قبل عشرة سنوات من هذا التاريخ كتب د. شريف حرير (نائب رئيس التحالف الفيدرالى) مقالاً لمجلة مركز الدراسات السودانية بالقاهرة ، تحمل فى طياتها نفس العنوان ، وكان حريراتخذ من حالة المهندس داؤد بولاد نموذجاً منهجياً لدعم وجهة نظره فى التراجع القومى . فبولاد معروف بأنه من الرعيل الاول من الدارفوريين الذين نشأوا فى مدرسة الحركة الاسلامية ، وهى مدرسة ما إن يجتمع اثنان من اعضائها إلا ويبدؤن الكلام بقولة تعالى ((و إعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا )) والاخوة على هذا الأساس كانت تعتبر من أوشج العلاقات وأقواها التى تربط بين الاسلاميين فى كثير من شئون الحياة ، غير أن بولاد بحكم قربه من مراكز اتخاذ القرار اكتشف بان هنالك أشياء غير عادية تمارس باسم الدين والاخوة ، ولحل الاشكال لجأ إلى حمل السلاح ، واستعان بقبيلته الفور وبالجنوبيين الافارقة ، أى إنه أخلع جلباب القومية وارتدى جلباب الاثنية ، وشريف يعزو سبب تمرده الى انزعاجة وغضبه الشديد لما حدث لاهله الفور فى حربهم مع العرب فى منطقة جبل مرة . حيث وقفت معظم الحكومات الى جانب القبائل العربية ، وقامت بتسليحها ، وكان بولاد ينتظر من الحركة الاسلامية (الانقاذ) موقفاً واضحاً ومنصفاً من الاحداث ولكن ذالك لم يحدث . فاضطر الى حمل السلاح والعودة الى الاثنية .ومات بطولياً وكان موته يمكن ان يكون مدعاة للتاَمل والمراجعه ولكن المهوسين والمجانين لم يتركوا مجالاً لان اصواتهم كانت المسموعة .
فبعد وفاته بفترة انقسم الانقاذيون و لم يأخذ انقسامهم طابعاً فكرياً بل أخذ طابعاً جهوياً ثم أثنيا فقد انحازت النخب النيلية الى جانب القصر الرئاسى بينما انحازت النخب القادمة من الأطراف ((المهمشة )) إلى المنيشة - مقر الترابى -والبعض منهم لجأ الى اثنيته ، وكما ظهرت فى الهوامش قوى حديثة متمردة على كل شئ ومدعومة من الا ثنيات واهم ما يميزها انها استطاعت ان تكسر فحولة النيليين الفكرية ، وبدأت ترنو نحو السلطه والثروة .ولاخمادها استخدم النظام سلاح الاثنية ، وصار الامر اكثر تعقيداً خصوصاُ فى دارفور . وبدأ روح الجهوية و الاثنية يدب فى كل مفاصل الحياة السودانية . وفى وسط هذه الظلمة كان هنالك رجل حكيم ذو لحية بيضاء يمشى فى الدروب بخطى ثابته وراسخة وهو د. قرنق ، فالتزم بوقف اطلاق النار وواصل نيفاشا ، حتى جاء الى الخرطوم . وكان قرنق بأقواله وأفعاله ومظهره يمثل صورة السودانى الضائع هوية و الممزق بين الاثنية والقومية ، مع غلبة القومية لديه وهو ما جعله مؤهلا لقيادة سفينة الوطن نحو القومية والوحدة ،يبدو ان حظ السودان كان سيئاً للغاية فلقد فمات قبل ان تختمر أفكاره ، أو قبل ان يطبق بأشرافه الشخصى ، فموته أيضاً كان يمكن ان يكون و قفة للتأمل . ولكن نفس الاصوات هى الاعلى دائماً فى ، وقبل ان يوارى جثمانه عاد السودان الى مربع الاثنيات وبدأ الصراع فى الخرطوم وفى المدن الأخرى طابعاً اثنياً ، بين الجنوبيين الأفارقة والعرب الشماليين وهو صراع غير موفق وفى غير مكانه لأن معالجة الأمور بهذة الطريقة قد تحطم الروابط التاريخية والإجتماعية والجغرافية التى تربطنا جميعاً كسودانيين . أنا أعرف فى هذه الأحداث هنالك زغاوياً قتل لأن لونه يميل الى البياض (ان صح التعبير) وفى موقف اخر زغاوياً حافظ على ممتلكاته لانه اسود اللون .و هنالك اشخاصاً اغرقوهم فى النيل لانهم من الجنوب . نحن هنا بقدرما نحزن لشخص الذى قتل بسبب اللون ، فلانستطيع باية حال ان نفرح للذى نجا بللون والعكس صحيح وبهذا المنظور يجب ان نعمم الكارثه ونرفضها جميعاً لان فى الحرب الاثنيى او اللونى قد تختلط الالوان وهذا هو السودان ان رضينا ام ابينا . ومن حسن الحظ وجدنا اليوم كل القوى الوطنية ومنظمات المجتمع المدنى والفئات الشعبية على امتداد الوطن اتخذت موقفاً واضحاً وموحداً من الاحداث وهو استنكارها وعدم اشعالها او الاصطياد فيها وهو موقف مشرف . ولكن من العدالة نقول كنا نتمنى مشاهدة مثل هذه المواقف فى احداث دارفور ايضا . لان الوطن واحد بمركزه وباطرافه . فعندما نشاهد عمارة محترقة او سيارة ليلى علوى محروقة يجب ان يكون الشعور موحداًومتبادلأ مثلما شاهدنا فى مكان اخر قرية محترقة او حماراً محروقاً فى ذريبته ، لان الوطن واحد وعندما نسمع بان استاذاً جامعياً قتل فى شوارع الخرطوم لانه مشلخ ، يجب ان نتذكر مباشرة استاذة جامعية قتلت فى داخل الحرم الجامعى لاسباب اثنية . وعندما نتأثر على الجنوبيين الذين اغرقوا فى النيل ، يجب ان نبكى كثيراً على الطفل الذى خطفه الجنجويدى من حضن امه ورماه فى النار . فطالما الوطن واحد بأماله وجروحه يجب ان تكون نظرتنا لكل قضاياه شمولية ، فاما اذا حاولنا ان نجزئ قضايا الوطن ، نتعاطف ونتفاعل مع البعض ونغض الطرف وننفى بوقوع البعض فى اماكن اخرى ففى هذه الحالة سنرجع الى مربع الاثنيات و تنفتح الابواب امام المهووسين ، وحينئذ يظهر لنا الطيب مصطفى كقائد لكتائب العدالة لحماية الشماليين وممتلكاتهم كما يظن . ويبدأ القتال فى شوارع الخرطوم وكوستى وعطبرة وفى كل مكان ، وبعد تعب مضن وسنين عجاف نفكر فى الرجوع الى الوراء لنبحث عن الوفاق والوحدة والقومية ، ولكن بعد فوات الأوان ، بعد ان فقدنا كل شئ وفى مقدمتها الوطن ، والوطن هو الأم ، إذا فقدناه فلم ولن نجد له بديلأ .
شاكر عبدالرسول
امريكا - كنتاكى