والمتابع للقاء الذي أجرته قناة ( الجزيرة ) مع القائد سلفاكير في يوم الاثنين الماضي يستطيع أن يقرأ أن الحركة الشعبية قد بقيت علي قيد الحياة علي الرغم من فقدانها لكل قادتها المؤسسين والذين قضوا كلهم في ظروف وحوادث موت غامضة ، رحل كل من وليم نون واروب طونق وكاربينوا كوانين وجون قرنق في سفن الموت والتشابه الوحيد أنهم ماتوا كلهم بعد مصافحتهم لأيادي الانقاذ وكأن هذا الترتيب هو نذر الشؤم التي حملتها لهم الانقاذ وكأنها جرس لموت بقوة لتعجل برحيلهم ، برر القائد سلفاكير سر بقائه حيا حتي هذه اللحظة بمقولة فيها الكثير من الحكمة ( أن الله وحده هو الذي يعرف السبب ) وأزاح عن كتفه هالة أنه أحد المؤسسين للحركة الشعبية وأعترف بتواضع يحسد عليه أنه كان ضابطا صغيرا عندما تم تأسيس الحركة الشعبية وأنه لم يكن من ضمن قائمة مؤسسيها الخمسة كما وصفته وسائل اعلام الانقاذ .وقد أتضح الان أكثر من أي وقت مضي أن الجنرال سلفاكير رجلا متواضعا ولا يحمل نفسه طموحات فوق طاقتها ، وهذه الصفة الفريدة سوف تجعله محببا للناس ، فالعرف السائد أن النفوس تكره الرجل المستبد والذي يفرض رؤيته علي الاخرين .
وما تكتبه الصحافة في السودان عن الحركة ورموزها لا يمكن تصنيفه في خانة حرية الصحافة حتي نجد لأصحاب هذه الاقلام المتهافتة العذر في ما تكتبه من تحليلات يدعمها الخيال والهوي الشخصي أكثر من الحقائق المنطقية، فقد أستمع قرنق في لقاء جمعه مع السيد/علي عثمان طه الي الصحفي ميرغني عثمان وهو يشكو من تدخل الاجهزة الامنية في عمل الصحافة وكيف أن تقريرا يتحدث عن ظاهرة ارتفاع أسعار الاسمنت لم يجد طريقه الي النشر لأن الاجهزة الامنية لم توافق عليه ، وبذلك تكون كل الصحف المصرح لها بالصدور في الخرطوم ملك للدولة ، وان كل الكتابات والتقرير الصحفية تعرض علي الاجهزة الامنية لنيل الموافقة قبل أن تطبع في الصحف، وان كل ما كتب بخصوص رحيل قرنق وتداعياته الاليمة وجد موافقة واقرارا من الدولة المهيمنة علي الصحافة والتلفزيون والمذياع ، ولكن ما الذي جعل النظام ينكث عن ثقافة السلام ويسمح بنشر هذه الاكاذيب مستغلا انشغال الحركة الشعبية بترتيب البيت الداخلي وتضميد جراح الحزن التي خلفها هذا الرحيل المفاجئ للقائد قرنق ، ومن المحتمل أن يكون النظام قد فكر بطريقة فيها الكثير من البراغماتية وأعتبر أن الحركة الشعبية هي جون قرنق وحده فاذا مات يكون النظام قد تحلل من كافة المواثيق والعهود ويكون بوسعه اكمال هيكل المشروع الحضاري المنقرض، وبذلك يكون من حقه خلق رؤية جديدة وفرضها علي الواقع حتي وان كلفه ذلك الاستعانة ( بالدبابين ) وقدامي المحاربين من قوات الدفاع الشعبي والذين قد كثر اطلالهم علي الشاشات خلال هذه الازمة في رسالة فيها الكثير من الضمنية المبطنة ، بل بلغ بهم الكبر الي بث حلقات قديمة من برنامج ساحات الفداء يزغرد فيها المجاهدون وهم يحصدون ثمرة الجهاد بلقيا الحور العين في جنان الخلد ، وبرز اسحاق فضل الله بعد غيبة طويلة وهو يتحرق شوقا الي صنع ملحمة حربية جديدة تدر عليه ما فقده من خسائر بسبب اتفاق نيفاشا الذي أوصد المدافع وأتلف الذخيرة ، وتمت استضافة جعفر بانقا زعيم ( الدبابين ) وقائد الدفاع الشعبي علي الفضائية السودانية ، وللفائدة أن أمير الدفاع الشعبي الحالي هو أحد العائدين من الدول الخليج النفطية ولا علاقة له بالحرب وشئونها علي الرغم مما فاته منها من شدائد وأهوال في ايام ( صيف العبور ) الاولي والثانية ، وهو مثل رفيقه عبد الله الخضر نائب والي الشماليه الذي أهدر دم الصادق المهدي والفرنسيين بسبب تأييدهم لقرار الامم المتحدة رقم 1593 ، وقد عاد هولاء الي أرض الوطن بعد تطبيق سياسة احلال المواطنين في الوظائف التي يشغلها الاجانب في دول الخليج ، وكما يقول المثل البلدي ( صحي من نومو ولقي كومو ) استفاد هولاء من وضعيتهم السابقة في الجبهة الاسلامية فتم استيعابهم في أجهزة الدولة منذ تاريخ وصولهم الي مطار الخرطوم ، وقد عاد هولاء الي أرض الوطن وهم يحملون صور الغبن والحقد في صدورهم تجاه كل من يقف في وجه الانقاذ .
كان جمهور الحركة الشعبية في الجنوب يغط في حزن عميق ويكابد ألم فرقة الزعيم الذي عشعش في دنيا أحلامهم وتطلعاتهم عندما كان العتباني ينثر أنياب ( الهيدرا ) علي قارعة الطريق من أجل بث الروح في الفتنة النائمة والعودة الي ديدن الحرب القديم ، وصاحب هذا الشعور المملوء بالاسي في الجنوب شماتة وحقد دفين أصبحت تبثه أجهزة الاعلام السودانية علي الملأ و ( علي عينك يا تاجر ) كما يقول المثل البلدي ، وأول الاخطاء كان اعلان خبر موت قرنق في وسائل الدولة الاعلامية ،وقديما قيل اذا أردت اذاعة سر فعليك بالبوح به الي النساء .. وهذا ليس انتقاصا لبني جنسي ولكن العاطفة والرقة تغلب أحيانا علي طبع المرأة فتحولها الي مذياع ثرثار ينشر أسرار الجميع علي الملأ .. وأجد لبنات جنسي العذر اذا علمنا أن بعض الرجال لا يغالبون كتمان السر لليلة واحدة ويصيبون جزءا من صفات النساء بهذا الفعل .. وهذا ما حدث يوم رحيل قرنق ، قامت الحركة الشعبية باخطار الرئيس البشير ووزير الدفاع الوطني بكري صالح بخبر وفاة الزعيم قرنق والذي تأكد منذ الساعة 12.00 ظهرا في يوم الاحد الموافق 31/7/2005 ، وقد طلبت منهم الاستعداد والتأهب قبل اعلان خبر الوفاة ، وحتي مهاتفة ياسر عرمان لسبدرات في مساء هذا اليوم بخصوص هبوط طائرة قرنق بسلام في مطار نيوسايت فهي أيضا كانت نوعا من كسب الوقت تفاديا للفتنة ومحاولة من الحركة لمرحلة اعلان الخبر المؤلم ، والخبر الاكيد تسلمته الحكومة في ظهر نفس اليوم ، ولكن سبدرات لم يغالب كتمان السر فهرع الي الاعلام وبث الخبر من غير أن يراعي التدرج الذي عرف به السودانيون في حالة اعلانهم لخبر الوفاة ، فالكل يتهيب من هذا الامتحان مخافة أن يسبب صدمة لأهل الميت اذا تم ابلاغهم بطريقة غير مناسبة .
وهناك أزمة ثقة بين اعلام الانقاذ وأهل الجنوب بسبب دعاية الحرب السيئة التي كان يبثها برنامج ساحات الفداء في السابق ، ولذلك علل أهل الجنوب وفاة قرنق نتيجة لحادث مدبر من عمل الحكومة وليس بسبب الاجواء السيئة كما أتضح لاحقا ، وحتي لا ننسي أحمد البلال في الواجه أجده في حلقة يوم أمس تحاشي استضافة أي مسؤول رفيع في الحركة بعد مهزلة مالك عقار السابقة ، ويبدو أن رموز الحركة قد قرروا التعامل مع هذا الاعلام المزدوج الوجهين بطريقة تختلف عن السابق ، ولذلك لوحظت نظرات التحدي والتحفز وهي تغطي ملامحهم وهم في واجهة الاعلام ولا يتوانون في الدفاع عن الحركة وان تطلب ذلك مهاجمة الحزب الحاكم وأجهزته الاعلامية ، وقد قالها مالك حقار في وجه أحمد البلال عندما وصفه ( بحامل العصايتين ) وأدعي أحمد البلال أنه محاور وليس مناظر ولكنه عاد وبرر بصورة مقززة ظاهرة انتشار مدرعات الشرطة في الشوارع وأعتبر أن هذه هي الوسيلة الوحيدة لاشعار المواطن بالاطمئنان ، ونعود لموضوع الحلقة الاخيرة حيث أستضاف مولانا/أحمد هارون وقائد الشرطة بمنطقة الخرطوم اللواء ميرغني عثمان ، والمثير في هذه الحلقة والجديد أيضا اصرار أحمد هارون أن أحداث الشغب الاخيرة سببها انتشار اشاعة اغتيال اللواء فاولينو ماتيب وليس الحادث الذي أدي الي مقتل جون قرنق ، وتم التركيز بصورة أكثر علي أحداث يوم الاثنين الاسود حيث قام بعض المنفلتين من أبناء الجنوب بأعمال السرقة والتخريب ولم يتطرق كل الضيوف الي المظاهر المشابهة التي حدثت في يوم الثلاثاء حيث قام بعض المحسوبين علي الشمال بمهاجمة معسكرات النازحين وحرقها بمن فيها من غير تدخل من السلطات المسؤولة ، ويا تري لماذا يتم حذف هذه الخاتمة من الاحداث والاصرار المستمر علي وصف يوم الاثنين بالاسود بسبب سرقة الممتلكات ولا يتم التركيز علي أحداث يوم الثلاثاء والذي أهدرت فيه الكثير من أرواح أبناء الجنوب .وقد حاولت الحكومة التنصل من دفع التعويضات للمتضررين من أحداث يوم الاثنين الاسود وزعمت أن المبلغ المقدر بخمسين مليون دولار عن قيمة الخسائر مبالغ فيه وان المبلغ الحقيقي حسب افادة مدير شرطة ولاية الخرطوم قدر بعشرين مليون دولار ، وأنا أري من خلال ذلك أن النظام يحاول التنصل من تعهداته السابقة بازالة الضرر عن الجميع ، ومثل هذا المبلغ صرف أضعافه علي مشروع الخرطوم عاصمة للثقافة العربية ، ولا زال الزوار والشباب العرب يحلون ضيوفا علي بند هذا المشروع في فندق هيلتون والميرديان ، فاذا كنا كريمين مع هولاء الزوار فمن باب أولي أن نكرم أبناء هذا الوطن بتعويضهم لأن الدولة قصرت في حمايتهم ، وصور التخريب والحريق والدمار بثتهم الفضائية السودانية فالخسارة أكبر بكثير من هذا المبلغ لأن هنالك نفوس بريئة قد قتلت وعلي النظام أن لا يسترخص خسارة أبناء السودان اذا فشل عن حمايتهم .
وأزمة السودان في الحكم هي أزمة غياب العدالة في المقام الاول قبل أن تكون أزمة تقاسم موارد وسلطة ، وقد قالها الرسول ( ص ) منذ فجر الاسلام أن الامم التي قبلنا قد ذهبت لأنها أخلت بهذا الميزان وعملت بفقه ( اذا سرق الشريف تركوه واذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد ) ، والدولة الان تكيل بمكيالين في تعاملها مع النزاعات الداخلية التي تنشب بين ابناء القطر الواحد ، فهل من الممكن أن نتوقع عدالة من القضاء الذي يتربع عليه جلال محمد عثمان ، هذا الرجل جعل من القضاء اضحوكة وهو يرقص أمام الكاميرات موازرا للرئيس البشير في كل زياراته لمناطق السودان ، وهو في جبته الخضراء والتي نقش في وسطها عبارة ( القضاء السوداني ) ذكرني بأتباع الشيخ محمد عثمان عبدو البرهاني المدفون بالقرب من السوق الشعبي الخرطوم ، ولكن القضاء ليس عبارة منقوشة بالحرير فوق ثوب القاضي بل هو قيمة معنوية بل قبل أن تكون رمزا يكتبه الناس في ثيابهم ، اين قضاء جلال عثمان من اغتصاب 5000 امراة في دارفور ؟؟ واين هذا القضاء عندما تم قتل 400 ألف روح بريئة في هذا الاقليم ، واين القضاء من أحداث بورتسودان حيث قتل عشرين مواطنا رميا بالرصاص والقيت جثثهم علي قارعة الطريق ، لن تجد القضاء حيث نحتاجه ولكنك تجده في ساعات كرنفالات الفرح ومراسم اداء القسم وسوف يأتيك رئيسه وهو يجر ثوبيه بخيلاء ويسألك : أيهما تختار للقسم القرآن أم الانجيل ؟؟ فاذا سالك أصرخ في وجهه وقل له : ( أريدك أن تقسم أنت علي أداء العدالة.. يا طيب ))
سارة عيسي