لعل جبال الاماتونج الشامخة في جنوب السودان قد غارت من الساحة الخضراء في الخرطوم. لقد دخلت الساحة الخضراء تاريخ السودان من أوسع أبوابه يوم استقبلت الدكتور الشهيد جون قرنق في 8/7/2005 حيث شهدت رقماً قياسياً (ستة ملايين) سوداني من كافة الوان الطيف السوداني جاءوا للتصويت الاستباقي لصالح مشروع السودان الجديد الذي هو مشروع "الوحدة مع التنوع" وهو الحلم الذي كان يتطلع إليه الشهيد داود يحي بولاد والشهيد يوسف كوه، وهما تلاميذ الدكتور الشهيد جون قرنق في مشروع السودان الجديد.
جبال الاماتونج أرادت أن تنافس الساحة الخضراء فخطفت قائد المهمشين بكل حسن نية، وبحنية القطة على بنيها، فدخلت التاريخ السوداني فلحقت بالأماكن التاريخية – جزيرة لبب، الجزيرة آبا، قدير، كررى، أم دبيكرات التي استشهد فيها الخليفة عبد الله التعايش في 24/11/1899.
الدكتور جون قرنق ملهم المهمشين هو صاحب (مشروع) (رسالة)، والعظماء من أمثاله عبر التاريخ لم يحكموا. إنهم يبلغون رسالة ربهم، وما عليهم إلا البلاغ المبين. سيدنا موسى بن عمران عليه السلام أتى بالوصايا ولم يحكم ... عيسى إبن مريم عليه السلام أتى مكملاً للناموس الذي أنزل على موسى ولم يحكم ... وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إختار الموت بعد فتح مكة ... ومحمد أحمد المهدي في السودان اعتزل الدولة بعد فتح الخرطوم عام 1885م. والدكتور الشهيد قرنق اختاره ربه بعد دخول الخرطوم في 8/7/2005 بعد أن صوت أمامه الشعب السوداني سلفاً بالوحدة فقرت عيناه بهذا التصويت الاختياري لصالح مشروع السودان الجديد – مشروع الوحدة مع التنوع.
مشروع السودان الجديد ليس عقيماً، وإنما ولود استمد خصوبته من أرض الجنوب البكر، وأبقاره الجنوب التي هي غذاء الجيش الشعبي، وثمنها مصدر تمويل سلاح الجيش الشعبي لتحرير السودان. لذلك اختارت الحركة الشعبية بسلاسة شديدة القائد سلفاكير قائداً عاماً للجيش الشعبي، ومرشحاً لمنصب النائب الأول ... وبذلك اجتازت الحركة بنجاح بدرجة امتياز في أول امتحان لها. فالقائد الأبتر هو الذي ينتهي مشروعه بنهايته.
الطيبون ينتقيهم الله، الطيبون لا يعيشون، هذه عبارات عزاء تلقيتها ضمن مكالمات لا حصر لها على الهاتف، أحببت أن أشرك فيها القراء الكرام لأنها كانت مصدر عزاء لي في فقيد المهممشين، قال لي جمال أحمد سمبو (الطيبون لا يعيشون). أما الدكتورة أسماء محمد الحسن فقد نقلت حكمة عن الشهيد محمود محمد طه الذي دفع حياته ثمناً لأجل وحدة السودان عندما طالب بإلغاء قوانين سبتمبر التي شوهدت الشريعة كما طالب بحل عادل لمشكلة الجنوب. أنّور بهذه الحكمة دفتر عزائي للمهمشين من بحر الجبل حتى الأمازون وإلى قائد المهمشين شافيز في فنزويلا الحرة. أما حكمة الشهيد محمود كما روتها الدكتورة أسماء فتقول: (في مجلس الأستاذ بالصالون بالثورة الحارة الأولى – أم درمان – مرر أحد أحد السالكين صحناً فيه تمر، فانتقى الحاضرون ما طاب لهم. ثم أشر الأستاذ بتمرير الصحن مرة ثانية وثالثة حتى بقى بالصحن النوع الردئ الذي لا يثمن ولا يغني من الجوع. فقال الأستاذ / الشهيد: "هكذا يختار الله إليه الطيبون فالذين يلونهم") انتهت رواية د. أسماء.
وأختم حديثي بالقول أن مشروع السودان الجديد ليس ملكاً لأشخاص ولا مرهون بأشخاص وإنما هو مشروع فكري، وبالمقابل مشروع السودان الجديد ليس (ضد) أشخاص أو مجموعات، وإنما هو ضد (ذهنية) ومشروع يرفض التعددية والتنوع. فلنبني نصباً تاريخياً عالياً للدكتور الشهيد جون قرنق بالساحة الخضراء – ساحة الوحدة، وليرمز هذا النصب لجبال الاماتونج التي خطفت د. قرنق محبة كما تفعل الهرة.
ابو بكر القاضي