راهن النظام الحالي على أن الهالة الاعلامية الكبيرة التي أحاطت بماساة اقليم دارفور وما رافقها من ضغوط دولية انما جاء كنتاج للحملة الانتخابية الأميركية بين بوش وكيري, وذهب قادته الى أن هذه الحملة سرعان ما ستتلاشى بعد انتهاء الحملة الانتخابية وكما هو الحال دائما فقد أخطأ القوم في حساباتهم. وزاد الطين بلة أن النظام في الخرطوم اعتقد أن فوز المؤشح الجمهوري بوش سيكون كفيلا باغلاق هذا الملف الى الأبد وكنتيجة لذلك تساهلوا مع الجنجويد وغضوا الطرف تجاه جرائمهم ضد المواطنين من أهل دارفور. فالنظام يملك ذكريات أليمة مع الادارات الديمقرطية . وليس ضربة الشفاء في العشرين من أغسطس من العام 1998 م ببعيدة عنهم.

في بداياتها الأولى كانت سياسة الحكومة الحالية أو حتى تلك التي كانت قائمة قبل انشقاق الجبهة الاسلامية في رمضان المبارك قائمة على الاقصاء والاستئصال , فكان التعذيب والاعتقال والصالح العام , بالاضافة الى عدد من الشعارات التي لم تكن عند منظريها تساوي الحبر الذي كتبت به

والشيء المثير للضحك والسخرية أن هذه الثوابت التي كان تطبيق الشريعة ووحدة السودان في مقدمتها قد أصبحت وبقدرة قادر موضع أخذ ورد بل لقد تم التنازل عنها .

ومن الملاحظ أيضا أن الترابي وجناحه اتبع بعد تطليقه النظام نفس النهج المعروف عنه, فسارع تلميذه علي الحاج الى أوروبا للقاء الحركة الشعبية, الأمر الذي أثار غيرة الحكومة فاعتقلت شيخه وزعيمه, واليوم نجد الترابي يتحالف مع الصادق المهدي

ان درجة المراوغة لأفراد ها التنظيم عالية جدا , فغايتهم تبرر وسيلتهم. ففي الوثيقة الموقعة بين جناح الترابي والحركة الشعبية اعترف الترابي بالتعددية وبحق تقرير المصير , وهو الذي كان ينكر ذلك لمدة احدعشر عاما , وكنتاج طبيعي اعتقلت الحكومة الترابي ومن وصلت اليه يدها من افراد تنظيمه وسارعت الى مشاكوس لتوقيع اتفاقية تحوي على نفس الخطوط العريضة التي من اجلها تم اعتقال الترابي.

لقد كان الكتاب الأسود الذي تورط في اصداره مجموعة من قادة نظام الجبهة من جناح الشعبي على اثر انقلاب القصر الذي قاده البشير على حسن الترابي البداية الأولى لما يوحي بأن دارفور هي احدى النقاط الهامة التي قد يرتكز عليها الجناح الذي تم اقصاؤه لخلق الغلاغل والبلابل لأفراد النظام, غير أن هناك حقيقة لابد من ذكرها أيضا, ألا وهي أن دارفور قد تعرضت وخلال عقود من الزمان للتهميش والاهمال حالها في ذلك حال الغالب الأعم من أقاليم السودان, ولكن حالة التهميش هذه كانت قد بلغت منتهاها خلال حكم نظام الجبهة,حيث تخلت الدولة بالكامل عن التزاماتها تجاه مواطني دارفور , فانهار النظام التعليمي و الخدمات الصحية وتوقف صرف رواتب العاملين في قطاعات الدولة , وبطبيعة الحال انهار النظام الأمني وأصبحت عصابات النهب المسلح تجاهر بحرابتها للأجهزة الامنية في رابعة النهار دون وزاع من دين ولازاجر من سلطان. وتجرعت دارفور كؤوس الأسى, وتعرضت خيراتها على ندرتها وقلتها وسوء استغلالها للنهب والسرقة بواسطة رموز السلطة في الخرطوم, واستنزف مواطنو درافور وبلغ اجهادهم حد الكسر, بل حتى حصتهم التموينية من السكر كانت تنهب منهم بحجة انشاء طريق الانقاذ الغربي الذي لم يكتمل الى الآن.

وبطبيعة الحال سيكون من الممتع والشيق النظر في أيدولوجيات نظام الانقاذ قبل النظر فيما كان متوقعا منه فيما يختص بقضية درافور أو حتى الشرق. وكما هو معلوم فقد كان النظام قد انقسم على نفسه قبل اشتعال أحداث دارفور بعدة أعوام مابين شعبي بقيادة المنظر والقائد التاريخي حسن الترابي وما بين وطني بقيادة التلميذ الأنجب للترابي ألا وهو علي عثمان ومعه عمر البشير. ولقد كان لهذا الانقسام المهم في التاريخ السياسي للسودان ما بعده من نتائج أكثر أهمية منه على صعيد التعامل السياسي مع باقي الأحزاب السودانية. فعلى سبيل المثال لاالحصر انهارت العديد والعديد من شعارات النظام التي كانت سائدة منذ الثلاثين من يونيو 1989, ولم يكن ذلك الانهيار والتخلي عن تلك المباديء نتاج قناعات بقدر ما كان محاولة من جانبي الصراع لاستقطاب أكبر قدر ممكن من التنظيمات السياسية. وبلغ الصراع أشده بين الجانبين ونعت كل طرف الآخر بالخيانة والعمالة وانتهى الأمر بعدد كبير من جناح الشعبي الى السجون التي كثيرا ماأذاقوها أبناء الشعب. في خضم كل تلك المتغيرات التي ماجت بها بحور السياسة السودانية بدا من الواضح للجميع أن المفارقات كانت كبيرة بين شعارات النظام وتصريحات أفراده عن العدل والحرية والتكافل الاجتماعي وبين الواقع على الأرض لدرجة أن أي انسان كان يحاول المقاربة بأي صورة سيجد ان ذلك من المستحيلات.

وكان من نافلة القول الذهاب الى أن النظام لم يكن ليتخلى عن السلطة أو حتى ليفكر في ذلك , الأمر الذي زاد من تأزم الأمور واحتقان الوضع السياسي الى درجة كبيرة بدأت معالمها الأولى تظهر في دارفور, وامتدت واستفحلت حتى رفع أبناء الشرق ألسلاح اسوة باخوانهم وبني وطنهم الواحد في دارفور. وهنا لابد أن تستوقف القارئ الكريم نقطة هامة جدا, وهي أن النظام كان فاقدا للكوادر التي يمكن أن تدير مايعرف في السياسة بالأزمة, ففن ادارة الأزمات هو فن افتقده هذا النظام وقبله افتقده الوسط السياسي السوداني منذ رحيل الأستاذ المهندس محمد أحمد المحجوب رئيس الوزراء السابق أسكنه الله تعالى فسيح الجنان.

لقد حاول النظام أقصى جهده في بداية أزمة دارفور أن يصور المعارك في دارفور بأنها تدور بين جماعات من العرب الرحل الباحثين عن الكلأ و المرعى لمواشيهم وبين مجموعات من القبائل الأفريقية المستوطنة في القرى المجاورة لتلك المراعي, وبكلمات أخر, فقد حاول النظام أن يصور أن الصراع هو صراع قبلي على الموارد والمراعي. وهذا كان بالطبع جزء من المشكل ولكنه ليس كل المشكل, والحقيقة التي يجب أن تقال أن فشل الحكومة في دارفور هو فشل مركب من فشلين اثنين, وكلا هذين الفشلان يمكن أن يقسما الى قسمين. بحيث أن فشل الحكومة في ادارة استباقية لأزمة دارفور يمكن تقسيمه لقسمين وكذا نجد أيضا في مرحلة لاحقة أن فشل الحكومة في ادارة الأزمة يمكن تقسيمه أيضا الى طورين أولهما نتاج مباشر للثاني وثانيهما اسقاط مباشر للأول. غير أن البداية تكون هنا بالفشل الحكومي في منع تفاقم الأزمة, والبداية كانت بالخطأ المريع في تقييم الحكومة الحالية لكمية وحجم التوتر العرقي الذي كان سائدا في دارفور قبل اندلاع العمليات المسلحة بصورة موسعة. والتساهل الذي كان حاصلا تجاه الهجمات التي كانت تتعرض لها القرى, في ذلك التاريخ كانت الحكومة تنسب كل تلك الجرائم الى ظاهرة النهب المسلح, والمفارقة كانت أن عدد المقبوض عليهم والمحالين الى سوح العدالة بتهم تتعلق بالهجوم على القرى والبلدات يتقلص يوما اثر يوم على الرغم من تزايد الاعتداءات على المواطنين ,الشيء الذي قاد الى الفشل الثاني بأن يفقد مواطنو درافور الثقة في الحكومة وفي نظامها العدلي. في ذلك التاريخ بدأت الحركة الحركة الشعبية في مناوشة الحكومة على جبهات شمال بحر الغزال وجنوب دارفور أملا في تخفيف الضغط الكبير ورفع الروح المعنوية لقواتها التي كانت تتجرع مرارات الخسائر المتوالية في أقاصي الجنوب اثر الحملات الضخمة التي شنتها الحكومة والتي عرفت بحملات صيف العبور الأولى وصيف العبور الثانية. وكرد فعل مباشر على تصرف الحركة الشعبية بدأت الحكومة في تجنيد القبائل التي تواليها في اقليم دارفور ضمن صفوف ما عرف حينها بقوات الدفاع الشعبي والتي انبثقت منها في مرحلة تالية لاحقة العصابات المعروفة لدى الناس (بالجنجويد). كانت هذه هي البدايات الأولى للنزاع في اقليم دارفور الغربي,

وبينما الحكومة والحركة الشعبية تخطوان خطواتهما الأولى لتوقيع اتفاقية مشاكوس بين غازي صلاح الدين و سيلفا ميارديت النائب الأول رئيس الجمهورية حاليا ورئيس وزراء الجنوب. كانت نفس الحكومة في الجزء الغربي من البلاد تعمل آلتها العسكرية قتل وحرقا لاخماد نار بدأ شظاها يحرق أفراح السلام القادم من مشاكوس, وبدأ لهبها يتصاعد وتراه المنظومة الدولية ,وبدأت رائحتها تزكم أنوف منظمات حقوق الانسان.

كان باديا للعيان أن الحكومة تحاول اخفاء الأزمة, وكبح حركة حاملي السلاح حتى لايصل صوتهم الى الخارج , ولكنها فشلت في ذلك أذرع الفشل.

الغريب في الأمر أن الحكومة حتى في أولى تصريحاتها عن حاملي السلاح كانت تطلق عليهم صفة العصابات, وفي جولات المفاوضات الأولى كان أن الحكومة لا نعطي حاملي السلاح وزنهم الحقيقي. وقد أسهمت الحكومة بذلك في دحرجة جولات المفاوضات الأولى قبرها بسرعة كبيرة.

غير أن ما لا تستطع حكومة الجبهة أن تعيه هو أن أزمة دارفور وتبعاتها الحادة أمنيا واقتصاديا وانسانيا واجتماعيا قد أفرزت واقعا جديدا لابد من أن يتم فرضه بالقوة ان لزم الأمر, خصوصا بعد اتفاق سلام الجنوب. فمن الواضح جدا أنه لا المجتمع الدولي ولا الحركة الشعبية ولا أحزاب المعارضة الأخرى شمالية وجنوبية وغربية وشرقية ستقبل بأن تفرض الجبهة الاسلامية أيدولوجيتها وأجندتها السياسية . ان هناك وجوها بعينها مقصودة دون سواها ولابد لها أن تبرز الى سوح القصاص اذا أراد النظام أن يفكك نفسه سلميا.

ان المشكلة مع المجتمع الدولي وغيره من المنظمات العالمية وجميع من له علاقة بأزمة دارفور أوضح من الشمس في كبد السماء في يوم شديد القيظ. ان هناك وجوه داخل النظام معروفة معلومة عليها أن تزاح كبداية وبداية فقط لتفكيك النظام, لأن وجودها في مراكز القوى سيكون مصدر قلق للجميع .ويعجب المرء عندما يرى أن قادة النظام لايزالون يحاولون اطالة عمر نظامهم. هناك أشخاص لابد أن يسلموا وهم مطلوبون للعدالة في الداخل والخارج.

أن السياسة الخارجية المتبعة الآن ضد النظام توافق آمال فئة مقدرة وكبيرة من أبناء الشعب كانت حكومة الانقاذ قد اضطهدتها وضيقت عليها. ولذلك فان نقطة هامة تضاف الى كل ذلك ,ألا وهي تقاطع مصالح فئات كثيرة من أبناء الشعب مع المصالح العالمية المتعلقة بالدول الكبرى في اقصاء عدد كبيرمن أفراد هذا النظام كبداية لتفكيكه نهائيا.

ان حال النظام اليوم ينطبق عليه قول الشاعر العربي بن الجهم حين قال هاجيا أحدهم:

لم يبق منك سوى خيالك لامعا ** فوق الفراش ممهدا بوساد

فرِحت بمصرعك البرية كلها** من كان منهم موقنا بمعاد

كم مجلس لله قد عطلته***كي لايحدث فيه بالاسناد

ولكم مصابيح لنا أطفأتها** حتى يزول عن الطريق الهادي

ولكم كريمة معشر أرملتها**ومحدث أوثقت في الأقياد

ان الأسارى في السجون تفرجوا*** لما أتتك مواكب العواد

فذق الهوان مٌعَجلّا و مؤجلاّ** والله رب العرش بالمرصاد

ان الأزمة في السودان منذ الاستقلال هي أزمة حكم أولا وأخيرا,وقد أضحت الآن أزمة نظام لابد له أن يفكك نفسه بنفسه, فذلك خير له وخير لغيره. فحكومة الخرطوم برجالات الجبهة الاسلامية لامكان لها من الاعراب في الساحة الآن.