![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
إن جل الفشل الذي أصاب التنظيمات السياسية يعود إلى عجز المثقفين في تحديد هوياتهم وقبولهم بالطواقى الجاهزة التي ألبسها لهم رجال السياسة، أو اختفائهم وراء الوظيفة في بيروقراطية كالحة فقطعتهم عن وصل الآخرين خارج أسوارها. إن المستنيرين من أبناء المجتمع، وهم يسعون لأن يكونوا طلائعه في التغيير الفكري والنهضوى التنموي، يجب ألا يستخدموا فقط كأدوات فنية في تحقيق خطط وبرامج لم يشاركوا في رسمها ولا يعرفون غاياتها ومآلاتها ولكنمن واجبهم أن يكونوا حضورا عند صناعتها. إن المجتمع الذي يغيب مفكروه ومثقفوه كمن غابت ذاكرته فيصبح نهبا لتجريب السياسيين. وبداية الإصلاح تكون بالخروج على النمطية المألوفة وبإتاحة مساحات أوسع لأهل الثقافة والفكر على أهل السياسة لأن أهل الفكر والثقافة هم الذين يمثلون البوتقة التي تتبلور وتنصهر فيها أفكار المجتمع ورغائبه قبل أن تصير مشروعا سياسيا تنفيذيا ويكون بذلك المجتمع حاضرا في تحديد مستقبله وأولياته دون إلزام أو إملاء من أهل السلطة والسياسة.
وللمفكر الاسلامى الدكتور التيجانى عبد القادر وصف ذكى للمثقف المصلح بقوله "ولا يكون الإنسان مثقفا مفكراً لتعاظم ألقابه العلمية، ولكن يصير كذلك حينما يتجاوز مرحلة التستر بالشهادات والتكاثر في المعلومات ويدخل مرحلة توليد الأفكار ونقدها وصياغتها وتنميتها والتعبير عنها. فالمثقف ليس هو فقط من يلاحظ ويشاهد الأزمات والتفاعلات الاجتماعية من حوله، ولكن المثقف من يحاول أن يصنع مفهوما أو نسقا من المفاهيم يحاول من خلالها تعقل الظواهر وقراءتها، أي فك هذه الظواهر عن تجسدها الاجتماعي - التاريخي ورفعها إلى أطر الإنشاءات الذهنية ليتمكن بذلك من وصلها بما تراكم لديه ولدى غيره من خبرات ومعارف، فيصير بذلك اقدر على فهم خصائصها وتوقع تفاعلاتها ومآلاتها، فيتمكن من الإشارة إلى طرائق التحكم فيها وهذا يعني إن المثقف - وليس السياسي وحده - ينطوي على أزمة عميقة تظهر في خطابه الفكري حيث يكون فاقدا للوضوح النظري وعاجزا من ثم عن القراءة الصحيحة للأحداث من حوله أو اتخاذ موقف منها. وسينعكس كل ذلك على سائر ممارساته السياسية والاجتماعية. على أن الاتصال بعالم الأفكار وحده لا يكفي.. فالمثقف لا يتصل بعالم الأفكار لينحبس فيها وإنما يجتهد في أن يصل الفكرة بالعمل - عملا في النفس من الداخل - وعملا في المجتمع من الخارج - عملا في سياسة النفس لإلزامها بالفكرة.عملا في سياسة المجتمع لدفعه نحو المثل العليا. وتلك حالة تورث قدرا من التوتر ولكنه (توتر مبدع) لا بد للمثقف أن يعيشه، شأنه في ذلك شأن الصوفي في خلوته وجلوته. فهذا الاتصال بين الفكر والروح هو الذي يوفر المشروعية الأخلاقية والمصداقية العملية التي لا بد منها لأي مشروع من مشاريع الإصلاح والتنمية."
يجب على المثقف ألا ينحبس في دهاليز نفسه، ولكن عليه أن يسعى بصورة مستمرة للتفاعل مع الواقع الاجتماعي والى التواصل مع الآخرين، باحثا عن القدر المشترك من الحق والخير ليكون مع أولئك الآخرين الصالحين طليعة إصلاح تسرى في البيئة المحيطة فتوفر ديناميكية للتغيير الاجتماعي السياسي.
إن المثقف لا ينبغي أن يستمد قوته من المؤسسة السياسية، بل على المؤسسة السياسية أن تستمد قوتها من مكانة مفكريها وقوة حجتهم ومصداقيتهم وسعيهم بين الناس بالخير. وهذه القيم والمثل يمكن أن تجد القبول والالتفاف حولها من قبل عدد من المثقفين ممن يتوفر فيهم التحرر من التبعية الذهنية والعصبية وأطراف ذات انتماءات فكرية وسياسية وتنظيمية مختلفة.
فالمثقف الذي يرمى إلى إحداث تغيير في المجتمع ويترسم الطريق نحو الإصلاح الحقيقي هو الذي يواجه التحديات والصعاب بالمصداقية ولا يهتم بما يرشح من القيادات ويتوقف عند إشارات الأوعية الفارغة التي تحدثها انعكاسات العصبيات والعرقيات عندما تحتد المواقف الفكرية وتنشط دوائر الوعي في رحاب المجتمع.
فمواجع الناس وشكواهم سببها فرط التحدث عن التغيير والإصلاح دون أدنى أسس فكرية ومعايير أخلاقية راسخة تثبت المبدأ وتعالج أمراض الماضي..فالحاجة ماسة لقيادات واعية ومدركة تحمل في جوانبها عمق التجربة الإنسانية وتلتف حول منهج سياسي يعمل على إعادة الواقع الاجتماعي والسياسي بأفق متوازن، يعيد توازن الحياة وإيقاعها بمنهج أكثر التصاقا بالقيم والمعايير الأخلاقية التي نرتضيها. من لهذا الوطن من يصلحه من عثراته وينتشله من كبواته غير مثقف مصلح متجرد وجرئ!!!