إبراهيم إدريس/ أبيدجان 11 أغسطس 2005
من يستمع للمحللين في الإذاعات الغربية و تحديداً في صوت أمريكا و الإذاعة البريطانية لمداخلاتهم، و تعليقات بعض زوى الخبرة للمرحلة التالية بعد رحيل القائد التاريخي دكتور جون قرن، خصوصاً في تركيزهم حول رؤية و خلفية القائد سيلفا كير التي وصفوها " بالانفصالية" يتأسف للطرح الإنصرافي للبعض منهم ، خصوصاً عندما يتابع سيل الأسئلة و التعليقات المحشوة ضمن الأخبار حول المرحلة الراهنة؛ لتعكير صفو المشهد السياسي وفرض دلالات عدائية ومسبقة لنتائج في علم " الغيب" أو المستقبل والممارسة القادمة المحكومة " بالسـتة أعوام "حسب نص اتفاقية السلام.
متناسين كليا طبيعة المشكلة وتطورها التاريخي وأبعاد الاتفاقية و تطور الحركة الشعبية لتحرير السودان ، التي لم يكن طرح الدكتور جون قرن إلا تعبير عن الوعي التنظيمي و السياسي للحركة وديناميكية الجدل للتيارات السياسية،التي لم يبخل ويخجل الدكتور في حياته من الإشارة إليها أو التنويه لها. وحتى أن لا يفهم حديثى هذا بالتحامل أو التفاؤل على بعض الآراء لصالح رأي مقابل رأي أخر. أطالب بشدة للوقف أمام المشهد الكلي ومراجعة و توضيح المقدمات التى قدمتها الحركة الشعبية وعبرت الاتفاقية عن الكثير من مضمونها.
قد أستوعب عملية الهلع للموت في حد ذاته وفقد قائد مثل ضخامة الدكتور لوزنه السياسي و الفكري والبعد الإيديولوجي الذي كان يمثله. وقد أقدر الفراغ الذي يتبعه تباعاً المسرح السياسي العام، خصوصاً لرحيل شخصية تجسدت فيها الروح " الكاريزمية" نظير تقدمه بالبرنامج للواقع السوداني والفضاء الإقليمى و الدولي الذي قابل الفكرة و الطرح من أول وهلة بالتساؤلات و الجدل والحذر بل الريبة حيناً و لا أستثني شخصي اللصيق بالتجربة السودانية. لكنه سيكون هناك إخلال كلي إذ افترضنا مرحلة تطور ونهاية الحركة مركزها وفعلها الدائم هو " الموقف الشخصي " للقائد الراحل المقيم د. جون قرن.
شخصياً لا أعرف شخصية القائد و المناضل سيلفا كير بقدر ما أعرف أراء كادر التنظيم المتقدم في إريتريا ممثل في شخصيات مثل المناضلين ياسر عرمان و باقان أموم و محمد سعيد بازرعة الذي يناضل الآن في صفوف حركة البجة" المؤتمر" وأخيراً ثلاثة لقاءات متكاملة للراحل دكتور جون قرن في مدينة واشنطن شرح في أهمها عملية الاختيارات للوحدة و الانفصال في رؤية عقلانية مدعومة بالمنطق والتحليل الجدلي ، وقراءة كتاب كامل عرض أفكار الحركة و برامجها وإجاباتها لمعظم الأسئلة التى طرحتها القضية، والمشاركة اللصيقة في لقاءات خاصة شارك فيها القائد جون قرن في مبنى الكونجرس الأمريكي و لقاءات تفاكريه للمجاميع الأمريكية السياسية الداعمة لمشروع السلام في السودان. إضافة لمتابعة شبه دائمة لنشاطات كادر تنظيم الحركة في مدينة واشنطن ضمن نشاطات التجمع الوطني الديمقراطي ولقاءات على المستوى الشخصي لعناصر جنوبية لصيقة ببرنامج الحركة وليس قائدها وحتى الجنوبيين الذين يختلفون مع فكر الحركة من موقف معادي لفكرة الوحدة كخيار رئيسي للحركة الشعبية.
في كل هذه اللقاءات و الحوارات لم اصل لقناعة تقودني لفهم نضال الحركة الشعبية كحركة انفصالية أو عنصرية بقدر ما علمتني التجربة أنني أمام تجربة نضالية متكاملة ورائدة ، خصوصاً الذين اختلفوا معه انفصلوا عن الحركة وحاربهم القائد "سيلفا كير" بجانب الحركة و قائدها؛ التي دوماً كانت تجدد من برامجها وفق مقتضيات الصراع الذي له طبيعة عامة تمثل الأزمة السياسية في السودان وقضية الجنوب التي تعتبرها كافة الفصائل السودانية هي قضيتهم و التي تجسدت في تجربة النضال المشترك للتجمع الوطني الديمقراطي وأخيراً الموقف المتتابع بعد مرحلة نيفاشا على المستوى الوطني والإقليمي و العالمي.
اليوم عندما أستمع لبعض المتحدثين و المحللين الذين تنطبق عليهم صفة العارفين والصقين بتجربة الحركة الشعبية و تركيزهم على " الصفة الانفصالية" للقائد سيلفا كير أتسأل بشدة ، هل حقيقة استمعوا للدكتور جون قرن جيداُ الذي طرح رؤية الحركة في واشنطن خصوصاً لفكرة البدائل النضالية للحركة الشعبية التي جاءت من ضمن نتائجها فقرة حق تقرير المصير.
هنا يجب أن أؤكد على أن القراءة التي توصلت لها من الحركة الشعبية وبرامجها ورؤية كوادرها لا تقل عن الرأي الذي يمكن أن يكون أحد نتائجه هو ممارسة عملية تقرير المصير و التي يمكن أن يكون من أحد نتائجها الموضوعية " عملية الانفصال" إذ تعثرت التجربة في ممارسة حق المواطنة والتنمية والعدل وتقسيم الثروة و الممارسة السياسية الديمقراطية.
لهذا كان يفترض من تابع موقف التنظيم أن يتريث في طرحه و تحليله، لكون التنظيم عقد اجتماعه فوراً واختار القائد سيلفا كير؛ في ظروف التهبت فيه العاصمة الخرطوم بتظاهرات وغضب دموي تغري إي قائد انفصالى أحمق لاستثماره فوراً لصالح برنامجه الإستراتيجى في تحقيق عملية الانفصال. بل استمعنا لنداء وطني من قبل القائد سيلفا كير يناشد فيه أولا أبناء جلدته ، أبناء الجنوب الذين وجدوا أنفسهم في أتون الفاجعة دون تفسير متكامل ، ليكونوا ضحية للرؤية الخاطئة و الموقف المعادي لفكرة الراحل القائد جون قرن ، الذي تخطى كل الصعاب ليصل الخرطوم لبناء صرح السلام. ألم يندهشوا ويتعلموا هؤلاء من الموقف الذي أعلنته القيادة من بعده رحيل القائد دكتور جون ؛بالالتزام بمشروع السلام شكلاً و موضوعاً.الملفت في موقف القائد الجديد أنه خاطب جماهير الشمال أيضاً ؛ إن لم يكن يدرك موقفه المتكامل تجاه قضية الوطن ؛ لكتفى بمخاطبته للجنوبيين فقط. مثل هذه الدلالات المسؤولة و البعيدة المدى في التفكير و الممارسة السياسية هي التى يجهلها المحللين في الغرب.
أكتب هذا المقالة وأنا استمع لتصريح القائد سيلفا كير عبر الإذاعة البريطانية ذاتها، بعد وصوله للخرطوم وهو يمارس عملية القسم و دوره القيادى على هدى وخطى توجهات الحركة الشعبية لتحرير السودان وبرنامجها. السؤال الحقيقي الذي يطرح نفسه في تغيب فكرة " الانفصال" هو فاعلية الموقف من تحقيق الاتفاقية والتمعن في مضمون القسم الشمولي الذي أكد عليه القائد المنتخب من تنظيمه.
أول القضايا التي يجب ينظر لها الكل ، هي قضية مشاريع التنمية التى تحدثت عنها الاتفاقية لأهل الجنوب و المناطق المهمشة. على المراقبين أن يسألوا بحق عن الدور الذي يمكن أن تلعبه الدول المانحة في دعم مشاريع الحركة الشعبية التنموية التي حدثنا عنها الدكتور جون قرن في بناء البنية التحتية المعدومة في الجنوب. و قضية تطوير التعليم و الصحة والخدمات الاجتماعية الاقتصادية الأساسية. بالرغم من أنني لست من الذين يعولوا على الدعم الخارجي ، لإيماني بأن من سيخدم الجنوب ، هم القوى السياسية السودانية و جماهيرها المسحوقين. يجب أن يكون موقف المراقبين و المحللين السياسيين الرئيسي، هو مراقبة دولهم في دعم برنامج الحركة الشعبية التي اختارت ممارسته جدلاً باختيار قيادتها في مواصلة عملية السلام. إن انفصال الجنوب وعدمه اليوم لن يحدده الفرد " القائد سيلفا كير" إنه خيار الصدق في ممارسة السلطة السياسية من كل الأطراف السودانية في تحقيق الاتفاقية و ملحقاتها السياسية و الاقتصادية و لا أظن هذا من مصلحة بعض من يدعون الفهم و الحرص على قضية السودان في المحافل الدولية و بعض المؤسسات و الهيئات التي ساهمت في تخريب مصالح الشعوب الأفريقية و مازالت. علينا التوضيح و العمل المسؤول بعيداً من الطرح الإنصرافي ، حيث ليس كل من تحدث من الغرب علينا سماعه وكأنه مصدر حق وصدق، علينا بالتحقق و معرفة الصديق من العدو ، كما وجب توضيح حقيقة بديهية كما هنالك أعداء أيضاً هناك أصدقاء ، فقط علينا التحرى و المعرفة ، فليدم السودان بين سلام عادل !