واليوم تواجه الدولة معضلة عويصة إذ أن تمسك المواطن بقبليته وإعتزازه بهويته
وأرائه ومطالبته إياها بالخدمات الضرورية وكذا بحقه في الإختيار قد يدفع
بالدولة الى مواجهة لا خير في نتائجها على أي وجه مع المجتمع الدولي ، وهل بعد
أن هزمنا على مستوى المشروع الحضاري والارادة السياسية والتماسك الاجتماعي لا
بأس من تدمير الاقتصاد السوداني في سياق التمسك بمحلية الازمة والحديث الممجوج
عن التدخل الاجنبي ، إن المعركة الحقيقية ليست لا اليوم ولا الغد مع الادارة
الامريكية أو المجتمع الدولي وليست معركة أرقام ـ رغم أنه من المحزن والمخجل
الرقم خمسة ألاف ـ كما إنها ليست معركة مصطلحات ـ موت جماعي أو ابادة جماعية ـ
أنها معركة مع أنفسنا ومقدراتنا على تجاوز آزماتنا والتخلص من عقدنا وتخلفنا
والتوصل الى معادلات تستطيع إن تحقق التوازن على مستوى ثقاقاتنا وأعراقنا
وإثنياتنا .
لقد فوتنا فرصة عظيمة بوجود رجل صبور وشديد التفهم كجيرارد قلوتشي وواصلنا في
نقده والتهجم عليه دون ما داعي بل تعدينا ذلك الى إعلان أنه شخصية غير مرغوب
فيها أو التعاون معها وتجاوزنا الاعتراف بأن إنفراجاَ معترفاَ به قد تم في
الموقف الأمريكي تجاه السودان خاصة بعد المقابلات واللقاءات المتعددة الامريكية
ـ السودانية على مستوى القاعدة بين شيوخ القبائل والسفارة الامريكية وبمساعدة
شخصيات سودانية دارفورية وغير مكلفة حكومياَ تعمل لسلام دارفور ووحدتها ـ حيث
يمكن لمس إنفراج الموقف الامريكي في الروية والتهاود الذي مارس به الامريكان
سياستهم في قضية دارفور ـ طوال وجود المحترم السيد قلوتشي ـ مقارنة بما يحدث في
العراق وبرغم ما يكلف الادارة الامريكية ذلك من تضحيات تحسب على مستوى الناخب
الامريكي البسيط الذي تمارس عليه ضغوط إعلامية يومية تفترض الحسم العسكري . إن
التحريض ضد أي من ممثلي المجتمع الدولي يحمل في طياته محاولة تأزيم الموقف
السوداني عن الساحة الدولية وبالتالي وإعطاء المجال لأراء بعينها أن تزرع في
الوعي العالمي لأهداف وأجندة ليست بالضرورة في مصلحة البلاد .
لندع إذن سياسة إستفزاز الامريكان جانباَ ولننسى أنه في الامكان
إبتزازهم بالوضع في العراق فأفغانستان تخطو اليوم ببطء لكن بثبات نحو أن تكون
دولة حقيقية والوضع في العراق نتج أساساَ من عدم مقدرة العراقيين الاتفاق على
صيغة للتعايش كما إن قلب الاتحاد الافريقي لن ينبض إلا بالدولار الامريكي وماذا
يمثل السودان في الميزان التجاري الصيني ـ الامريكي، لننسى كل ذلك ولنكن
إيجابيين فعلى الرغم من خطابه شديد اللهجة إلا أن السيد كولن باول مع حثه الامم
المتحدة لتبني مواقف متشددة قد أتاح فرصة جديدة للحكومة متبرعاَ بتحديد طريقاَ
بعيداَ عن التعنت ومواجهة غضب المجتمع الدولي : أنه التعاون التام مع مؤسسات
المجتمع الدولي عبر مبدأ المشاركة الذي يقتضي التفهم العميق لحقيقة شمولية
إلتزام المجتمع الدولي بالدفاع عن المبادىء الانسانية العامة وخاصةَ ما يتعلق
بالشئون التي تمس كرامة الانسان وحقوقه الاساسية .
لقد تطور موقف المجتمع الدولي ـ وهو يرفع شعار المباديء الانسانية ـ الى دور
البطولة في مسرحية إصلاح الشأن السوداني بعد أن كان ولفترة غير وجيزة متفرجاَ
ثم ناقداَ لاذعاَ ومن ثم لا يكفي الحكومة السودانية تفهم الدور المناط بها فقط
بل لابد من تقمصه وأقلمته على إسلوبها وتقبله كلغة لابد من هضمها والتصرف على
أساسها للخروج من المأزق الحالي والسير جنباَ الى جنب وبكرامة مع دول المجتمع
الدولي في درب النهضة الحقيقي ، فلن يكتفي المجتمع الدولي بعد اليوم بتسطيح
أفكاره أو إجراء العمليات التجميلية بما في ذلك المؤتمرات الاهلية الارتجالية
والمفاوضات السياسية الفوقية بل لابد من مشاركة فعالة من أجل السلام ومن الساس
للراس .
إن التعاون مع المجتمع الدولي يقتضي منا تقبل مساهمة المجتمع الدولي في حل
مشاكلنا من مبدأ المشاركة الإنسانية وتحقيقاَ للشفافية التي دعت إليها رئاسة
الجمهورية مرارا وتكرارا ، ويقتضي ذلك فتح الباب لمراقبين دوليين حتى من خارج
أطر الامم المتحدة والاتحاد الافريقي للمناصحة والدعم والتسديد في ما نبذله من
جهود لإحلال السلام ، كما يقتضي أن يتفهم المواطن العادي أن الدولة تمر بتحول
حقيقي يتيح أن يشترك الجميع فيه وبحرية عبر تخصيص منابر حرة وساعات أطول للنقاش
البناء في وسائل الاعلام المختلفة نخلص فيه بأن الدولة الابوية قد مضى عهدها
وفي الافق تلوح دولة المشاركة ، كما يجب إن تتفهم الدولة أن الكرامة الحقيقية
هي في طلب المساعدة والرأي والمشورة من مواطنها ومن المجتمع الدولي دون خوف
الإستنتاجات الغير المدركة لماهية حقيقة معنى التنازل السياسي والتدخل الأجنبي
ما دامت مصلحة المواطن وضمان حقوقه الاساسية البسيطة هي الهدف .
لقد ظلّ المواطن العادي سلبياَ تجاه الدولة حتى نسي
ونسيت الدولة ونسى عمالها أن الدولة هي دولته ـ دولة المواطن العادي ـ
والعاملين بها أجراء يحكمون بتوكيل منه إذ يدفع لهم هذا المواطن العادي رواتبهم
وتكاليف تسيير أعمالهم وهنييء معيشتهم من قوته اليومي على أن يبقوا مكلفين عنه
في إدارة شوؤنه في الدفاع عنه ومراعاة مصالحه وأن يعكسوا لبقية العالم وجهة
نظره المتضمنة حبه للسلام وتطلعه للنهضة والرفاهية وأياديه الممدودة للتعاون
والمشاركة وعقله المفتوح لأي فكرة جديدة أو رأي سديد يساهم في علاج جروحه
النازفة التي أهملت منذ الاستقلال وتحفظ عليها سياسيوه الاشاوس خلف جدر من
شعارات الحروب الصليبية الوهمية ونداءات القومية العربية التي إن أثمرت فقد
أثمرت حروب جهوية ثم حزبية لا ناقة للمواطن فيها له ولا جمل .
أن رؤيا وحيدة مثل خارطة طريق حزب الامة سبتمبر
2004 بلا شك تهبنا أمل وأساس يمكن البناء عليها وقد تخرجنا من التخبط الجنوني
حول فرضية أن الآخر هو الشر بعينه ويستطيع أن يعيد صياغة الإنسان السوداني بحيث
يتخلى عن عناصر حضارته المبنية على التسامح والتأخي منذ مئات السنين ويدفن نفسه
إلى الأبد خلف جدار التبعية الاستعمارية بينا نحن عخزين عن إختيار طريقنا.
د. أبراهيم صديق مخير