بصراحة : الحدث وردة الفعل والمستقبل !!
توفيق عبد الرحيم منصور (أبو مي)
الرباط : المملكة المغربية
كنت أشاهد من الرباط بالمغرب الشقيق (نشرة أخبار) تلفازنا التي أحرص على متابعتها يومياً .. سمعت الخبر الكارثة فقفزت فوراً من مكاني وهاتفت ابنتي في السودان طالباً منها عدم الذهاب لعملها غداً .. ثم كان الخبر التالي الذي أفرح البعض و مفاده أن الطائرة هبطت بسلام ، فأرسلت ابنتي رسالة هاتفية مفادها أنها ستذهب للعمل خاصة وأن عليها التزامات ، فهاتفتها مرة أخرى صائحاً لا تذهبي للعمل غداً ولا تستقلي أية سيارة كانت .. هذا وما تخوفت منه فقد وقع ، علماً بأنني لست برجل أمنٍ ولم أعمل يوماً ما في أية قوات نظامية ، وشعرت في لحظتها بأن الكل سيتصرف حسب المسؤوليات الواقعة على عاتقه وأن الأمر واضح وضوح الشمس .. وتيقنت لحظتها حتى بعد الخبر الثاني بأن دكتور جون قد لاقى ربه ، فلا يعقل أن تكون هناك طائرة رئاسية مفقودة طوال هذا الوقت ثم يقال بأنها هبطت بسلامٍ ، فنحن في زمن (تكنولوجيا الاتصالات) الجبارة والتي ترتبت عليها متغيرات كثيرة في عالمنا يجب أن تُضع في الاعتبار في تدبير وإدارة شؤون حياتنا ، فجميع من بالطائرة يحمل (لا شك في ذلك) ربما أكثر من هاتفٍ نقال ، وعندما تهبط الطائرة اضطراريا و بسلامٍ في أي مكانٍ في الأحراش أو في تلك المناطق الوعرة وهي طائرة تحمل نفراً متميزاً كان من البديهي أن يتصل بعض من سَلِم منهم من خلال الهواتف التي بحوزتهم ، والتي بعضها إن لم تكن جميعها ذات اتصالات دولية وعبر الأقمار الصناعية مباشرة .. إذن كان من الواضح بأن كارثة كبرى قد حلت ! .. وعليه لا أدري لمَ لم يهتم بعضنا بالخبر واستقراءات السويعات التي تلت الحدث بالطريقة التي تستحقها ؟! خاصة وأن بلادنا تمر بظروف سياسية ومعيشية واجتماعية وديمغرافية دقيقة جداً ..
علامات استفهام على زيارة كمبالا !!
أما إذا تركنا جانباً (الخبر الكارثة) وطريقة التعاطي معه نجد في الكفة الأخرى ما هو أكثر غرابة ويتمثل في الزيارة الخاطفة لدكتور جون ليوغندا .. فقد تعجبت كما الآلاف غيري لتلك الزيارة التي حتى وإن كانت خاصة فالأخبار لا شك تتناولها وتشير إليها (بالخاصة) ، وخاصة بالنسبة لشخصية مثل دكتور جون ومركزه الجديد الذي زاد لشخصيته قيمة إضافية .. فالمرء يعجب حقيقة لأمر هذه الزيارة ، وما زاد في حيرتي هو أنني وعلى المستوى الشخصي أعمل دوماً على تصيّد أخبار السودان من هنا وهناك عبر العالم ولدي اشتراكات لمدّي بكل صغيرة وكبيرة عن السودان فور وقوعها وبعضها استخباراتي ، ومع هذا لم أسمع بتلك الزيارة وإن كانت خاصة ، فالزيارة الخاصة من الممكن الإشارة إليها ولكنها تختلف من الرسمية في طريقة الاستقبال والتحرك والإقامة .. والسؤال الذي يطرح نفسه هل حقيقة السودان لم يكن على علمٍ بتلك الزيارة ؟! ومرد استغرابي ربما (لطبيعة الإدارة) في المؤسسة التي أعمل بها ، فحتى عندما يريد أحدنا أن يذهب في رحلة داخل المغرب عليه أن يبلغ قسم الشؤون الإدارية بمؤسستنا وهذا (فقط) لأجل العلم والمتابعة إن طرأ طارئ أو حدث أي مكروه للموظف لا قدر الله وليس من باب كشف الخصوصيات بل الحماية .. فالمرء يستغرب (إن صح ذلك) في كيفية أن يعبر ثاني أكبر مسؤولٍ في الدولة الحدود دون تبليغ أجهزة الدولة المعنية ليس لأخذ الإذن (إن كانت هناك حساسية في الأمر) ولكن لأجل الحماية أو النصح الأمني والمتابعة .. وحتى المقربون من الفقيد كان من الأجدى بهم أن يشيروا له بذاك الأمر إن أراد أن يذهب سراً ، لأن الفقيد قد زادت قيمته والآمال المعقودة عليه وبالتالي كَثُر أعداؤه وهذا من البديهيات لأن لكلٍ في عالم اليوم مصالحه المعقدة وتوجهاته ومستجداته المتغيرة دوماً مع وتيرة الحياة المتسارعة.. لا نتكلم هنا عن نظرية مؤامرة أو ما شابه ذلك لأن الموضة هذه الأيام أن يصيح أحدهم (أنا لا أؤمن بنظرية المؤامرة)! ولكننا نقول أن هناك الكثيرين ممن تغير حال قرنق في نظرهم وكذلك حال البلاد بعد السلام ولهم أجندتهم ورؤيتهم المستقبلية التي ربما تشكل خطراً على قائدٍ مثل دكتور جون .. كذلك الغريب في الأمر والذي يتمنى المرء أن لا يكون صحيحاً نسبة لاعتبارات كثيرة هو ما تناولته بعض الأخبار عبر ألنت من أن الكثيرين قد عرفوا بالخبر المؤسف قبل أهل الدار على المستوى الرسمي ومن هؤلاء الجنرال (سيمبويا) الذي يقال بأن الحركة أسرعت بتبليغه !!..
لِمَ لم ؟؟؟!!!
ورجوعاً للخبر الكارثي لدي كما لغيري تساؤلات شتى ومنها !.. لمَ لم تُعطل على ضوء الخبر أجهزة الدولة في اليوم المشؤوم ؟ ولمَ لم تُؤخذ الاحتياطات الواجبة تجاه المؤسسات الحساسة من بنوك ومرافق طاقة ومياه ؟ ولمَ لم تُؤخذ الاحتياطات اللازمة تجاه الأفران والصيدليات والأسواق الكبرى شعبية كانت أم غيرها ؟ .. ولمَ لم تُعلن حالة طوارئ حتى مع وجود (ثغرة دستورية) خطيرة تمنع إعلان حالة الطوارئ إلا بعد استشارة النائب الأول لرئيس الجمهورية (نتمنى أن يكون هناك مستقبلاً تفويض سلطات تشاورية استثنائية للنائب الثاني في حالة غياب الأول) .. كذلك فإن درجات الاستعداد العليا لحماية المواطنين والممتلكات في الأوقات العصيبة لا تحتاج في الكثير من دول العالم بما فيها أمريكا لإعلان حالة طوارئ .. و لِمَ لم نتوقع ما حصل وبلادنا وخاصة العاصمة تعج بالجياع والعطالة والمتعطلين والمتسكعين والمندسين وضعاف النفوس والساخطين ومن يمكن تحريكهم فيفعلون ما لا يدرون ، إضافة للبعض من أصحاب النفوس المريضة الذين شاهدوا أحداث نهب العراق وتاقت أنفسهم لفعل نفس الشيء في الخرطوم وقد كانوا في حالة تربصٍ ، هذا بالطبع زائداً على الشحنة المدمرة العاطفية التي كانت متوقعة في مثل هذه الحالات ..
الفقيد والأخطار من حوله ..
وقع القدر .. ولكن يجب علينا متابعة ودراسة كل الأخطار التي كانت تحوم حول الفقيد ، إضافة للأخطار التي كانت تحوم حول شخصيات أخرى لها علاقة وطيدة بالفقيد ، والتي ربما شكلت خطراً على حياة الفقيد أثناء تواجده معها ، وذلك لأجل أخذ الحيطة والحذر مستقبلاً ولكشف ملابسات الحادث بقدر الإمكان .. فبعد أن لاقى الفقيدُ ربه كثُرت سيناريوهات ما قد حصل ، و تعددت السيناريوهات حتى وصلت لرقم قياسي فاق أية سيناريوهات وُضعت لفقد شخصية مؤثرة عبر تاريخنا المعاصر .. فهناك من حمّل ما وقع لجيش الرب ، فجيش الرب هو العدو الأول لموسيفيني ! والفقيد هو صديق العمر لموسيفيني ! وجيش الرب له اختراقاته داخل أجهزة كثيرة حساسة في كمبالا ، ودكتور جون صرح قبل عدة أيام من زيارته (الخاصة) لكمبالا بأنه سيقضي نهائياً على جيش الرب المتواجد في جنوب السودان في خلال ثلاثة أشهر .. وجيش الرب له من يسانده داخل أمريكا وجيش الرب له من يسانده داخل إسرائيل .. وجيش الرب يريد أن يحكم بوصايا توراتية والفقيد علماني ويُعرف عنه بأنه لا يخوض في أمور الدين كثيراً ، كذلك لا ننسى بأن الفقيد ومع انجذابه التام نحو السلام وخارطته فإنه قد صافح رجال دين إسلامي وطرق صوفية في الخرطوم وهذا الأمر قد أزعج الكثيرين بمن فيهم جيش الرب إضافة لبعض المتزمتين في أمريكا وجهات أوروبية أخرى معلومة لدى الجميع .. هذا و نُذكّر هنا بتصريح (برندرقاست) (Prendergast) وهو أحد خبراء مجموعة معالجة الأزمات الدولية الذي أشار بأن جيش الرب سعيد برحيل عدوه وصديق عدوه دكتور جون وأن أفراد جيش الرب قد انتشوا بالخبر لدرجة أن أصيب بعضهم بالهستيريا وأن الخبر السعيد بالنسبة لهم سرى بينهم بسرعة البرق وأن جميع الأجهزة الاستخباراتية والتصنتية في المنطقة قد تابعت بدقة فرحة جيش الرب بهذا الحدث .. خلاصة القول هو أن التواجد مع موسيفيني لم يكن آمناً ..ولا حتى طائرته الرئاسية .. كذلك أسلوب الزيارة لم يحالفه التوفيق .. كذلك مسارات الطائرة لم تكن آمنة في تلك البقعة الملتهبة من أفريقيا .. وجيش الرب لديه الخبرات اللازمة في إسقاط الطائرات ولا شك في أن جيش الرب يتابع على وجه الخصوص الطائرات الرئاسية الكينية بكل أجهزة استخباراته ، وجيش الرب له استحكاماته العسكرية المتمركزة في الأحراش والعالي من الجبال وله خبرات حرب عصابات لا يستهان بها ..
وعموماً وإلى أن تكشف لنا الأيام (ربما) بعض الخبايا ستظل السيناريوهات موجهة نحو الأحوال الجوية السيئة ، وجيش الرب ، والخلافات الجنوبية-جنوبية ، وأسلوب الزيارة الغير موفق لكينيا ، والموساد ، وبعض الجهات الأمريكية ، وكذلك (مافيا) السلاح ومن لف حولها .. وهناك من ينسب الاتهام لكينيا نفسها على أساس أن لديها طومحات مستقبلية في جنوب السودان خاصة مع إمكاناته البترولية الهائلة ، إضافة إلى أن البعض في كينيا يحلم بدولة الأماتونج العظمى ، وهنا يجب التنويه بأنه ليس بالضرورة أن يكون لموسيفيني يداً فيما وقع ولكن ربما لغيره (من أتباعه) في كينيا ..
التداعيات المباشرة للحدث الزلزال ..
وقعت المأساة .. وصحبتها مأساة أخرى لا تتمثل فقط في خسارة الأرواح والممتلكات ولكن في الشرخ الأكبر داخل النفوس والذي يستوجب من كل محبي السلام ومن ثم الوحدة العمل على درء آثاره المستقبلية .. وقعت المأساة وتطرقنا بداية في ما ساعد من عوامل لإشعال النار التي لم تكن في حاجة لصب الزيت عليها .. وقعت المأساة ويقيننا أن هناك تقصير زاد لهول المصيبة .. وعليه يجب أن نواجه الأمر بصراحة وشجاعة حتى نستفيد من الدرس والعظة المستخلصة مما وقع .. ولكن هنا وكإضافة نقول بأن ما ساعد في الكارثة هو أن الكل كان في قمة النشوة لانتصارات البلاد في مجال السلام ، ولذلك شَكَّلَ فقد قرنق المفاجئ إحباطاً عظيماً داخل النفوس نتجت عنه شحنة عاطفية مدمرة ، وزاد إلى كل ذلك أن ما علق بالنفوس طيلة فترة الحرب ما بين الأخوة ما زال كما هو ، فالوقت لم يسعف الجميع لفعل شيء في إصلاح ما بالنفوس ، فرجل السلام لم نهنأ به إلا سويعات بخل علينا الزمان بزيادتها ولو قليلاً .. كذلك ساعد في تفجير الموقف غول الجوع والسخط والتهميش والتعطل والتسكع وكل آثار الحرب من نزوح وعدم الطمأنينة وموت الطموح والآمال في نفوس البعض وعدم الاستقرار إضافة إلى السيئ من البشر المدسوس ما بين الأمواج البشرية المنفعلة والتي أنساها هول الحدث أنفسها .. كل تلك العوامل كانت مثل النار في الهشيم مع إضافة مواد سريعة الاشتعال لذاك الهشيم .. هذا وبكل ما تقدم لا يمكن تحت أي حال أن تلام الحركة الشعبية وأجهزتها بما وقع من أحداث مرعبة .. فالحركة ما زالت في بداية طريق أنشطتها السلمية .. وعموماً فإن الخسارة الكبرى تمثلت في أن ردة الفعل للحدث دعمت فكرة الانفصال لدى الفريقين الجنوبي والشمالي وبشدة ، خاصة في اللحظات الأولى للتداعيات وعلينا مواجهة هذا الواقع وأن لا نكذب على أنفسنا أو نجامل بعضنا البعض ..
ما في النفوس يدعو للأسى !!
ختاماً أقول بأنه يتوجب علينا أن نواجه الكثير من الحقائق بصراحة وشجاعة .. وعلينا أن نعترف بأن ما علق بالنفوس منذ أكثر من نصف قرن ما زال عالقاً وذلك إن لم تزده الأحداث والأيام بعض المرارات الإضافية .. ومشهد الأحد الأسود هو نفس مشهد الاثنين الأسود إن لم يكن أسوأ منه ، وما حدث من تحرشات هنا وهناك خلال السنوات القريبة الماضية في الخرطوم وإن كانت طفيفة في شكلها مثل (حوادث الحركة) التي تفسرها النفوس المتعبة والمتحاملة وكأنها أمور عنصرية مضمرة لا شك لها آثارها السالبة ! .. كل تلك الأمور صغيرها وكبيرها إنما تمثل مؤشرات خطيرة لما تحمله نفوس الأخوة الفرقاء ، وهنا أتكلم عن النفوس وما بها وليس عن حجم الحدث هذا أو ذاك .. وأقول لا أحد يلام الآن فيما يخص خارطة السلام فعمر السلام والوئام سويعات ، ولكن الكل سيلام إن لم نسرع الخطى في إصلاح ذات البين وإصلاح النفوس .. وعلى الكل أن يعمل على (أولا) غسل ما بالنفوس ومن ثم جعل خيار الوحدة جاذباً ولا أقول بأنّ (جاذباً) هذه تقع فقط على عاتق أهل الشمال بل الشمال والجنوب لأننا إذا بدأنا نردد (جاذباً) وكأنها فقط لأهل الشمال فهذا الأمر سيكون بمثابة الابتزاز ولا نريد أن يبتز الأخ أخيه .. وعليه فأجهزة الدولة ومنظماتنا وأحزابنا وحكومتنا ومعارضتنا .. الكل .. الكل .. عليه الكثير من العمل الهام والمضني في الانتظار إن أردنا أن نكون (سوا سوا) أو حتى إن اخترنا الانفصال في شكل دولتين متحابتين ومتفاهمتين مستقبلاً .. والكل يدرك بأن الزمن نفسه هو زمن الاندماج وليس التفتت حتى على مستوى (الدكاكين) و الشركات ناهيك عن مستوى البلاد والأخوان !! أما الآن فالصورة واضحة أمامنا من خلال الكثير من الاستطلاعات والمتابعات بعد الحدث الزلزال ، فنسبة من يتوقون للانفصال من الجانبين تضاعفت لأرقام لا يمكن ذكرها خوفاً من الصدمة النفسية لنا جميعاً ، ولكن يبقى الأمل في أن نُصلح ما يمكن إصلاحه خاصة وأن الأيام تركض ركضاً .. وإلى لقاء في ذات الموضوع إن كان بالعمر بقية ..
توفيق عبد الرحيم منصور (أبو مي)
الرباط : المملكة المغربية
[email protected]