كنا ننتظر من د. منصور خالد بأن يكتب لنا ولو سطراً عن صديقه ورفيق دربه قرنق ، وهو رافقه قرابة عشرين عاماً فى رحلة نضالية مميزة ، ولحكمة ما صمت الرجل ، ورب صمت ابلغ ،ويبدو أن وقع الخبر كان ثقيلاً عليه ، وما يدرينا بأنه عاكف فى اصدار كتيب يريد أن يخلد به ذكرى صديقه ، المهم يوم يخرج منصور من صمته ويبدأ يخط ولو بحرف عن قرنق ، سنضطر نتراجع بكل تواضع عم كتبناه ونعتذر ، لجهلنا التام لعالم د. قرنق ، لان نحن الذين عشنا فى الشمال اعتدنا بأن نشاهد قرنق من خلال النافذه التى تريدها الانظمة الحاكمة ، فقرنق قدم لدى الشعب (كدراكونا) مصاص الدماء ، وكصليبى حاقد يحرق المساجد فى كايا وكرمك وهمشكوريب وغيره ، وقدم كا انفصالى يخدم المصالح اليهودية ، وديكتاتورى . وصور فى التلفزيون بأسلوب كاريكاتوري ساخر ومنفر ، وللاسف هذه الصور هى التى ترسخت فى ذهنية اغلبية اهل السودان، بل انتقلت حتى الى دول الجوار العربى عن طريق ( وسائل الاعلام ،السفارات ،الجاليات ،الطلاب ) ففى اليمن أعرف استاذاً سودانياً طرد من القرية بتهمة الانفصال والشيوعية لانه مدح قرنق فى جلسة(القات) . وهنالك كلمة الانفصالى مترادفة للشيوعى، لأن النظام يريد ذالك . وأظن أن قادة الجيش الشعبى انفسهم قد انتبهوا لهذه المشكلة فنجدهم ما إن وطأت اقدامهم الخرطوم ، حتى بدؤ بطريقة مبرمجة ومدروسة بتقديم شخصية قرنق على وجه غير مألوف فى الشمال ، ويتجلى ذالك خصوصاً لدى القائد ياسر عرمان اذ قلما يجد المرء حديثاً له من دون ان يقف على شخصية قرنق او يستشهد باقواله يقول ( إن الشعب السودانى سيلتقى بدكتور قرنق فى الافراح والاحزان وسيجده رجل طيب ) أما عند مالك عقار وهو فيلسوف ويقول عشت معه قرابة عشرين عاماً لم أسمع منه كلمة الانفصال ولوبزلة اللسان . وهذه الرؤية لم تقتصر لدى هؤلاء القادة بل موجودة فى كل شرائح الجيش الشعبى ، ففى مدينة (لويزفيل) التى اعيش فيها يوجد فيها اكثر من 15ooمن شباب الجيش الأحمر والمعرفون هنا los boys فهؤلاء ينظرون الى قرنق كقائد وأب عطوف لديهم ويحكون طرائف وقصصاً واقعية عن جون ، وأحياناً اتساءل أمامهم بكل حيرة وحسرة لماذا حجبوا عنا هذا الوجه المشرق ؟ لماذا وضعوا الكمائم أمامنا لكيلا نراه على حقيقته ؟ يقول احدهم : عندما سمعت بوصوله الى واشنطن د ى سي ذهبت إليه غاضباً ، وقلت له ، اسمع يادكتور ! رياك مشار دا جابوا شنو فى الحركة ثانى ، هذا الرجل جاسوس للعرب ....؟ يقول : لقد فوجئت بأن قرنق قد تقبل الكلام ببرود وابتسامة ، وقال لى تعال يا إبنى وحكى لى قصة قائلاً (كان فى قديم الزمان رجل يهودى تحول الى المسيحية وبدأ يقتل اليهود وبعد فترة رجع الى اليهودية وأصبح مبشراً ، ورياك ده حا يصبح مبشراً فى الحركة ...؟ هذه القصة وحدها يكفينا لنستخرج منها عدة خيوط نستشف من خلالها شخصية قرنق ، ونظرته للأمور ، فرياك مشار اليوم هو الرجل الثانى فى الحركة بعد سلفا كير. و هذه الصورة التى جأت متاخرة الى المجالس تمثل الوجه الحقيقى لقرنق وماكان تقدمه الحكومات ووسائل اعلامها لاتمثل الحقيقة . لأن قرنق نفسه ما أن وصل الى الخرطوم ظهرعلى سجيته ، ودخل فى قلوب السودانيين واحبوه وهو رجل متواضع ومرح ويميل الى النكات . حتى فى خطابه التاريخى الذى قدمه لشعب السودانى نلحظ بانه ذكر أهل (حاج يوسف) أكثر من مرتين ، فإن دل على شيئ فإنما يدل على الوفاء ، اى إنه لم ينس أهل حارته وجيرانه طيلة فترة غيابه فى الغابة واليوم يذكرهم ويحيهم وهو فى طريقه الى القصر الرئاسى .
ومن المفارقات أن نجد هذا الوجه الجديد حتى فى تصريحات القادة فى النظام ، فدكتور نافع وصفه بمفكر ومثقف والرئيس البشير وصفه بانه وحدوى ووصف يوم وصوله الى الخرطوم بيوم الاستقلال الحقيقى للسودان ، وتعهد أمام جنازته بتربية أبنائه بحجة أن والدهم لم يتفرغ فى تربيتهم للانشغاله بقضايا الوطن . هذا فى حد ذاته تحول كبير بل انقلاب حقيقى فى ذهنية النخب النيلية الحاكمة وهى نخب معروفة بالبرجماتية والبهلوانية فى التعاطى مع مثل هذه المواقف .لماذا أصبح قرنق الأن وحدوياً ومفكراً ومثقفاً ؟ لو خرج الشهداء من امثال أبو دجانة وعلى عبد اللطيف وغيرهم من قبورهم وسألناهم عن رأيهم فى قرنق ماذا يقولون ومن المسؤل عن الاجابة ؟ كيف نتخيل حال الخرطوم والقادة والصحافة لومات قرنق وهو فى الغابة و يحمل السلاح ضد النظام ؟ عرفنا حكومات بتجى ، وحكومات بتروح واليوم نعرف ايضاً حكومات بتصنف الناس ذى ما بتريدها ( المتمردون ، الخوارج ، الانفصاليون ، قطاع الطرق و لصوص ، كلاب ضالة ، الاكراد ....) ولكن فى النهاية ستظل الحقيقة هى الحقيقة .
شاكر عبدالرسول
كنتاكى - امريكا