مشهد ثالث؛ إننا في السودان كالمريض يعاني من الداء الذي
يزداد عليه وهو طريح المستشفي العمومي لقصور في الدواء
والغذاء والغطاء ولا يجد الطبيب بد غير أن يرشد مرافق
المريض إلي أن يشري حاجة المريض من السوق.
إننا جميعا مسؤلون كشركاء ثلاثاء حكومة ومجتمع مدني
ومنظمات غير حكومية عما حدث لبلادنا وما وصلنا إليه من
حال، لكني قد قيدت نفسي بعنوان مقالي هذا أن أتناول دور
المنظمات غير الحكومية وهي شقان أحدهما تعمل في مجال
النهج المؤسس (Rights Based A broach) علي الحقوق
بتقديمها للخدمات الأساسية وأخري عاملة في مجال حقوق
الإنسان (Human Rights) تعمل علي تعزيز وحماية تلك
الحقوق من باب المراقبة والرصد وتنمية القدرات الوطنية
ورفع مستوي الوعي بحقوق الإنسان وسط فئات المجتمع كافة
دون تمييز بسبب اللون أو العرق أو الدين أو الجنس أو
الرأي السياسي. فإذا نجحت تلك المنظمات في تنفيذ أهدافها
تلك تكون قد قطعت شوطا بعيدا نحو دفع الدولة إلي احترام
وتعزيز حقوق الإنسان والمستفيد الأول هو الشعب، فأي دولة
/حكومة تحترم كرامة وقدر شعبها يتعزز حقها في وضع قوانين
عادلة تحدد عبرها موجهات عامة ورقابية تضع حدودا مقبولة
تحمي بها العادات والتقاليد والأعراف التي تشكل قيم
الشعب وتبين مناطق الخلل التي يجب أن تغطيها تلك
المنظمات وتضع شروطا فنية مقبولة تؤطر عمل المنظمة وفق
نظامها الأساسي الذي نالت به تسجيلها وتمنع المنظمات
المتطفلة التي لا تحترم قيم الشعب أو وجود السلطات
المحلية، وكما هو واجب علي كل شعب متحضر أن يقوم حكومته
ويحافظ عليها علي المنظمات أيضا أن ترصد وتراقب واجبات
والتزامات الأطراف في الدولة فهي تحمي الأفراد
والمجتمعات من ظلم السلطان كما تنبه الدولة لضرورة
القيام بدورها وتلفت انتباهها لمناطق الخلل لأن خطي
الإصلاح تبدأ بمن بيده السلطة وتتنزل لمنفذها والقائم
عليها والمنفذة عليها. لقد صدرت صكوك دولية وإقليمية
عديدة نظمت دور المدافعين عن حقوق الإنسان ووضعت للدول
معايير ملزمة يجب احترامها بشأن حماية وتعزيز حركة حماة
تلك الحقوق. وفي نفس الوقت أرست مبادئ يجب علي المدافعين
الالتزام بها كي لا يكونوا في نظر الدولة أو العامة هم
معارضون أو سياسيون وعندها يختل الميزان.
ما ذكرنا يكاد لا ينطبق في بلادنا فالمنظمات غير
الحكومية العاملة في مجال حقوق الإنسان في بلادنا وأنا
أدير واحد منها تعاني من مشكلات عديدة سياسية وقانونية
وأمنية وفنية تكاد تعصف بحركة حقوق الإنسان في السودان
ككل بل بالفعل حدت حركتها في أن تتجاوب مع الأحداث التي
جرت في مناطق لصراع والمناطق التي امتدت إليها آثاره.
فالمشكلة السياسية تتلخص في تبني الكثير من تلك المنظمات
اتجاهات سياسية لأحزاب وكيانات وحركات ارتبط نشاط
المنظمات للحد الذي لا تقرأ فيه سطرا من تقاريرها أو
بياناتها أو تعليقاتها إلا وتشتم بل وتلمس روح وأهداف
تلك الجهات، وعلي الرغم من ذلك تجد بعضا من هذه المنظمات
دعما ماديا ومعنويا كبير من منظمات دولية ووكالات أمم
متحدة وأحيانا من جهات رسمية وشعبية، أما المنظمات
المحايدة والقائمة فبعضها قد لا يجد أذنا صاغية ولا دعما
إلا هبة من السماء. ومن الأمثلة الكثير إذا لا حظنا بدقة
غياب منظمات وطنية كانت ملئ السمع والبصر عن القيام
بدورها الإغاثي والتنموي في ذات الوقت الذي قامت فيه
منظمات تعلن صراحة أنها تتلقي أموال من الدولة وتتبناها
شخصيات رسمية بل ظهرت في الفترة الأخيرة إلي سطح الأحداث
حرمات كبار المسئولين يتحدثن عن العمل التطوعي بلغة
جديدة وهو تحرك محمود لكنه كمسجد الضرار لم يبني أبداً
علي تقوي لأننا في الواقع نملك منظمات عريقة بكوادرها
المؤهلة لا تجد الدعم ولا أصحاب النفوذ ليقفوا بجانبها
فقط لنجدة الملهوف وعون الضعيف.
أما المشكلة القانونية فهي تحدث وللأسف رغم وجود قانون
ينظم العمل التطوعي الوطني والأجنبي بل توجد وزارة
للشئون الإنسانية ومفوضية للعمل التطوعي مختصة برقابة
المنظمات حمايتها وتعزيز حقوقها وتوجيهها فهي مماثلة لكل
الدول لكننا في السودان نجد منظمات عديد ارتضت بنفسها أن
تكون خارج إطار التسجيل الوطني وتعمل في وضح النهار بلا
رقيب أو حسيب وبأشكال عديدة فبعضها يعمل بأسماء ويصدر
تقاريره بأسماء أخري وبعضها بلا مكاتب ولا أصول ولا حتى
عنوان أو لافتات مثبتة علي مكان ظاهر والعجيب أن منظمات
من تلك الشاكلة تتلقي تمويلها ومن جهات دولية وإقليمية
ومحلية بما في ذلك الإتحاد الأوربي وبعض وكالات الأمم
المتحدة والمنظمات الدولية التي من واجبها تنظيم العمل
التطوعي وتطويعه لإصلاح حركة المجتمع المدني كافة لأنها
الأساس في بناء دولة يتمتع شعبها بالأسس الديمقراطية
لأنواع الممارسة كافة، "سأعود لهذا الموضوع إذا دعت
الضرورة لذكر أسماء بعض من تلك المنظمات والجهات الدولية
والإقليمية التي ترتكب تلك الأخطاء" إذن نحن بحاجة إلي
التزام قواعد الأخلاق ومبادئ العمل التطوعي المتعارف
عليها حتى نبني مجتمع مدني يؤمن بالقانون الذي ينظم في
الأصل علاقات المجتمع بعضه بعضا والدول.
أما المشكلة الأمنية فتتمثل في الموازنات أو القرارات
التي اتخذت علي الصعيد الأمني في التعامل مشكلات
المنظمات غير الحكومية والأمثلة لدينا كثيرة إذا ساهمت
المستويات التي تمت بشأن مدافعين أو منظمات أن ترفع من
قدر منظمات وتحط من قدر الأخريات حيث شهدنا منظمات غير
حكومية دولية وإقليمية ومحلية وقعت في أخطاء أمنية كبيرة
لكنها تجاوزتها بسبب تسويات أمنية سياسية مكنتها من
معاودة نشاطها دون أن تجد لرادع القانوني اللازم لها فكم
منظمة تم استدعائها والتحقيق معها في ظل وجود بينات
قانونية دامغة تثبت تورطها لكننا بين ليلة وضحاها نجدها
تتحرك ويسعى موظفيها بين الناس بلا حياء بل ونجدهم
يستمرون في دورهم السالب الذي قد يؤسس لانتهاك مقاصد
الأمم المتحدة المأمول احترامها وإعمالها من الجميع.
أما المسألة الفنية فهي تتلخص في أن بعض المنظمات وأخص
النشطة منها في مجال الرصد أن لا تضع اعتباراً لمبادئ
الرصد التي رسختها عمليات الأمم المتحدة في مجال حقوق
الإنسان والتي تناولناها بإسهاب في مقالنا للأسبوع
الماضي، بعض تلك المنظمات لا يضع اعتبارا لعادات وتقاليد
السكان المحليين ولا لأصول حماية وتعزيز حقوق الإنسان
التي تتطلب إدارة حوار فعال مع السلطات وتذكيرها الدائم
بأنها يجب عليها احترام ووفاء وحماية حقوق مواطنيها
أفراداً وجماعات إذ لا يعقل أن نسمع ونشاهد تقارير حول
حالات اغتصاب واعتداء علي العروض كان بالإمكان حلها
عرفيا حسب تقاليد سكان المنطقة أو وضعها أمام وسائل
الإنصاف المحلية أو الإقليمية أو الدولية عند استحالة
حلها، وعدم تحريكها والتشهير بالمتضررين عبر وسائل
الإعلام التي صدرت صكوك دولية حددت تعاملها مع قضايا
حقوق الإنسان وحثت المدافعين والمنظمات إلي الالتزام
بذلك، لأن الضرر الذي يمكن أن يخلفه التشهير بالمجني
عليهم في غياب الجانب قد تمتد أثاره النفسية لتضيف
للصراع أبعاد أخري غير محمودة، وهو ما وقع ويقع في
دارفور حالياً.
نواصل....