![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
الاعلام.. من مرحلة الفطام الى سن الرشد
لا ينكر إلا مكابر ما قامت به حكومة الانقاذ من بذل الجهود الجبارة وهى تخوض الحرب وتدير جولات التفاوض لتحقيق سلام شامل يفك أسر البلاد من الفقر والجهل والمرض. وبعد أن أريقت دماء طاهرة لعدد من أبناء الوطن تحقق السلام بفضل من الله وتوفيقه. واحتشدت فى إتفاقية السلام جل تطلعات أهل السودان بوطن آمن متعايش ومزدهر ومستقر. وعلى الرغم من أن سقف الأمانى لم يبلغ مداه ولكن ساعة العمل قد أزفت لتجسيد ما تيسر من هذه التطلعات بالعمل حتى يحس الناس، كل الناس، بالانتقال من حالة الى أخرى هى الأفضل دائما. وحينها يعلو سقف تطلعاتنا ونظل فى حالة سعى دائم لتحقيقها، وهو حال المؤمن الذى لا يعرف الكلل ولا تصيب همته العياء أو كما جاء فى معنى الحديث النبوى الشريف " والله لو تعلقت همة أحدكم بالثريا لنالها". أوردت كل هذه المقدمة لأخلص إلى أننا إذا ما ركنا إلى الإتفاقية وهى بين دفتي الكتب لتفرز لنا واقعا جديدا دون أن نغير من فهمنا وإدراكنا لمرحلة السلام وما تقتضيه من تغيير لسلوكياتنا السالبة فى العمل بكافة نشاطاته نكون كمن ينطبق عليه المثل " كأننا يا بدر لا رحنا ولا جينا".. فالجهد الذى بذل لإيقاف الحرب يتطلب بالضرورة جهدا مماثلا، إن لم نقل أكبر، من كل قطاعات المجتمع بمنظماته المدنية وتنظيماته السياسية وادارته الأهلية ومؤسساته الحكومية فى شقيها المدنى والعسكرى لرعاية المولود الذى طال انتظاره. فالذى لا يغير من سلوكه إيجابا أو يرفع من سقف همته صعودا يكون كمن لم يدرك كارثية الحرب ولاثمار السلام! وفى كل هذا يظل دور الإعلام مفصليا فى شحذ هذه الهمم وعكس هذه التغيرات والتبشير بها وسط المجتمع. والإعلام فى ذلك يجب أن يكون أكثر إعدادا وأوسع رؤية. والمجتمع، حسب روح إتفاقية السلام، لم يعد ذلك المتفرج الذى ينتظر أن تملى عليه الواجبات من عل.
والناظر للإعلام الرسمى يجد أنه وعلى الرغم من التحسن النسبى الذى شهده ولكن مشوارا طويلا ينتظره لكى يقود تغييرا حقيقيا يعكس المرحلة الجديدة وكى يستوعب التنوع والثراء الذى يتميز به الوطن. فالإعلام القومى ما زال حبيسا فى دهاليز النشاط الرسمى. فعلى سبيل المثال تظل نشرة الأخبار وبصورة مطولة تنقل نشاط الجهاز التنفيذى من الدولة وتغفل دون تخطيط يلحظ إفراد مساحات مقدرة لحركة المجتمع. وظلت بذلك كاميرات التلفزيون أسيرة، فى معظم الأحيان، داخل هذه الديور الرسمية دون أن تغادرها إلى الأطراف والأقاليم والأرياف لتنقل لمشاهديها حركة الناس ومعاناتهم وإنجازات المجتمع وإسهاماته فى بناء وتعضيد السلام. نريد إعلاما يمشى بين الناس فى الأسواق والأحياء والأرياف مثلما كانت السينما المتجولة فى الستينات والسبعينات تبصيرا للناس بحقوقهم وتذكيرا بواجباتهم وإحتكامهم للقانون وليس فى ذلك تقليلا للدور الرسمى بالطبع وما يقوم به الوزراء والولاة والمعتمدون يوميا ولكن ليس كل حركة يومية للوزير تقتضى أن تنقل عبر الصورة والصوت ويعاد بثها صباح مساء إلا أن تكون من شاكلة حركة والى شمال دارفور فى مشاريع إعمار الدار ونشاطات والى جنوب دارفور فى إعادة توطين النازحين والصلح بين القبائل المختلفة أو كالنشاط الكبير الذى يقوم به الدكتور عوض أحمد الجاز وهو يفتتح فى كل مرة حقلا للنفط ومؤسسة خدمية للمواطنين مما يبشر بجنى ثمار السلام. وواجب الإعلام أن يسلط الضؤ بصورة أكبر على نشاطات منظمات مجتمعنا المدنى وهى تقوم بدورها الوطنى فى تحقيق التنمية تعظيما لدورها، وألا يقتصر ذلك على منظمة أو منظمتين. وتلفزيوننا القومى يحتاج إلى تدريب كوادره وإعدادها إعدادا فنيا ولغويا وتوفير فرص التدريب الخارجى لها مع تحسين المرتبات والبدلات حتى لا تختطفهم الفضائيات الغنية. فعثرات التلفزيون ليست بالقليلة ومنها على سبيل المثال لا الحصر أخطاء تتعلق بسلامة لغة بعض مقدمى البرامج الذين لا يفرقون بين حرف الغين وحرف القاف وبين الثاء والسين وبين الحرف B والحرف P وكذلك ضعف مهنية البعض فى محاورة ضيوفهم مثلما فعل أحدهم وهو يحاور عبر الهاتف السيدة ربيكا قرنق واستخدم معها لغة مثقفاتية المدن دون أن يراعى تبسيط لغته لتسهيل الفهم على الطرف الذى يحاوره حيث كان يستخدم معها عبارات "منسوبي الحركة" و"كيف تجدين نفسك؟" مما أربك الحوار بطلاسمه هذه، أو التعتعة المتعمدة كتلك التى يمنتهنها ويجيدها الإعلامى جميل عازر بفضائية الجزيرة، ومشاكل فنية ومهنية لرجال الكاميرا الذين يغطون إجتماعات مجلس الوزراء وتترصد كاميراتهم بعض المسؤولين وهم يتناولون بعض المأكولات والمشروبات أثناء الإجتماعات أو أخطاء الإضاءة كالذى شهدناه فى القصر مؤخرا فى عزاء النائب الأول الراحل حيث لم نتبين ولم يتبين معنا العالم الخارجى، من خلال التصوير المظلم، وجوه مقدمى العزاء.. أو ما وقع من عطل فنى للميكرفون ورئيس البلد يتحدث عبره.. أوإستخدام المايكرفونات الكبيرة التى تشكل وجها غير حضارى وخطر أمنى..ونتساءل هل يراقب المسؤولون بالتلفزيون هذه الأخطاء المهنية لمعالجتها أم تترك دون مراقبة أو محاسبة؟ كما أن هناك حاجة إلى التنسيق بين الأجهزة الإعلامية القومية وتلك التى فى الولايات لعكس بعضا من البرامج الولائية فى الإعلام القومى. لماذا لا نجد خبرا منقولا من تلفزيون الجزيرة أو تلفزيون ولاية سنار مثلما ننقل من الفضائيات الأجنبية؟ ما هو دور هذه الأجهزة فى التعريف بالمبدعين من أبناء الوطن؟ كم منا يعرف الكاتب والراوى ابراهيم اسحق ابراهيم وآخرين كثر آثروا أن يبقوا هناك بين أهليهم فى الأقاليم؟ لماذا لا يطل علينا مقدم برامج ولائى من وقت لآخر عبر التلفزيون القومى؟ ولماذا أصبحت هذه الوسائط الاعلامية الولائية مثل "قدرة الفول فى كنتين الحى" لتظل خاصة بأهل الحى دون سواهم؟! ماهى مشاكل هذه الأجهزة الولائية من حيث المعدات والكوادر المدربة التى يقع عليها الإرتقاء بثقافة وتراث الإقليم والتبادل مع تلفزيونات الولايات الأخرى لتعميم المعرفة بالوطن دون الإعتماد فقط على التلفزيون القومى، أى أن يظل التعاون والتنسيق بين هذه الأجهزة أفقيا ورأسيا. لماذا لا يكون لهذه الأقاليم من المعدات ما يمكنها من تحقيق التوعية والتواصل فى مستوياته المختلفة بما فى ذلك النقل المباشر؟ كم تكلف هذه الكاميرات والمعدات ووحدات النقل المباشر؟ وماهى أولويات اهتمامات المسؤولين فى وزارة الاعلام؟ وبإى عين تنظر وزارة المالية لإحتياجات النشاط الإعلامى؟ إن تمنع وزارة المالية وجهات الإختصاص الأخرى عن توفير إحتياجات النشاط الإعلامى ليقوم بدوره بشفافية فى التوعية ونقل المعلومة الصحيحة ومحاربة الإشاعة التى أصبحت تهدد تعايش المجتمع مثلما حدث فى أحداث الإثنين الأليم عقب وفاة د. جون قرنق ولتبصير النازحين بمزايا عودتهم لديارهم حتى يكونوا أكثر عطاءا بدلا من الإستمرار فى حالة التلقى، ستضطر لدفع أضعافه للمعالجات الأمنية وتعويضات الخسائر التى يتعرض لها المواطن والوطن. إذن الإعلام هو السلاح الذى سيخوض به أهل السودان معركتهم ضد الجهل ويراقبون به أداء جهازهم التنفيذى ويرصدون به تصرفات أحزابهم السياسية ويطلون به على الآخرين خارج الحدود للتبشير بفرص التعايش والسلام وببناء المؤسسات الديمقراطية والتعريف بفرص الاستثمار فوق مساحة المليون ميل مربع. وإذا كنا نود الآن خوض معركة التنمية وترميم الجسور المتصدعة مع بعض العالم الخارجى فإن وزارة الإعلام تصبح لا تقل أهمية من وزارة الدفاع وهذا يقتضى توفير المزيد من الموارد والإمكانيات لهذه الوزارة لتمكينها من خوض حرب سلمية ولكنها شرسة (aggressive) لخلع تلك الصورة الشائهة التى رسمها البعض عن السودان وتبشر بالسلام وفرص السودان الواعدة وهذا لن يتأتى بشح الإنفاق وغل اليد ولكن بجزيل العطاء لتحقيق نصر فى معركة ذات طابع مدنى لتغيير الصورة السالبة للوطن والتبشير بمرحلة جديدة فى تاريخ السودان.
وإعلامنا فى بعده الخارجى يجب أن يتم إعداده وفق خطة سليمة تستدعى إعادة التوزيع الجغرافى لملحقياتنا الإعلامية وزيادة أعدادها بما تقتضيه المرحلة. ففى تقديرى أن وجود ملحقيات إعلامية فى الدول العربية بإستثناء القاهرة وفى الدول الأفريقية بإستثناء نيروبى وفى آسيا وجود لا طائل منه لسبب رئيسى هو أن الوجود الدبلوماسى الرسمى فى هذه البلدان هو صاحب الحظوة والقبول ، ولكن الأمر مختلف تماما فى الدول الغربية حيث تظل هنالك حالة جفوة بين التمثيل الرسمى للدولة وبعض القطاعات المؤثرة فى ذاك المجتمع مثل البرلمانات التى لا تأتمر ولا تتقيد بالخط الرسمى لحكوماتها. وهناك كذلك جماعات الضغط الأخرى كمنظمات المجتمع المدنى أو الروابط الإقتصادية لرجال المال والإستثمار التى تجد فى الحوارات والندوات التى ينظمها الإعلام سعة وثقة. وربما كان من الضرورى أن تتمدد ملحقياتنا الإعلامية فى العواصم الأوربية المهمة مثل بروكسل ولندن وباريس وبرلين وروما وأوتاوة بكندا وبعض مدن أمريكا المهمة كالعاصمة واشنطون ومدينة نيويورك وربما مدنا أخرى تشكل مقارا لجماعات ضغط مؤثرة. وقد يكون من الإفضل أن تستقل هذه الملحقيات بمبانيها عن مقار السفارات متى كان ذلك ممكنا وأن تجهز بما تحتاجه من قاعات الإجتماعات والعرض. وأن تتوفر على الكادر المؤهل تأهيلا جيدا من حيث اللغة والجرأة والإلمام بثقافة البلد المضيف وأن لا توكل المسؤولية للقائمين على أمر هذه المراكز بمزاجية التسوية والترضية أو الإبعاد، كما ألمح الأخ الهندى عزالدين فى مقاله بتاريخ 15 أغسطس بشأن التنقلات الأخيرة للمسؤولين الإعلاميين. ويصبح من المفيد لهؤلاء الملحقين أو المستشاريين الإعلاميين أن يستعينوا ببعض أهل الإختصاص والدراية فى البلد المضيف. كما يجب أن تزود هذه المراكز بالميزانيات الكافية لتنظيم نشاطاتها وعرض رؤية السودان فى المجالات المختلفة الثقافية والتنموية والدستورية بصورة علمية وجاذبة كذاك العرض العلمى الذى قدمه السودان فى مؤتمر المانحين الأخير بأوسلو حيث حاز على تقدير ورضا العدو والصديق. أقول كل ذلك ولا أدعى لنفسى صفة التخصص ولكننى كمراقب، أتيحت له فرص الوقوف على ثقافات بلاد كثيرة واستصحب معه تجارب فى مجالات عديدة، أردت أن أسهم بقلمى فى إصلاح حالنا من حسن إلى أحسن.. والله من وراء القصد وهو يهدى السبيل،،،،