب الادب , واعتبرت العمل في السجاد " أكل عيش " مثلما اعتبر العمل في الصحافة اكل عيش بالضبط . انتقلت من العمل في السجاد الى الصحافة في 1966 عندما تم اعتقالي لاسباب سياسية ( بتهمة الانضمام الى حزب شيوعي متطرف ) وخرجنا من المعتقل في مارس 1967 , اثر زيارة جان بول سارتر الى مصر , والذي طلب اطلاق سراحنا , ولم يكن يعرفنا لكنه علم ان المعتقلين كلهم مثقفين ( منهم عبد الرحمن الابنودي , غالب هلسا , صابر حافظ , صلاح عيسى , الخ .. من مثقفي الستينيات ) حددت اقامتي في مدينة القاهرة , وحلت مشكلة العمل بان عينوني مديرا للجمعية التعاونية لخان الخليلي . وهذه اسعد ايام حياتي تقريبا واسعد مرحلة في العمل , فقد كان العمل قريبا من البيت , وكنت اعيش بين فنانين في الصدف والسجاد , الخ – للاسف يطلق على هؤلاء المهنيين حرفيين وصنايعية - وانا لم اكتب عن هذه المرحلة من حياتي حتى الان .
طموحاتي في الصحافة لم تكن كبيرة , رغم انني الان في نهاية السلم المهني الصحافي , انما اعتدت انه اذا اوكل الى عمل لابد من ان اؤديه باتقان , فاتقنت العمل في الصحافة .فقد كنت اهم مراسل حربي لمدة 6 سنوات .
في 1969 اصدر الاستاذ محمود امين العالم كتاب , وكان في ذلك رئيس مجلس ادارة هذه المؤسسة ( يعني اخبار ايوم حيث يعمل ) ولم اكن قد التقيت به من قبل , فهو من جيل يسبقني .. لكن عندما صدر الكتاب كتب عني مقال في يوميات الاخبار ( التي لم اعد الى كتابتها الا الاسبوع الماضي = منتصف يوليو 2005 بعد توقف دام 6 سنوات ) فجئت لاتعرف به واشكره , فقام بادخالي الى اخبار اليوم .
يتصور دكتور فيصل دراج في كتابه نظرية الرواية العربية ) ان مشروعك الادبي يطرح قضايا تحتضن النص الادبي وتتجاوزه ويعني بذلك ازمة الحداثة القائمة , وازمة البحث عن حداثة مغايرة .. نود لو نتعرف على التجربة الحداثية للغيطاني اكثر ؟
طبعا دكتور فيصل دراج من اهم النقاد الذين فهموا ما اقوله لكن حتى اكون صريحا معك , انا لم يكن لدي تنظير مسبق .. التنظير جاء بعد ذلك بفضل النقاد الذين فهموا التجربة , والذين منهم دكتور فيصل دراج , وكل ما في المسألة انني بدأت بصورة تلقائية , وكنت اشعر بضرورة ان اكتب شيئا لم يكتب مثله من قبل , اذ لطالما تصورت منذ الطفولة ان المبدع هو الذي يكتب شيئا لم يكتب مثله , فكل ابداع هو اضافة .
بدات بقراءة الادب العالمي فكان طموحي مرتبطا بهذا الادب , ولم يكن مرتبطا بالادب المحلي بحال من الاحوال . . كنت اريد ان اكمل مشروع ديستوفسكي في الاخوة كرامازوف , ولا زال رايي عندما اضع النماذج العالمية , التي اتنافس معها , اجد انها تشمل روايات كبرى ونصوص عظمى .. عندما يبدا الكاتب كتابته تكون هذه الكتابة عادة في اطار الموجود , بمعنى ان تقرأ قصص وروايات ومقاييس نقدية تحد القصة او الرواية .. وهكذا استمريت منذ ان بدأت في فترة شابها الاضطراب (1966) تقريبا . حيث كانت مقاييس القصة في ذلك الوقت مستمدة من تشيخوف وموبسان , وفقا للمنهج القائل بالبداية والوسط وما يسمى بلحظة التنوير .
حديث عيسى ابن هشام والمقامة :
لم اقتنع بالمنهج الموباساني في كتابة القصة , اذ لم يريحني في الكتابة .. ثم انني اعتبر نفسي روائيا في الاساس , وكتابة القصة القصيرة بالنسبة لي مثل ملاكم بوزن محدد , يطلب منه ان يلاكم وزنا غير وزنه ( الوزن الثقيل في مجابهة وزن الريشة ) .. استعدادي لكتابة الرواية هو البداية , لكن نشر الرواية في ذلك الوقت كان صعبا , فكانت كتابة القصة القصيرة وسيلة للنشر , لتقديم كتاباتي للقراء , فكان السؤال : من اين يأتي الجديد , ولا اعني بالجديد : او شكل او موضة فالمسألة لها علاقة بحرية التعبير . بمعنى ان الاشكال المتاحة في ذلك الوقت , وقد تأسس عليها الادب العربي الحديث , لم تكن توفر لي مساحة الحرية الجسدية التي اريد ان اعبر من خلالها عما اشعر به , او ما اريد ان اكتبه من موضوعات . وعلى سبيل المثال - في الرواية - كانت الكلاسيكية الاوروبية في القرن التاسع عشر هي النموذج وعندما نتامل المسار العربي للرواية في مصر نجد انتقال او كوبري - جسر اسمه حديث عيسى ابن هشام للمويلحي – كان عملا ادبيا رائعا , ويمثل همزة وصل بين القديم والحديث . لكن الادب العربي او حركة الثقافة العربية , اعتمدت في مصر رواية ( زينب لهيكل ) والتي تعتبر الرواية المؤسسة . وهذا غريب جدا اذا قلنا انها اول رواية عربية فاننا بذلك نلغي 16 قرنا من الكتابة المنثورة .. وزينب هذه اسس عليها توفيق الحكيم عودة الروح . ثم الاستاذ نجيب محفوظ . لكن نجد ان نجيب محفوظ قام بالدور الرئيسي في التأسيس , فمن سبقوه مثل هيكل والحكيم لم يلعبو الدور التاسيسي الذي لعبه هو . ف" زينب" محاولة وحيدة لهيكل . كما ان عودة الروح كان كاتبها الحكيم موزعا بين المسرح والمقال .. لكن جيل نجيب محفوظ اسس الرواية العربية الحديثة مستندا الى هذا المبدأ وفي نفس الوقت انقطعت العلاقة بالكتابة القديمة .
توصلت الى تقنية التناص قبل ان تعرف نقديا في الغرب :
جوهر تجربتي ينهض في التلقائية والاكتشاف . وبمعنى اخر لماذ لم يتم الانطلاق من القديم , مثل : الف ليلة وليلة والملاحم والسير الشعبية هذه الكتابات التي اختفت اليوم من الاسواق مثل : الاميرة ذات الهمة و الظاهر بيبرس , اذ تم التوقف عن نشرها – لقد قمت باعادة طبع هذا الكتاب في الهيئة العامة للكتاب وهو موجود الان – هذا هو الادب السهل المنظور , هناك ادب اخر غير منظور ,’ وانا هنا معني بالسرد .. وهكذا اكتشفت نتيجة احساس قوي بالزمن , هذه العلاقة بالقديم .. ما قادني للعلاقة بين الزمان والمكان , الذي ادخلني بدوره على التاريخ .. من خلال علاقتي بالمكان الذي اعيش فيه .. وقادني ذلك الى المؤرخين المصريين في القرون الوسطى , فوجدت ان طريقة الحكي والاسلوب يحلان اولا : مشكلة العلاقة بين الفصحى والعامية , ما اسميته فيما بعد بالبلاغة المصرية . وهو اسلوب يأخذ اللغة الفصحى ويجريها على تراكيب عامية , لكنها فصحى في الصميم , وهي طريقة اكثر قدرة على الامساك بالمعنى . فبدأت اتعامل معها . وكان النص المؤسس لي في هذا المجال هو بدائع الزهور في وقائع الدهور لابن اياس , وهو الذي خرجت منه الزيني بركات التي هي ليست بداية بقدر ما هي تقليد لمرحلة .
القصة القصيرة عندي , دائما – كما تقول – بمثابة اللحن التمهيدي للحن رئيسي في الموضوع . فعندما كتب ( المقشرة ) لم اكن اعلم انه ستتبعها الزيني بركات . وهناك عدة قصص قصيرة تكاد تكون هي الماكيت او النموزج للزيني بركات . مثل قصة اسمه ( اتحاف الزمان بحكاية جناب السلطان ) .ز فكانت الزيني بركات هي الاساس . ولم اكن اعلم انني انحت اتجاه جديد , او اؤسس رؤية جديدة في الكتابة , لكنني كنت مدفوعا بالرغبة في ايجاد شكل وسرد يوفر لي مساحة اكبر من الحرية , وتوضيحا لذلك , دائما ما يقال لابد من ان يكون الراوي مختفي ( المؤلف مختفي ) . فعندما تقرأ الثلاثية لنجيب محفوظ لا تجد نجيب محفوظ , اذن من الذي كتبها ؟!..كيف يختفي الراوي من الرواية ( اقاطعه : النص يروي نفسه ..فيضحك ..) انا هنا كنت اتسآل من هو هذا الذي يعلم كل شيء . اين هو ؟!..
أنا من جيل تربى على ان الهم العام هم خاص ..
النص العربي مختلف فعندما تقرأالحيوان للجاحظ , تجد الجاحظ هو الراوي ( المركز ) ثم يوقف السرد الخاص به كمتكلم ويورد حكاية او حكمة .. هذا يعطي حرية اكبر للكتابة . ما اريد قوله , انه لو كانت الرواية تطورت من حديث عيسى ابن هشام للمويلحي وتطورت القصة القصيرة من المقامة , لكنا وصلنا الان الى شكل مختلف جدا من الادب . بدات انا هذا الاتجاه , ولم اكن مدفوعا برغبة في التجديد , ففي اواخر السبعينيات وصلتنا رواية اسمها ( سعيد ابو النحس المتشائل ) لاميل حبيبي , فوجدت فيها ما قمت به انا في الزيني بركات تقريبا . كنا متوازيين في الوقت الذي كتبت فيه الزيني بركات . انا قرات حبيبي متاخرا وهو قراني متاخرا كذلك . لان الكتب بين مصر وفلسطين كانت صعبة الوصول بسبب ظروف الاحتلال . بعد ذلك في اواخر السبعينيات واوائل الثمانينيات قرات رواية اخرى اسمها ( حدث ابو هريرة قال ) لمحمود المسعدي , كانت قد ظهرت في 1974 , واستغرق الامر عدة سنوات كي نقرأها , وفوجئت انه ينحو ذات المنحى , اذا الهم كان موجودا عند عدد من الروائيين العرب : فكرة التجاوز للاطار الغربي للرواية , وتاسيس رواية عربية ذات شكل مستمد من الجذور .. في البداية كنت اتكيء على نصوص كبيرة , بمعنى انني اكاد احفظ بدائع الزهور وهو حوالي 7 الاف صفحة . واتنا اعايش ذلك باستمرار . دائم القراءة فيه . لعدة اسباب تتعلق بالتعرف على الاسلوب واللغة , والمكان والتاريخ . والتعرف على العقلية المصرية والشخصية المصرية في السياسة والمجتمع . حيث الاحظ ان الامور لم تتغير كثيرا منذ العصر المملوكي حتى الان . الشيء الاخر ان ابن اياس هاش تجربة شبيهة بتجربتي .. تجربة الغزو العثماني وهزيمة الجيش المملوكي واحتلال مصر من قبل العثمانيين , وتحولها لولاية تابعة , وبداية الاستعمار العثماني .. وانا عشت تجربة 1967 , فكلاهما هزيمة , رغم ان ما بينهما حوالي خمسة قرون . لكنني ذهلت عند قراءتي مشاعر ابن اياس , اذ تكاد تكون تعبيرا عني .. حدث هذا النوع الغريب من التلاقي الذي يمكنك ان تسميه (تناص) .. مجلة الجامعة الاميريكية قدمت عدد خاص بعنوان التناص في 1967 , جاء في مقدمته : ان جمال الغيطاني توصل الى هذه الظاهرة " التناص" قبل ان تعرف نقديا في الغرب .. لقد حدث تناص بيني وبين ابن اياس ( الزيني – بدائع الزهزر) .. في الزيني اقحمت لغة العصر المملوكي .وجاءت روايتي بعد الزيني منختلفة تماما ( رواية وقائع حارة الزعفران ) ..
انغماس جيلي في السياسة لا يعني انه سياسي او ان الساسة جاءت على حساب الادب !!
بعد وقائع حارة الزعفران تجد الرفاعي وخطط العيطاني , ثم نقلة كبيرة في كتاب التجليات في الثمانينيات , وكانت وراء هذا الكتاب تجربة مؤلمة تتمثل في وفاة الوالد , وتغير الاحوال تغير جذري بذهاب السادات الى اسرائيل , وكيف يصبح العدو صديقا .. انا من جيل تربى على ان الهم العام هم خاص , تؤثر القضايا العامة فينا كثيرا . موت الناس في فيتنام عندما ضربت بالقنابل جعلني ابكي في الشارع .. كان جيلنا غير منغلق على الذات , لكن انغماسه في السياسة لا يعني انه سياسي , وان السياسة جاءت على حساب الادب . فالسياسة جزء من الحياة . صحيح ان الامور تدهورت واصبحنا ننظر للقتل والدمار في التلفزيون .ز ننظر الى جثث الفلسطينيين والعراقيين , دون ان يؤثر فينا ذلك كثيرا مثلما كان يحدث لجيلنا في الماضي ربما ان جلدنا اصبح " تخين" بسبب تراكم الالام , وربما ان الصورة جعلتنا نعتاد على هذه المشاهد المرعبة للجثث الممزقة اشلاء !! .. وهذه ظاهرة جديرة بالدراسة .. اريد ان اقول اننا لا نرغب في الندب , ولكننا جيل تعيس الحظ . عشنا فترة محملة بالامال هي فترة عبد الناصر , وكنا مختلفين معه , فقد كانم هو يقول انه يبني اشتراكية بينما كنا نرى ان ما يفعله لا علاقة له بالاشتراكية . وفي 1967 حصلت كارثة عظمى , نعيشها حتى الان . فهزيمة 1967 الحقيقية هى ما نعيشه الان على مستوى مصر والعالم العربي ككل ( اقاطعه : زلزال استقرار التدهور ..) ايوة .. استقرار التدهور . في العشرين سنة الاخيرة . اذ حدث تجمد في الحياة وحصل فساد لم تعرفه مصر ولا حتى في العصر المملوكي _ بالعكس المماليك كانوا ناس شجعان يحاربون ويصدون تيمورلنك , ويهزمون المغول – اثرياء هذا الزمان تسبقهم ارصدتهم الى الغرب . قدر علينا ان نعيش مرحلة فيها تراجع مستمر .ز اظن انه في الكتابة لا انا ولا جيلي قصرنا , بالعكس نحن كتبنا كتابة كان ممكن تودي بحياتنا في بعض الفترات . لكن هذا لم يشغلنا عن تطوير ادواتنا الفنية باستمرار . فبالنسبة لي كانت الكتابة مغامرة مستمرة ..
ان تحبس كاتب 40 يوم وتعذبه وتحرمه من رؤية الاهل والاصدقاء :
اقدر اقول ان المرحلة في تجربتي مع الكتابة هي مرحلة التعامل مع نصوص كبرى والخروج منها . مثل تجربة الزيني بركات والفتوحات المكية , حول هذين النصين عشرات النصوص الاخرى , انما حدث شيء شخصي : هو علاقتي بابن اياس فقد احببته كما احببت ابن عربي والمغريزي في (.. معرفة دول الملوك) والذي يكاد يبلغ خمسة اضعاف كتاب ابن اياس . احببت المقريزي في كتاب اخر (الخط) يعني بعلاقة المكان بالزمان بالانسان ويؤرخ للقاهرة ( الحارة والدرب والشارع والمسجد والنافذة ) ولم يحظ هذا الكتاب الغريب بدراسة وافية حتى الان .. من هذه النصوص احاول ان انطلق الى حداثة مقلوبة – اذا جاز التعبير – بمعنى حداثة للخلف , لاكتشاف مناطق مجهولة لم يتعامل معها احد .
اتصالا بحديثك عن " الزيني بركات .. في كتاب " زمن الرواية " لدكتور جابر عصفور , اشار دكتور عصفور الى ان اليجوريات الغيطاني في الزيني بركات ووقائع حارة الزعفراني تشكلت من السياق السياسي المغلق .. وهنا يقصد دكتور عصفور " رمزية العسكري الاسود" .. كيف تقرأ ما اشار اليه دكتور عصفور ؟
فيما يتعلق بي انا طبعا – العسكري الاسود واعمال اخرى كانت رد فعل للقهر الديموقراطي في الستينيات – كانت الستينيات مرحلة غريبة , فيها تجربة كبيرة وامال عريضة , ومحاولة للبناء ومجتمع متفائل يتطلع الى التقدم .. البعض صدق ذلك والبعض لم يصدق – مثلي- بسبب الخلل والفساد . اذكر ان جمال عبد الناصر خطب لان رئيس مجلس ادارة سابق اختلس 5الاف جنيه – يعني الفساد كان على صغير – اليوم الواحد ممكن يتغدى بمثل هذا المبلغ في مطعم من مطاعم القاهرة . ما اريد قوله ان التجربة الناصرية شابها عسف ديموقراطي لم يسبق له مثيل , ولم يكن له مبرر على الاطلاق . انا طبعا اؤمن بان الحكم على مرحلة رهين بظروف هذه المرحلة , بمعنى انه يجب ان يضبط بظروفها . لكن اعتقد ان الذي ادى الى هزيمة 1967 هو هذا العسف والقهر والفساد . دخلت المعتقل وتعرضت للتعذيب , وكنت متهم بانني في تنظيم سري , لكن لم يكن هناك مبرر لكل ذلك , ان اعتقل اربعين يوما في زنزانة لا ارى فيها احد من الاهل او الاصدقاء ولا اى شخص , واتعرض للاغراق بالمياه الباردة في الشتاء , والضرب والكهرباء , الخ .. وقد عانى الاخوان المسلمين اكثر من ذلك , فقد عرفو الاعتقال والتعذيب قبلنا بسنة .. قابلتهم في سجن طرة وجلست معهم وبدات افهم من اين جاء بعد ذلك كل هذا العنف .. فالعنف الناصري نتجت عنه حركات مثل التكفير والهجرة والتنظيمات الاخرى المتطرفة , وهنا دور الادب ان يقاوم هذا .ز لكن في بعض الحالات نضطر لاستخدام الاقنعة في الكتابة , مثل قناع اللغة كما في الزيني بركات . وطبعا انا مدين لهذه الظروف لانها جعلتني اصل بصورة كبيرة فكما تعلم ان الزيني بركات ضد القهر وضد العسف .. صحيح كتبتها بايحاء من العصر المملوكي , لكنها ليست العصر المملوكي اذ قمت بتفكيك العصر المملوكي وتجميعه واعادة تركيبه من جديد .. فتجد مثلا عبارة مثل " كبير البصاصين" , وهذه العبارة لا اعرف من اين جئت بها , انها من اختراعي وربما اكون وجدتها في الصعيد , لكنها غير موجودة في العصر المملوكي .ز الشيء الاخر : الثراء الرهيب في القص , هذين الامرين جعلا الرواية تخرج من اطار الزمن , بمعنى ان الاطار مملوكي والمضمون عصري جدا .. ادانة للقهر في اى عصر واى مكان واي زمان . ولم اتوقع ان تترجم هذه الرواية لصعوبة لغتها , فقد كتبتها بلغة القرن السادس عشر . امعالنا في التمويه ولما ذهبت بها للنشر في روز اليوسف , نشرت مسلسلة على مدى 6 شهور , تعامل الرقيب معها على اساس انها مخطوطة ( اقاطعه : طرحت هذه الرواية على القاريء في السودان , فيما اذكر التساؤل حول اللغة وفي اي عصر تدور هذه الاحداث .ز وشعرت شخصيا بشيء غريب في هذه الرواية يتعلق باللغة , فهي لغة مخطوطات , وتساءلت وقتها عن مدى علاقتها بالمخطوط ومسافتها من الخيال ..) يكمل : هي بالنسبة لي تجربة طريفة , فاللغة هنا جميلة وفيها امكانية لاستيعاب العامية . انا احب العامية لكنني لا اكتب بها , لانها في حالة تغير مستمر لكن الكتاب المصريين في القرون الوسطى حلو هذه المشكلة , فذاك عصر عبقرية اللغة وليس عصر انحطاط الاسلوب كما يشيع عنه اساتذة الادب في الجامعات . لان اللغة العربية حينها كانت بالنسبة للمصريين لغة وافدة , وليست لغتهم الاصلية , وكانت اللغة القبطية هي التي تحكم الشارع العام ودواوين الحكومة . ولم تستقر اللغة العربية في مصر الا بعد 400 سنة اي في بداية العصر الفاطمي وهذا راي بعض العلماء مثل دكتور مختار عمر , والذي لديه كتيب اسمه ( تاريخ اللغة العربية في مصر ) ..
لن تكتمل معرفتنا بالادب العربي الا بدخول نصوص التصوف في دراسة الادب ..
اذن عملية احلال اللغة العربية في مصر لم تتم بسهولة , فالمصريين لاجل ان يواءموا بين لغتهم القديمة واللغة العربية التي دخلت عليهم حديثا - وهي لغة مقدسة – وصلوا لمرحلة في البلاغة بين البينين , نموزجا لذلك اللغة التي كتب بها ابن اياس والمقريزي , والتي هي نحن نرفض ان نعتبر كتاباتهم جزء من الادب ... ثم اتسعت المسألة في التجربة الصوفية . فعندما تقرأ الشعراني ومدارس الصوفية المصريين مثل ابن الصباغ وغيرهم تجد اساليب ادبية فريدة , وعالية جدا وموحية . والادب الرسمي ومناهج الدراسة لا تعتمد هذه النصوص كادب ولذلك انا اقول دائما : لن تكتمل معرفتنا بالادب العربي كله الا اذا دخلت نصوص التصوف وادب الرحلة وادب التراجم الذاتية في دراسة الادب , ففرع التراجم مثلا يفيد في طريقة تقديم الشخصية عند ابن خلكان مثلا او الكتبي , الخ .. وهذه تراجم عامة . اذ توجد هناك تراجم النحاة والمذهبيين والمخططين والشعراء : عالم كامل من البشر . فعندما تقرأ طريقة الترجمة او التقديم لشخصية عاشت 70 سنة تجد اسلوبا خاصا في التقديم لم يدرسه احد . وهذا ما اشتغلت عليه انا ويمكنني القول بعد " التجليات " انني تخلصت تماما من الاقانيم والمقاييس التي ظلت معي فترة حتى في الزيني بركات , اذ تجد فيها بناء روائي وان يكن غير مألوف .. لكن في النهاية هناك معمار صارم ممكن تقول ابتداء من " شطح المدينة
" والتي هي المرحلة التي تلت التجليات . وكان هدفي من البداية ان يكون هذا الذي افعله مقبولا . وبالفعل .

للمزيد من االمقالات

للمزيد من هذه الاخبار للمزيد من هذه البيانات و المنشورات
الأخبار المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع


| اغانى سودانية | آراء حرة و مقالات | ارشيف الاخبار لعام 2004 | المنبر العام| دليل الخريجين | | مكتبة الراحل على المك | مواضيع توثيقية و متميزة | أرشيف المنبر العام للنصف الاول من عام 2005

الصفحة الرئيسية| دليل الاحباب |English Forum| مكتبة الاستاذ محمود محمد طه | مكتبة الراحل المقيم الاستاذ الخاتم عدلان | مواقع سودانية| اخر الاخبار| مكتبة الراحل مصطفى سيد احمد


Copyright 2000-2004
SudaneseOnline.Com All rights reserved