تحليلات اخبارية من السودان
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام

سفر الرؤيـــا بقلم سارة عيسي

سودانيزاونلاين.كوم
sudaneseonline.com
8/17/2005 1:43 م

سفر الرؤيـــا

يعتبر الدكتور جون قرنق دي مابيور رمزا للنضال وبطلا قوميا حمل علي عاتقه عبء قضية المهمشين الثقيلة طوال فترة حمله للسلاح في الغابة ، ولذلك بكاه بحرقة كل من أنتمي الي هذه الشريحة المهمشة وفرح لموته الجبناء الذين اعياهم في ميادين القتال ، فتنفسوا الان الصعداء وهم فرحين بموته بعد أن هربوا من أرض الوغي وهاجروا الي دول الخليج حفاظا علي أرواحهم ، وهم الان عبر الفضاء الالكتروني ينالون من قرنق ميتا بعد أن اعجزهم وهو علي قيد الحياة ، فاذا ماتت الاسود تأمن الثعالب ، واذا غاب التمساح يفرح الوزغ ، وافتقدت قرنق الامهات في رمبيك وياي وجوبا وملكال والخرطوم والفاشر ونيالا وبورتسودان وغيرها من مدن السودان المختلفة ، ولكن من اين جاء جون قرنق اذا طرحنا السؤال علي طريقة أديبنا الطيب صالح ؟؟ وقد أجبت أنا علي هذا السؤال في مقال سابق .. أنه ولد من رحم المعاناة السودانية .. عاش حياة البؤس والشقاء وهو في مقتبل الطفولة ، تيتم وأبواه علي قيد الحياة.. كان جون قرنق يري نفسه في كل طفل يلعب في الطريق وهو لا يضع حوله شيئا من الملابس والتي كانت تعد نعمة عظيمة علي صبي في مثل سنه .. وأول عهده بالملابس كان بعد دخوله المدرسة .. زرع الفول السوداني من أجل تسديد رسوم الدراسة .. أرتحل الي الخرطوم وعمل بالمجلس البلدي لمحلية أمدرمان .. ثم أرتحل الي مدينة الروصيرص بغرض العمل في بناء الخزان .. ومن خلال هذه السيرة نكتشف أننا نتعامل مع زعيم سياسي من صنف آخر قلما تجد أمثاله في طابور الزعامات السياسية في السودان .. فالترابي أعتمد علي التعليم الذي كانت توفره الدولة أنذاك ، ومن أجل اختصار الطريق بسرعة صاهر آل المهدي فأكسبه هذا النسب الجديد شهرة طارت به الي الافاق ، والصادق المهدي ورث الزعامة أبا عن جد ولا يختلف عنه مولانا /محمد عثمان الميرغني في ذلك ، ومن المفارقات أن الزعامات السياسية في السودان لم يفرقها الموت عن مراكزها منذ ابرامها عقد المصالحة الوطنية مع نظام النميري في عام 1978 ، وما زال كل من الصادق المهدي والدكتور الترابي وابراهيم نقد ومحمد عثمان الميرغني يتربعون علي هرم أحزابهم من غير أن تنالهم أيدي التغيير أو حوادث الموت الداهم ، والزعيم الوحيد الذي خسرته الحركة الوطنية وهو في عرس مجده كان هو الدكتور /جون قرنق ، ولم يألفه أهل السودان بسبب شخصه علي الرغم مما اشتهر به من طيب المعشر وروح الدعابة ولكن أهل السودان أحبوا قرنق الرجل الوطني والرجل الصادق في وعوده والبعيد كل البعد عن مجاري الفساد التي نخرت في نخاع الاحزاب السودانية ، وأرض افريقيا خصبة بالقيادات والزعامات حيث نبت من أرضها مانديلا ويوليوس نيريري وروبرت موغابي وباتريس لوممبا وجمال عبد الناصر وهواري بومدين ، وليس من الغريب أن تنجب أرضها قرنق الاسمر الذي رفع رايات تحرير كامل أرض السودان من الظلم والتهميش .
والزعامات السودانية التي ورثت حكم السودان لم تعاني من المستعمر الانجليزي نفس المعاناة التي وجدها الراحل باتريس لوممبا والذي أذيبت جثته بمادة الاسيد من قبل المستعمرين البلجيك أو المعاناة التي وجدها نيلسون مانديلا هو يعيش لمدة ربع قرن من الزمان بين قضبان سجن روبن الرهيب ، واستقلال السودان تم بسلاسة ووجدت نخبه الشمال في ذلك الزمن نفسها في نزهة نيلية صغيرة بدأت من داخل كلية غردون الي سرايا القصر الابيض المطل علي نهر النيل الازرق ، والاتجاه العالمي في السياسة الدولية في تلك الفترة التي اعقبت الخمسينات هو منح الشعوب استقلالها ومنحها حريتها لتمارس سيادتها كما يحلو لها ، وتم اعتماد ذلك في قوانين الامم المتحدة والتي ذمت الاستعمار ودعت الي اعتماد سياسة تحرير الشعوب ، فبريطانيا لم تعد تلك الامبراطورية التي لم تغب عنها الشمس خلال خمسة قرون من الزمان ، فهي الان جذر متجذرة وبعد الثورة الدستورية وأفول نجم الملكية أصبحت دولة تماثل اقليم دارفور في المساحة ، رحل عنها المجد بعد رحيل الادميرال نيلسون واللورد كتشنر وغوردون وكل الذين بنوا بفتوحاتهم عرش الامبراطورية العظيم ، وأشتعلت الحرب العالمية الثانية فعرف البريطانيون بعد قرون طويلة من الزمن أن جزيرتهم لم تعد آمنة من غارات الغزاة .أنهمرت القذائف الالمانية علي لندن كالمطر وتحول ليلها الدامس الي نهار ساطع وكما قال مراسل ال CNN عن سماء العاصمة العراقية في حرب الخليج الثانية عام 91(( أنها تحولت الي ما يشبه شجرة الميلاد في أعياد رأس السنة )) وهو كان يصف وميض القذائف التي تطلقها مضادات الدفاع الجوي العراقي وهي تستهدف طائرات التحالف المغيرة ، والدرس الذي خرج به البريطانيون من الحرب العالمية الثانية أن امبراطوريتهم أصبحت عجوزا شمطاء وغير قادرة علي تدبير شئون البيت الكبير من المستعمرات المترامية ، ولذلك كان استقلال السودان سلسا وسهلا ولم يكلفنا الارواح الثمينة كما حدث في الجزائر ، مات في حرب تحرير الجزائر مليون شهيد وتحقق الاستقلال ، والمعادلة المقلوبة في السودان أننا لم نفقد أرواحا بهذا العدد المهول كما حدث في الجزائر ولكننا فقدنا اثنين مليون انسان في حرب الجنوب ، وذلك غير تدمير الطبيعة وانهاء مقومات الحياة في هذه البقعة ، حدث العكس تماما وما وفرناه من أرواح في حرب التحرير عدنا وخسرنا أضعافه في حرب الجنوب .
ومن الصعب جدا أن يبقي الانسان من غير حرب وخاصة اذا أصبحت جزءا من عقيدته ومثله العليا ، وتقول المصادر التاريخية الاوربية أن الاسكندر المقدوني مات من الغم عندما أخطره أحد الجنود بأنه ( لم تتبقي اراضي في الدنيا لنغزوها ) ، والجبهة الاسلامية كتنظيم عنصري ويعتمد في عمله السياسي علي ثقافة العنف المستمدة من ارشادات تنظيم الجهاد في مصر لا يمكن أن تألف ثقافة السلام ، وقد قرأت قبل ايام نص رسالة المؤازرة التي كتبها أبو مصعب الزرقاوي وهو يخاطب أميره الشيخ أسامة بن لادن في افغانستان فهو يقول : (( شيخي العزيز أنني أبشرك بتقلبي في أنعم الله بعد أن من علينا بالنصر السريع وقد دخلنا أرض العراق ولم نجد فيها الا صوفية هالكة وشيعة رافضة وكرد خائنة )) ، وبعد هذه الصفات التي ساقها الزرقاوي في حق العراقيين فيا تري من هو العراقي الذي يرضي بحكم الزرقاوي وهو منزوع من كل هذه الصفات الثلاث حتي ولو كان الغرض هو تحرير العراق من الامريكان ، هذه هي ثقافة الهدم والابادة والاستئصال وما فعلته الجبهة الاسلامية في السودان لا يجعلها تختلف كثيرا عن أفعال الزرقاوي في العراق ، والفرق الوحيد أن الزرقاوي لا يطمح الي اقامة دولة في هذا البلد كما أنه لم يسرق أموال العراق ليحارب الامريكان .
وعجز النخب السودانية عن ادارة الحكم بصورة جيدة في الشمال بسبب الفساد المستشري دفعها الي محاولة يائسة للانتحار في حرب الجنوب والتي كانت مهرب أهل الشمال من حل كل أزماتهم ، عندما انعدم السكر في الخرطوم لم يستخدم الدكتور عبد الرحيم حمدي الحجج الاقتصادية مثل تقاطع منحنيات العرض والطلب ونظرية الندرة كما شرحها بول سامويلسون لطلاب المستوي الثاني في كلية الاقتصاد ولكنه وجد النجدة والاستغاثة في حرب الجنوب عندما قال : ( يكفينا أننا حررنا لكم كبويتا والجكو ويرول وتوريت )) ، وأنا مستعدة أن أقسم باليمين المغلظة أن عبد الرحيم حمدي لم يزر الجنوب في حياته وأن أسماء هذه المدن حفظه من برنامج ( ساحات الفداء ) ، وعندما وصلت الانقاذ الي الحكم عملت بقول عمرو بن كلثوم :
بأننا نصدر الرايات بيضا ونوردهن حمرا قد روينا
ولذلك كانت حرب الجنوب في عهد الانقاذ قاسية ومريعة وتركت في نفوس الاسر السودانية الكثير من المرارات والاذي ، قتل في هذه الحرب الاخيرة شبان في ريعان شبابهم ، واقتيد الي ميادين القتال الطلاب واساتذة الجامعات وشاغلي الخدمة المدنية والذين من المفترض أن يكونوا أدوات للبناء وليسوا ذخيرة للحرب ، والرئيس البشير في خطاباته كان يعتبر أن هذه الحرب دينية وهو يقرأ فوله تعالي (( أيحسب الناس أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ))، والان قد هدأ صوت المدافع وعلا صوت العقل فلماذا التضجر من ذكر هذه الحرب وفضح المتسببين في مقتل أبو دجانة ومحمد أحمد عمر واسامة فضل الله وفضل المرجي وغيرهم من الشهداء ، وقد ذكر الترابي في صحائف توبته أن كل هذه التجربة كانت خطأ وأنه قد ندم علي ما فعل وهو الان يحاور القائد سلفاكير من أجل المشاركة في حكومة الجنوب ، وقبل مقتل قرنق يوم رفعت 42 أسرة سودانية طلبها الي نائب الرئيس الراحل جون قرنق وطلبت منه المساعدة في اطلاق سراح ذويها الذين تعتقلهم أجهزة حزب المؤتمر الوطني ، وكان هولاء المعتقلين من منسوبي حزب المؤتمر الشعبي و الذين حملوا السلاح في السابق لمحاربة جون قرنق ، ومعي أسماء هذه العائلات ولكن للخصوصية لن أعمد الي نشرها ومن خلال دراستي للحالات وجدت أن معظم المعتقلين من الاقليم الشمالي وهم كانوا عناصر فاعلة في الحركة الاسلامية ، ولكن العدالة تتطلب ان ننظر الي مأساتهم بعمق أكثر وهذه الاسر فعلت الصواب عندما رفعت المذكرة الي جون قرنق ولم تخاطب الرئيس البشير الذي ذكر أنه لا يوجد معتقلين في السجون السودانية .
والان من يبكي علي قرنق .. بالتأكيد ليس سارة عيسي وحدها رغم ايماني ان الموت الذي نفر منه ملاقينا حتي ولو كنا في بروج مشيدة.. قبل قرنق مات الانبياء والرسل والقديسين ولكن مسيرة الحياة سوف تستمر .. وفي فلم سبارتكوس الذي انتجته هوليود في عام 1967 دار حوار بين البطل سبارتكوس ( كيرك دوغلاس ) وأحد أتباعه عندما طلب منه ان يصف الفرق بين موت السيد وعبده فقال :
"The slaves miss only their suffering and pains when they die , but the noble man has
a lot to lose due to death , they miss their luxuries and pleasure of life "
(( ان العبد يستريح من عبودية سيده عندما يموت ، ولكن السيد يفقد الكثير عندما يموت ، يفقد لذة الحياة ومباهجها ))
الا أن القاكم
سارة عيسي

[email protected]

للمزيد من االمقالات

للمزيد من هذه الاخبار للمزيد من هذه البيانات و المنشورات
الأخبار المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع


| اغانى سودانية | آراء حرة و مقالات | ارشيف الاخبار لعام 2004 | المنبر العام| دليل الخريجين | | مكتبة الراحل على المك | مواضيع توثيقية و متميزة | أرشيف المنبر العام للنصف الاول من عام 2005

الصفحة الرئيسية| دليل الاحباب |English Forum| مكتبة الاستاذ محمود محمد طه | مكتبة الراحل المقيم الاستاذ الخاتم عدلان | مواقع سودانية| اخر الاخبار| مكتبة الراحل مصطفى سيد احمد


Copyright 2000-2004
SudaneseOnline.Com All rights reserved