ومن النظرة الأولى للتنقلات الإعلامية الداخلية , فإن عملية تمكين استباقية واسعة جرت في هذه الأجهزة , وهي العملية الثالثة الكبيرة التي جرت حتى الآن في الاعلام السوداني بعد مجئ الإنقاذ . فعقب انقلاب الجبهة الاسلامية في 30 يونيو 1989 ارسلت الجبهة بعض شبابها للعمل داخل الاجهزة الاعلامية في مرحلة ما قبل كشف الوجوه , وكان بعضهم يكتب باسماء مستعارة في الصحف اليومية , فلم يكن محمد طه محمد احمد مثلا ليجرؤ وقتها ليكتب باسمه في السودان الحديث والانقاذ الوطني ,لذلك كان يكتب تحت اسماء مستعارة , وتركت امور التسيير اليومية تدار بواسطة صحفيين معروفين بعدم انتمائهم للجبهة الاسلامية , وبين المكاتب ظل عدد من المحررين يدورون بين المكاتب في سونا والاذاعة والتلفزيون وصحيفتي الانقاذ والسودان الحديث , الى ان تمكنت الانقاذ بعد حين فبدأت الاسماء الحقيقية في الظهور .
كان هؤلاء المحررون جاءوا الى هنا بلا معرفة سابقة بالعمل الاعلامي بل وفيهم من هو أمي لا يقرأ ولا يكتب مثل المحرر والناقد والصحفي الرياضي ميرغني يونس . وفوجئ الذين ساعدوهم في البداية بأنه لم يعد لهم مكان هنا فمات من مات عندما وجد آخر قد هبط على كرسييه من الفضاء وسرق منه موقعه بدم بارد , وأقرأوا قصة وفاة الراحل حسب الرسول بانقا . حتى وزير الاعلام وقتها ضايقوه بعد ان تمكنوا وجاءوا بتلاميذه .
ثم توالد اطفال الانابيب في الصحيفتين وفي داخل حوش الاذاعة والتلفزيون وفي الاعلام الخارجي , لم ير بعضهم في حياته مبنى التلفزيون واصبح مديرا ورئيسا للتحرير , ابتدءا من محمد حاتم سليمان مدير التلفزيون السابق الى عوض جادين الذي صور خطاب البشير وهو يتلو البيان الأول في استديو منظمة الدعوة الاسلامية وكانت هذه أهم محطة في حياته ساعدته في الصعود عاليا واحتلال مواقع لم يكن يحلم بها في حياته , مرورا بربيع عبد العاطي الذي عمل داعية بمساجد جبرة يدعةو الناس الى الصلاح , ومنظرا سياسيا يستمد قوته من قرابته للنائب الثاني والرجل معروف بفساده , ومجموعة الشباب الذين يديرون التلفزيون لصالح الجبهة الاسلامية من نوع ابراهيم الصديق , وهو شاب رقيق العود والمعرفة , مكنوه منذ الأيام الأولى للانقاذ لينال لقب طفل الانبوب الاول في مجال الاعلام , ثم نصبوه مسئولا عن الشأن السياسي والاخباري في التلفزيون وهو لا يستطيع كتابة تقرير إخباري بالمواصفات التلفزيونية ولا هو قادر على قراءته , ومن حوله أيضا مجموعة الشباب الذين في مثل تجربته مثل علام عمر وصالح عجب الدور وخالد لقمان ويسين ابراهيم ومحجوب محمد احمد وعلي يسن وغيرهم . يمسك هؤلاء بمفاصل التلفزيون ويتميزون عن زملائهم كأنهم ملائكة من السماء وليسوا مثل باقي السودانيين . لقد جاء هؤلا في مرحلة التمكين الثانية التي تولى فيها الطيب مصطفى رئاسة التلفزيون .
ان نتيجة وجود هؤلاء على قمة البناء الهيكلي للاعلام في السودان هو مدخل للاستمرار في استفزاز جميع اهل السودان بما في ذلك القيادة التي تديرهم من امين حسن عمر الى عبد الباسط سبدرات , وقبل اسابيع قدم التلفزيون برنامجا لجماعة ساحات الفداء استضاف فيه اسحق احمد فضل الله ومجموعة من نوعه , تحدثوا بشوق شديد عن ايام الجهاد وعن الفاروق واحد والفاروق اثنين , قالوا ان امجاد الدفاع الشعبي لم تمت , وبعدها بأيام مات نائب الرئيس جون قرنق وخرج الاف الجنوبيين وحرقوا وقتلوا وخربوا . الا يمكن ان يكون اعلام الانقاذ هو مساهم كبير في ما حدث . لا يمكن لمن تربى على الحرب ان يزكي ثقافة السلام .
إن على الحكومة الجديدة مراجعة هذا الوضع جيدا لما له من تأثيرات سلبية بالغة على مجمل اتفاق السلام ولا يجب أن ينظر إليه في إطار قسمة الوظيفة بين الجبهة الاسلامية والحركة الشعبية , فالاعلام يجب ان يكون ملكا للجميع في المرحلة الانتقالية ولا يجب ان يترك لهؤلاء وقد سبق وروجوا للحرب , فمدير وكالة السودان للانباء الجديد كان كادرا عسكريا في الشرطة الشعبية , وابراهيم الصديق كان كذلك وهذا شان الوضع في الملحقيات الاعلامية , فالملحق الاعلامي السوداني بالسفارة السودانية في عمان عادل عبد الرحمن وهو كادر معروف في الجبهة الاسلامية ظل في موقعه منذ حوالي عشر سنوات تقريبا , وقد نسج في أيام الإنقاذ الأولى علاقات مع وجوه لها علاقة معروفة بالتنظيمات الارهابية وحاليا مع جهات تتعامل مع اسرائيل ما جعل السفارة السودانية في عمان وكرا للتجسس وبناء الصلات السرية مع الدولة العبرية من ناحية ومع المنظمات الارهابية التي تعمل في العراق من ناحية أخرى .
نادر احمد علي