أنا لست سياسيا وأمقت السياسة وذلك ببساطة لأننـي أخشـى ان أكتب عند الله كذابا ، فتعاطي السياسة أو بالأحـرى امتهانهـا لا يتأتـى أبدا إلا بالتسويف والمراوغة والتدليس والكذب والنفاق ( لا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا) الحديث. فأنـا لست ألا مواطن جـد عادي من رحم هذه الأمـة السودانية التـي روعهـا وأزهلهـا هـول الفاجعة التي حلت على الأمـة برحيـل القائد المناضل والعمود الفقري لعملية السلام الدكتور/ جـون قرنق ديمابيـور، وماصاحبها من تداعيات وأحداث دامية راح ضحيتها المئات من الموتى والجرحي وفظائع الإغتصاب وحرق وتدمير للممتلكات. وفي هـذا المقـام أعزي الأمـة السودانية قاطبـة حكومة وحركة شعبية وسائر الشعب السوداني على هذا المصاب الجلل كمـا أعـزي أسرته الكريمة بقيادة السيدة الفضلى القوية الصابرة رفيقة نضاله التي لا شك بأن لها دور كبير في تشكيل هذا القائد الجسورالسيدة المكلومة/ ربيكـا التي صدق فيها قول " وراء كل عظيم إمرأة". نسأل الله أن يصبرها ويبارك لها في أبنائها وبناتها وان يكون سائر الشعب السوداني عونا لها.
ولا يفوتني أيضا في هذا المقام ان اناشد وأنصح أخوتنا الجنوبييـن ( المواطنين العاديين أمثالي وأمثال ضحايا تسونامي العاصمة والمدن الأخرى) بالصبـر على هذه المصيبة وأن يجعلـوا من السيدة القوية/ ربيكا قـدوة لهم في الصبر والتحمل وكذلك قـادة الحركة الشعبية الذين اثبتوا أنهم قـدر المسئولية وان الدكتور/قرنق حيٌ لم يمت. كما وأرجو منهم بألا يجعلوا من أبناء الشمـال خصما لهـم ، فإن مشكلة الجنوب وكما هـو معلوم طيلة الخمسين عاما الماضية ، كانت حصرا بين الحكومات المختلفة وحركات التحرر الجنوبية ، ولم يكن لشعب الشمال يـد في تلك الحرب اللعينة ، فهـي حرب مفروضة على شعب الشمال وكان أبناؤه المغلوب على أمرهم وقودا لتلك الحرب كرها لا طوعا ، كما هو الحال بالنسبة للسواد الأعظم من أبناء الجنوب. فقضية الجنوب قضية سياسية بالدرجة الأولى وليست قضية إثنية أو دينية أو عرقية وارجـو ان تظل كذلك حيث ان تحويلها من مسارها الطبيعي الى منحا آخر سـوف تكون عواقبة وخيمة تقضي على الأخضر واليابس ويصبح السودان كله أطلالا ، ولنا في " تسونامي العاصمة المثلثة" خير مثال على ذلك رغما عن قصر مدته ، وبالتالي تموت القضية مع قائدها الملهم و يكون نضاله وعمره قد ضاعا سـدا ، كأن شيئا لم يكن. فهـل ترضون ان تكون نهاية وثمرة نضال أعظم ثائر عرفه التاريخ الحديث هكذا ويتحـــول نضال وجهــد هذا البطـــــل الى سراب؟؟؟؟؟ ( من من ثوار العالم الحديث استقبلته جموع من البشر تقدر بستة ملايين؟)
إخوتي في الجنوب ، إن اخوتكم في الشمال ظلوا متفهميـن لقضيتكم وداعميـن لهـا طيلة الخمسين عاما الماضية ، خاصة المهمشين منهم والذين تربو نسبتهم على 80% ، وكذلك معظم الأحزاب والذين يمثلون هذا الجزء من الشماليين ، كيف لا والتجمع بمختلف احزابه وكذلك حزب الأمة بزعامة الصادق المهدي وحركات الشرق والغرب ، هم الداعمون الأساسين
للحركة الشعبية في نضالها. أو ليس الدكتور/ منصور خالد المستشار والصديق الشخصي ورفيق درب الثائر المناضل الدكتور/ قرنق طيلة هذه المـدة (وكلنا يعرف وزن الدكتور/ منصور خالد ونفوذه ومكانته العالمية وعلى وجه الخصوص العالم الغربي ، سر نجاح القضية). الم يكن ياسر عرمان الناطق الرسمي بإسم الحركة الشعبية ولا يزال كذلك ، علاما أعتقد. ألم يكن الفقيد لا ينادي الميرغني بدون ان يسبق اسمه بكلمة مولانا؟ كيف تبررون ما حـدث في العاصمــة المثلثـة لهؤلاء الرفـــاق (دكتور/ منصور خالد ، ياسر عرمان ، الصادق المهدي ، محمد عثمان الميرغني ، فاروق أبو عيسى ، دكتور/ الواثق كمير …. الى آخر القائمة؟ وكذلك لشعب الشمال؟ وهل لو كان الزعيم الراحل على قيد الحياة يقبل بمثل هذا العمل؟ كلا ثم كلا.
إخوتي الجنوبيين ، اسمحوا لي أن اسوق لكم هذه القصة القصيرة والحقيقية والتي تعكس نبل واصالة الأعراف الجنوبية في التعامل مع ضعاف الناس من النساء والأطفال والشيوخ. هذه الواقعة حدثت منذ أكثر من ثلاثين عاما وكنت حينها في المرحلة الإبتدائية ولا زلت أتذكرها كأنها حدثت بالأمس. والقصة عبارة عن مشكلة بسيطة حدثت بين أحـد الأخوة الجنوبيين وأحـدى النساء المعروفات بالشراسة والشر. فما ان بدأت المشادة الكلامية بينهما حتى التقطت تلك المرأة عكاز ذلك الرجل وانهالت عليه ضربا مبرحا فما كان من ذلك الرجل الا ان هرب وهي تجري خلفه وتضربه ضربا يسمع صداه من مسافة بعيدة وهو يهرول وهي تجري خلفه وتستمر في ضربه الى ان سمعنا صوت إستنجاد من الجيران وعلى الفور خرج جميع أهل الحي رجالا ونساءا ونحن الأطفال نجري من خلفهم حتى لحقنا بهم في الوادي على بعد خمسة كيلومترات تقريبا ، فتم ايقاف تلك المرأة (والتي كانت تكفيها ضربة واحدة من ذلك الرجل القوي لتكون في خبر كان). وعندما قيل لذلك الرجل لماذا تجري من المرأة ولماذا لم توقفها عند حدها ؟ أتعرفون ماذا كــان رد ذلك الشخص الجنوبي؟ لقــد قال " ليس عيب ان أجري من إمرأة ولكن العيب ان أضربها". انتهت القصة. أنظروا الى ذلك السمو في الأخلاق والمروءة والشهامة ؟ ؟
الم تروا بالأمس القريب ان الحركة الشعبية برئاسة فقيد الأمة الدكتور /جون قرنق قـد أفـرجت عن مجموعة من الأسرى التي ظلت تأكل وتشرب لديها لعدة سنين؟ هل نسي هؤلاء الذين إرتكبوا جرائم العاصمة تلك الأعراف الجنوبية السمحة الحميدة النبيلة؟
كيف نبرر ظهور جثث النساء والأطفال والشيوخ من بين موتى الأحداث الدامية التي أعقبت وفاة الدكتور قرنق ؟
أخوتي الجنوبيينن الأعزاء كما ان فقد الراحل المقيم الدكتور/ جون قرنق هو فقد وخسارة للأمة السودانية بأسرها فهو أيضا فقد للأمم المتحدة ، مجموعة دول الأيقاد ، المجموعة الأوربية ، الإتحاد الأفريقي والولايات المتحدة الأمريكية. لذا أرجو إخوتي ان نكف عن زيادة الجراح بمزيد من التقتيل والتدمير ونركز جل جهدنا في كل ما يخدم تطبيق إتفاقية السلام بأسرع فرصة ممكنة.
كذلك لا يفوتني أيضا ان اعزي إخوتنا في الشمال الذين فقدوا أعزاء لهم خلال تلك الأحداث الدامية والمؤسفة ونتضرع جميعا الى الله ان يتغمدهم بواسع رحمته ويصبرهم وإيانا. كما وأناشدهم جميعا بألا يأخذوا ثأرهم بأيديهم خاصة وانهم لا يعرفون الفاعلون الحقيقيون. وعلى الحكومة تحمل ديات جميع المتوفييــن وتعويض الذين تعرضوا للخسائر المادية من حرق وسرقات وإغتصاب ، وذلك ببساطة لأن ما حـدث ماكان ليحدث لو ان الحكومة تصرفت بمسئولية وأعتبرت ان وفاة الدكتور/ جون قرنق وبتلك الطريقة التراجيدية، أعتبرته كارثة قومية وعلى ضوء ذلك تتخذ جميع الإحتياطات اللازمة وتأمين جميع مدن السودان خاصة العاصمة المثلثة ومدن الجنوب الكبرى وكذلك تأمين الحدود قبل تأكيد نبأ وفاتــه المفجعـــــــــة ( هل تعلمون لو كان هناك ما يشير الى ان للحكومة دور في تحطم الطائرة حتى ولو بنسبة ضئيلة جدا لكان من الممكن جدا حدوث تدخل أو بالأحرى غزو الخارجي ). هل وضع هذا الإحتمال في الحسبان؟
إن اعلان الحكومة للخبر وبتلك الطريقة الساذجة تذكرنا بالشخص الذي عـاد من اجازته التي قضاها بالبلد ليخبر أحد أبناء بلدته بخبر وفاة والده بالطريقة الدرامية المعروفة في أوساط السودانيين (طبعا لا يليق المقام لسردها هنا) .
إن اعلان الحكومة لخبر وفاة الزعيم بتلك الطريقة كأنهـا تريــد كعادتها ، من الشعب المغلوب على أمره ان يمتص تلك الثورة وذلك الغضب والهيجان المتوقع، نيابة عنها ، لأنه لا يعقل ان تكون الحكومة بتلك السذاجة ، خاصة وهي متخمة بالإستشاريين من الذين تنوء رقابهم وأكتافهم بالدبابير والنياشين والأنواط وكذلك حملة الدكتوراة والبروفيسورات الذين آثروا ان يقتاتوا من فتات موائد وحوليات المؤتمر الوطني بدلا من ان يسخروا علمهم في تطوير التعليم العالي وجامعاتنا التي أصبح معظم هيئات تدريسها من أنصاف العلماء الدخلاء على هذه المهنة السامية.
أو قـد تكون الحكومة تقصد بأن تقول للشعب السوداني بمختلف أطيافه " كما أكرهتموني على رفع حالة الطواريء فسوف أكرهكم على الإستنجاد بي لفرض حالة الطواريء من جديد"
وان لم يكن المبرر هذا ولا ذاك ونرجو ذلك، فعلى الحكومة ان تعترف بسذاجتها وعجزها عن إدارة الأزمات وبالتالي تستعين مع الحركة الشعبية بجميع الأحزاب والأطياف لتشكيل حكومة وطنية قوية قادرة للسير بإتفاقية السلام الى بر الأمان ، خاصة وان الإتفاقية سوف يكتنف تنفيذها الكثير من الأزمات أقلاها موضوع أبيي.
أو لربما أراد الله بتلك الأحداث مثلا للكتاب والسياسيين وأصحاب الرأي وعلماء الدين وعامة الناس في العاصمة " الذين بالكاد يتحدثون عن مشكلة دارفور، خاصة العلماء منهم ، وان اشاروا اليها فبإستحياء " ان يقرب لهم فداحة أحداث دارفور ، مع العلم ان أحداث الخرطوم لا تعتبر إلا قطرة في بحر مقارنة بأحداث دارفور؟ فهــلا افقتم من سباتكم العميق ؟
أخوتي الجنوبيين أن خير وسام تقدمونه لـفقيد الأمة في مثواه الأخير هو السير على خطاه والتضامن مع إخوتكم في الشمال والحكومة والحركة الشعبية وسائر الأحزاب الأخرى لتطبيق اتفاقية السلام وفي أسرع وقت ممكن حتى يخلـد في قبره هانئا مطمئنا ، وأيضا نثبت للسيدة القائدة الصابرة/ ربيكا (تستحق وسام السلام من الدرجة الأولى يصمم خصيصا لها ) اننا كجنوبيين وشماليين سوف لن نخذلها وسنطبق إتفاقية السلام كما يريدها الراحل المقيم وسوف لن ندع ماما ربيكا تبكي على فقيدنا الكبيرن وبالتالي ننعم جميعا بســودان جديد، ووطن سليم معافى من الكدر والدرن، سودان يتساوى فيه الجميع في الحقوق والواجبات وتكون فيه المواطنة أساس كل شيء والوحــدة هدفنــــا جميعا ، و لا شمال بلا جنوب ولا جنوب بلا شمال وكلنا أخوان ، وكلنا قرنق ، وكلنا سودانيين ، ولا يهمنا ان ننتمي الى هذه القبيلة أو تلك.
فهـل نستجيب جميعا لهـذا النداء؟
عبد الله عبد المنان – المملكة العربية السعودية