قرأت مقال الأخ مدثر عوض الكريم – من جدة – يرد فيه على مقال الأخت سارة عيسى عن ملاحظاتها لما بثته قناة الجزيرة أيام أحداث الشغب اثر مقتل الراحل الدكتور جون قرنق .. استوقفني المقال لأسباب كثيرة سأوردها فيما بعد, لكن قبل ذلك أود أن أقول للأخ مدثر عوض الكريم في سؤاله (من هي سارة عيسى لتكون وصية على السودان وتحدد له من يطرد ومن يبقي؟).. أقول, سارة عيسى هي امرأة سودانية الأصل, على قدر عالي من الفهم والإدراك, هباها الله سعة في العقل, ورجاحة في تناول قضايا السودان.. هــذه القضايا هي ملك للجميع, حتى ولو اختلف الناس حولها, ومن حق اى فرد أن يدلي بدلوه فيها حسب قدراته وامكاناته, بل يكون من أوجب واجباتنا أن ننبه لمكامن الخطر أينما وجد.. فقط, المطلوب منك ومني ومن الجميع أن نلتزم التجرد والشفافية والعقلانية في تناولنا للقضايا المختلفة من اجل بناء سودان جديد.. لا ضير في أن تختلف آراؤنا, وان نستبين الحقيقة من خلالنا, نجليها ونعترف بها ثم نتبعها, حتى ولو جاءت ممن اختلفنا معه.. هكذا فقط يمكن لنا أن نبني ونؤسس لحوار علمي منهجي متزن و مفيد..لا ينبغي أن يكون تناولنا لقضايا السودان في المنتديات الالكترونية بهذا الشكل الانفعالي العفوي الذي يباعدنا عن الحقيقة وعن بعضنا, ويعطي المراقبين
فرصة الحكم علينا كما وصفونا من قبل.. لماذا أخي مدثر, لا نجعل من هذه المنتديات منابر حقيقية فاعلة نسترشد بها في مناقشة أمر هذا الوطن الجميل الجريح, الذي نراه يتداعى أمامنا؟!! لماذا لا تتسع صدورنا, على قدرها, لاستيعاب الراى الآخر والتعامل معه بوعي وإدراك وعقلانية؟!! لماذا لا نفكر في أحداث الخرطوم بعمق وتأني وتجرد, ومن ثم, نستخرج الأسباب والدوافع والدلالات والمؤشرات, وطرق العلاج الممكنة, بدلا من اللجؤ إلى ردود أفعال لا تخدم قضايا الوطن الملحة المستعصية؟!! ثم, إن الحديث عن قناة الجزيرة أثناء تغطيتها للأحداث بالخرطوم, لا شك عندي من أنها انطلقت من مفهومها واستراتيجيتها الداعمة للتوجه العربي, رغم التغليف والادعاء.. ولو انك تتبعت البث المباشر لهذه القناة أيام الأحداث المؤسفة, ببصيرة, لابد انك مستهجن طريقتها, لو فيك ذرة انتماء حقيقي للسودان, هذا الوطن الجميل..إذ أنها لم تترك للمشاهد فرصة التفكير والابتعاد عن وقوع بوادر حرب حقيقية بين الشمال العربي المسلم والجنوب الأفريقي المسيحي.. كان شحنا مقصودا, وتأليبا سافرا, وإثارة لفتنة غير موجودة في الأصل, كادت أن تقع
لو لا لطف الله وعنايته..لا تدرى قناة الجزيرة جذور مكونات المجتمع السوداني, أو لا تريد السير إلا في الاتجاه الواحد المرسوم بفهم وبعد استراتيجي
محكم.. إنها لم تتحدث في يوم من الأيام, عما لحق بالإخوة الجنوبيين من فتك وإذلال وهوان خلال الخمسين عاما الماضية, وهي التي تملك كل الأدوات
الحديثة والامكانات الضخمة لذلك.. أنها لا تستطيع أن تقول للعالم أن الجيش السوداني العربي المسلم كان يسترخص الرصاصة لقتل الجنوبي, فيلجا إلي استخدام الساطور أو مسمارا بطول عشرة سنتيمترات علي الرأس أو الذبيح النحر..أتدري لماذا لم يكن للحكومة أسرى جنوبيين خلال ما يزيد عن عشرين سنة حرب زهقت فيها أكثر من مليون ونصف روح؟!! لا يمكن لقناة الجزيرة أن تقرر أو تنشر أو تبحث مسالة بيع الإنسان لأخيه ( الإنسان), الممارسة الفجة التي وصلت سيرتها وأخبارها إلي دهاليز الأمم المتحدة,هل تعلم لماذا؟!!
لا يوجد في السودان عربا, أو أفارقة بالوصف الذي ذهبت إليه قناة الجزيرة, أو بالوصف العلمي الاجتماعي المعروف لدى المختصين, كما ورد في مقالك المشار إليه.. إن وجود العرب أو الأفارقة في السودان الآن, هو ادعاء أجوف فارغ المحتوى, لا يسنده اى دليل ولا برهان, ومؤشر يقرر الاعتراف بالدونية والتبعية والسطحية.. وهو ذات الادعاء الذي سكت الناس عن بحثه وهو الملح الاوجب, وكان ممنوع الحديث فيه وعنه..الآن, وقد اختلفت الظروف, ووقع الفأس في الرأس,وصار لزاما علينا أن نكون أو لا نكون, لابد لنا من التفكير بعمق المحنة, وخطورة مالأت وضعنا في المستقبل, حتى تتضح ملامح الحقيقة مهما كانت مرارتها ..نحن, أيها الأخ الكريم, سودانيون وحسب.. هذا جنسنا وهويتنا.. نحن نتاج حقيقي لتلا قح
وامتزاج حضارات أصيلة قديمة ضاربة ثرة بما ورثنا.. ساهمت مجموعة عوامل وعناصر كثيرة مختلفة في خلق وإنتاج هذا الذي يسمى بالسوداني..
نعم, نحن أخذنا من كل هؤلاء واؤلئك علي مدى سبعة آلاف سنة, فكانت المحصلة هي هذا السوداني بتميزه وتفرده المعروف للعالم كله.. نحن أعلى درجة, واسمي مكانة, وارقي جنسا من كل الذين أخذنا منهم..ارجع قليلا واقرأ شيئا من شعر الدكتور معز عمر بخيت أو قصائد الأستاذ عالم عباس أو ما كتبه الأديب الأريب الطيب صالح, أو الفيتو ري, أو اى ورثة حضارية ناتجة من صلب ومخاض سوداني..ماذا ترى؟!!.. إن مشكلتنا الوحيدة تكمن في أننا لم نعط, ولا نقيم وزنا لحقيقة امرنا, وما أبدينا استعداد لذلك.. ما زلنا في مرحلة اللاوعي بماهيتنا و ذاتنا, حتى لو كان ذلك بفعل التغييب المقصود..ثبت بالتجربة, أخي مدثر, إن هذا السودان بامتداده الشاسع, وتنوعه الثقافي الاجتماعي الكثيف, واختلاف مناخا ته الجغرافية الكثيرة وتأثيراتها, قادر على استيعاب الجميع, والعيش فيه بأمن وسلام وطمأنينة.. بمعنى, أن التباين الكبير الموجود فيه, عوامل دافعة للوحدة أكثر منها للفرقة, وبامتياز.. إن القوا سم المشتركة بين أهل السودان, رغم قلتها, قياسا على نقاط التباين, هي أقوى امتن وأرحب, إذا ما اتيحت لها الفرصة للمثول والدفع المنظم.. يمكنك الوقوف بسهولة ويسر على نماذج غاية في الدقة والتعبير.. فمن منا من لم يطربه شدو محمد وردي والبلابل وعمر إحساس والبالمبو وعبد الله دينق وكمال كيلا وآخرين كثر؟.. من من السودانيين من لم يفتخر بجكسا وخليفة عمر وريتشارد والسباحة سارة وغيرهم؟
من منا من لم يعتز بالدكتور فرنسيس دينق والبروفسور الراحل عبد الله الطيب والدكتور محمد عبد الرحمن أرباب وربيكا وغيرهم؟من منا من لم يقف
إجلالا وهيبة وتعظيما للثورة المهدية واللواء الأبيض وعبد الله السحيني وود حبوبة وأكتوبر وغيرها من من الأحداث الجليلة؟ !! هذا هو السودان, الذي لا يشبه في شدوه وأحداثه وتراثه وترابه- نيله وصحرائه, اى من العرب أو الأفارقة.. لذلك فقط, نحن سودانيون, بما تحمل هذه المكونات من تميز في السلوك وتفرد في التصرف.. صحيح أننا نتكلم اللغة العربية, لكن غانا ونيجيريا وساحل العاج ودول كثيرة أخرى تتكلم الإنجليزية والفرنسية بصفة رسمية, وانتماؤها ليس إنجليزيا أو فرنسيا..صحيح أن السودان يقع في قارة أفريقيا, لكن الإنسان فيه يختلف شكلا ومضمونا عن إنسان أفريقيا شمالا أو جنوبا.. ما ينقصنا نحن السودانيون هو الانتباه لحقائق الأشياء, بعيدا عن الادعاء الزائف والاستجداء اللاهث.. تأكد أخي مدثر, وقتما عدنا إلي صوابنا وأدركنا الحقائق وهي مجردة, سيكون لهذا السودان شانا عظيما يين كافة بلدان العالم, اعتمادا على التميز والتفرد الذي يتمتع بهما..
أراك, أخي مدثر, قد استخدمت جملا وألفاظا حادة في وصفك لما حدث بالخرطوم.. فانك تقول مخاطبا الأخت سارة عيسى(هل اختلافك مع الحكومة يمنحك الحق لتدافعي عن ثورة الجنوبيين ضد الشماليين؟)اى ثورة للجنوبيين تلك التي تتحدث عنها يا مدثر ؟لماذا صنفت الذي حدث بأنها ثورة قادها الجنوبيون ضد الشماليين؟ومن هم الشماليون الموجودون بالخرطوم الذين انتظمت الثورة ضدهم؟وكيف سمحت لنفسك أن ترى ما حدث إلا ثورة عنصريين حاقدين, في الوقت الذي صنفه الآخرون الذين يملكون ناصية العلم والمعرفة والإدراك الشفيف , أن الأمر لا يعدو أن يكون تعبيرا, على قدر
فهم المعبرين, ضمت, نتيجة لغياب الأجهزة الأمنية في الوقت المناسب, بعضا من مريضي النفوس لتحقيق مآرب شخصية ذاتية ضيقة؟ أولم تلحظ في الشارع أنماطا وأشكالا من الناس منهم من هو من كرد فان ودار فور والنيل الأزرق شرق السودان, ومن الجنوب والوسط وغيرهم؟ وهل سالت نفسك
لماذا خرج هؤلاء في الأساس للتعبير دون غيرهم من لبناء الشمال ألنيلي-إذا جازت التسمية؟!! ولماذا كان هؤلاء أكثر انفعالا بمقتل الدكتور جون قرنق؟ وما هي أسباب ودواعي (كراهية) الجنوبيين لكل ما هو مسلم أو عربي, كما أوردت في مقالك؟ وهل المقصود من سلوك المعبرين هو إنسان (الشمال) أم الحكومة, التي هي مسئولة ومشتبه فيها- حسب رأى الشارع النافر- عن مقتل د جون قرنق؟ وكيف فات عليكم أن تدرجوا في حساباتكم
ان الهياج والتذمر في الأصل كان بسبب مقتل نصير المهمشين, الذي حمل إليهم الأمل قادما من نفق بعيد, ولم يكمل مشواره, وليس بسبب كراهيتهم
لعرق أو دين أو موقع؟ وهل الدين أو العرق, سببا في يوم من الأيام, لاقتتال الناس في السودان؟ وهل تفوه اى من المهمشين, أو وصف بعضهم, أو
قال سفيههم بأفضلية عرق على عرق أو دين على دين؟ وهل الإخوة الجنوبيون على درجة من السطحية واللا مسؤولية بحيث يعلنوا ثورة(عنصرية حاقدة) على الشماليين بهذه الكيفية, وهم الذين عركتهم الإحن والمحن والخطوب؟ مالكم كيف تحكمون أخي مدثر عوض الكريم.؟؟!!
لا يمكن لشخص عاقل أن يتقبل ما فعله الذين أرادوا التعبير عن استيائهم, رغم أن الحادث لا يشكل إلا نسبة ضئيلة من أفعال عظيمة حدثت, سواء كان في جنوب السودان أو غربه او شرقه, حيث لا قيمة ولا وزن للإنسان هناك..ورغم انه لم يقترف ذنبا, ولم يستخدم القنابل المحرمة دوليا , كما فعلت الحكومة لمسح وإزالة قراهم المأهولة الآمنة, لا لسبب إلا لأنهم ينتمون لمجموعات عرقية رأت حكومة الجبهة وأذيالها أن لا داعي لوجودهم في تلك الأرض, داخل وطنهم السودان.. لم نسمعك أخي مدثر عوض الكريم, وأنت تضرب الدفوف وتشحذ النخوة العربية لان الجنوبيين دمروا الممتلكات هتكوا الأعراض بالخرطوم, في يوم واحد لم تتبصر خلفياته, لم نسمعك أو نر لك أثرا, والعار والدمار يلحق كل ساعة بآلاف المواطنين بدار فور, فيهم الأخ والخال والعم والأب والأم والأخت وبنت السودان, على مدى ثلاثين سنة كاملة ؟!! هم يدفعون الضرائب كما تفعل أنت, ويقومون بكل الواجب كما تفعل أنت..لكن أين حقهم, ومن يحميهم من جور الزمان وغدر الإنسان؟..كان العشم أن تجدع كلمة حق, ولو من باب المجاملة, تؤازر بها العدالة, لا أن يوصلك الضيق مما شهدت بالخرطوم, وهي قطرة في بحر, لتطالب علنا ودون حياء, بفصل الشمال عن الجنوب..ومما يحمد لك, انك طرقت بابا ممنوع الاقتراب منه, ومسكوت عنه, وكان محرم الحديث فبه.. ورغم قبح القصد, لكننا سنظل نؤكد ألا مصلحة لاى سوداني في انفصال اى جزء من هذا الوطن.وان دعوات الانفصال هذه هي حالات انفعالية مرهونة بمسبباتها, بحيث إذا عولجت الأسباب زال الانفعال..كما نظل نؤكد, ودون تردد أن انفصال الشمال عن الجنوب , إذا وقع, سيسوق مبررات قوية لتشرذم باقي السودان ويتقطع إلى وحدات يصعب تسميتها الآن , طالما القضية السودانية واحدة في جذورها.. هذا السودان الذي يتداعى أمامنا, هو نتاج نضال عنيف بذل أجدادنا من اجله دم غالي ونفس عزيزة.. فهل يا ترى نحن جاهزون لفداء وحدته وصون ترابه؟!! وهل أنت مستعد لمراجعة موقفك الذي تقول فيه(نعلنها هنا بقيت الحكومة أم ذهبت نريد انفصالا يحفظ لنا كرامتنا كشماليين) اى الشماليين تتكلم عنهم يا مدثر, و كرامة من من الشماليين تريد أن تحفظها, وأين هي كرامتك هذه بالأساس؟ألا تحس وأنت تورد هذه
الجملة الممجوجة بان استخدامك لكلمة الشماليين هذه فضفاضة وغير دقيقة؟ أتقصد الشمال السياسي الذي عرف في أضابير السياسة السودانية, أم الشمال ألنيلي بمفهوم أهل الهامش؟ ومن المؤكد, ستجد من يختلف معك في الحالتين,لان لا احد يريد ان يحرق مراكبه ويكسر مجاديفه دون أن يتلمس
بر الأمان.. ومن الأفضل لنا جميعا ألا نلعن الظلام فقط ولا نجتهد في ايجاد الضوء..هذه دعوة, في تقديري, ينقصها كثير من الرشد,قليل جدا من الحكمة, إن وجدت..
أخي مدثر, بعد هذا الذي قلته, أتمنى مخلصا أن ننصرف كلنا إلى الإجابة على الأسئلة التالية بدقة وتجرد وعلمية وشفافية.. دون انفعال ودون اى مؤثرات إلا المصلحة الوطنية العليا.. ذلك لان الإجابة عليها بالطريقة التي رسمتها, حتما ستقودنا إلى حقائق واضحة توفر لنا قناعات قاطعة راسخة نقرر من خلالها وبعدها الانفصال أم الوحدة..أما الأسئلة فهي:-
1- مسالة الهوية السودانية- من نحن السودانيون؟
2- كيف يمكن ان نبني وطنا قويا سليما معافى من الأمراض؟
3- الجبهة القومية وسلوكها في دار فور- الدلالات والمعنى؟
وفي الختام استميحك عذرا إذا جاءت كلماتي خالية من البلاغة وحسن اللفظ, فالعبرة عندي بالمقاصد والنهايات ومقام المقال, واظنك فهمت
لك الود والتقدير...والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
ابوسامح