تحيته:
سلامُ الله يا فاشرْ سلامٌ ما له آخرْ
(Phashir( كانت سهلا خصبا مرجا ممتد ، صلح مرعى ومعوى حينا فضمها الصحراء وتعيش،
مدينة (أم المدائن) الفاشر ( أبو زكريا ) قرب كثبان رمالية من الشمال الغربي ومرتفعات (فشار )من الشرق وغابات صنوبرية من أشجار مناخ شبه الصحراء تمتد في الجنوب والجنوب الغربي ، جغرافيتها مثل حالة مدن وقرى الشطر الشمالي من إقليم دارفور - السودان القديم والحديث – كلما توغلت شمالا حتى حدود الإقليم وأم الدنيا (مصر) حيث عمق الصحراء ، والرمال عاشقة للقرى ومدن في هذا الجزء من دارفور كحالة قرى مدينة النخيل الغائصة في كثبانها العفر البهية كما وصفها محمد سعيد العباسي محييا:
حياك مليط ثوب العارض الغادي وجاد واديك ذو الجنات من وادي
كم جلوت لنا من منظر عجب يزجي الخلية ويروي غلة الصادي
كثباك العفر ما أبهى مناظره انس لذي وحشة زاد لمرتاد
لئن كانت مدينة ( نالا) ( Nhala) حاضرة الشطر الجنوبي من إقليم دارفور قد استحقت لقب ( زهرة المدائن) في غرب السودان لجمالها وبهائها فان مدينة الفاشر ( أبو زكريا ) تفردت بلقب ( أم المدائن) لأنها تمثل - حتى اليوم أقدم المدن التاريخية في السودان ، وقد سبق أن أطلقنا عليها في معرض رصدنا المستمر لمدن السودان التاريخية (العاصمة الحضارية للسودان) وذلك في ثورة إعادة تدوين تاريخ البلد شبه القارة.
فالسودان الوطن القارة إذا رغبت في معرفتها عن كثب تجده مجسد في إقليم دارفور ، باعتبار وجود الإقليم ديمغرافيا وسيلثقافيا في كل السودان بقدر اكبر من وجود بقية شبه القاره السودانية بتكاثف في كل أرجاء الإقليم .
ومن بين مدائن الإقليم العريقة وتأخذ أم المدائن (الفاشر ) مكانتها اللائقة بها على رأس قائمة المدائن التاريخية والحضارية .
كانت العاصمة السياسية لسلطنة الفور العظيمة التي تعرف عليها الزمان في أول القرن الحادي عشر الميلادي، مع اعتبار انتقال السلطة إليها جاءت في زمن متأخر . وأدارت المدينة دولة إسلامية عظيمة في إفريقيا ربطت بين المشرق العربي في عصره التنويري ، ودول غرب إفريقيا في ذهبيات عهدها ، فعرفتها : مملكة كانم برنو ، وحضارة الووداي وحضارة التمبكتو في السودان الغربي (مالي) . ودولة جلالة السلطان دان فوديو في نيجيريا . و مثلت الفاشر معبرا للحجيج الأفارقة من غرب القارة وهم في طريقهم إلى زيارة بيت الله الحرام في مكة المباركة.
في إقليم دارفور كل مدينة ريفية لها وشائج قربى بتاريخ ومكانة الاثنية التي تشكل غالبية سكانها ، والمدن كالقرى في هذا الإقليم السوداني، فهي اغنيات تروي حضارات الناس وعاداتهم وتقاليدهم ، وتعلق على أسوارها عناوين قيم الإنسان في تقديس الإله و احترام الآدمية . ويشاطرهم السكن فيها الصفات الإسلامية المباركة كالصدق والإخلاص في النيات و السلوك ، وحين تتلى على العالمين قائمة أخلاق شعب السودان في حسن المعشر يذكرون في توقيع اللائحة أن مصدرها هذا الإقليم شبه الدولة .
ومدينة الفاشر تميز حظها بين الأمصار أنها تجمع تلك المدائن والقرى في قالب ريفي يقترب إلى المدنية الحديثة فتخرجها للناس ، فهي حديقة القيم الإنسانية ،وعرين سماحة التعامل بين المسلمين ، ومجمع الأعراف و التقاليد الريفية في السودان.
ينشى الاولا د في أم المدائن على أنفة سلاطين الفور العظماء فلا يرضون بالتذلل إلا لله ، ويكبرون على كبرياء سكان المملكة العتيقة فليس من هم في مطاردة الدنيا ، فالدنيا هنا هي التي تجتهد في مطاردة الناس .
وكانت الفاشر المكان الذي استقر به أولا الطرق الصوفية بنقاوتها وصفائها في عبورها من المغرب الإفريقي إلى المشرق العربي ، ومع الطرق الروحية سبقتها وأعقبتها القراءت السبعة للقران الكريم والمذاهب الفقهية الأربعة ، وعلم الحديث وضورب اللغة العربية . مما يجعل من ( أبو زكريا) ضمن مدن تتقدم لتأخذ موضع الريادة الدينية لتعليم الإسلام الحنيف في القارة الإفريقية تنافس في ذلك (كانوا) و(ما يدقري ) في نيجيريا ،و تفوق ( كولخ) في السنغال و( فأس) في المغرب ، ولا تتأخر في شيء عن الأزهر الشريف في قاهرة المعز بأرض الكنانة .
فعلى ربوة من الجزء الشرقي من المدينة تأسس معهد العلمي على يد المرحوم عوض الله دفع الله يوسف بحي أطلقوا عليه (شوبا) تيمنا بالعاصمة الأولى للسلطنة وهي على مقربة من مدينة التيجانية المباركة بالحي الذي يحمل ذات الاسم . وان كان لمعهد عوض الله المرحوم مكانته في ريادة الفقه الإسلامي وعلوم العربية فان لمشيحة التيجانية تحت لواء عائلة المرحوم سيدى الريادة الكبرى في التدين الصوفي و أسرار الحياة الروحية لدى المسلمين السنة.
ففيها نبغ الراحل الشيخ مصطفى منقى الشاعر والمادح والصوفي الزاهد ، وفيها أشاع الشيخ الفاضل الشاعر والصوفي المتبتل ، وهو ابن الشيخ عوض الله دفع الله تربع على كرسي الفقه والعربية فجمع الفاضل إليه من علوم أبيه -عميد المعهد العلمي - القران و اللغة و صدق التدين وعاصر مصطفى منقى فنهل من غريضه ، وصاحب إبراهيم سيدي ، فسار علم على رأسه نار.
بينها وباريس
لقبوها بباريس في الليل ، مدينة يشيع منها النور والجمال ، يأخذك الطريق من قيادة وحدة مشاة الغربية العسكرية في الجزء الغربي من المدينة إلى وسطها مبهور بأنوارها المتلالاة في كل الجهات مثلما يأخذك الممر الضيق من (اورينو) إلى متحف قصر أللوفير وأنت تعبر الجسر على نهر السين في قلب باريس .
ووصفوها بالتضاريس في النهار، إذا يتوسطها ساحة ضحلة يحوطها المياه من كل جانب على طريقة قصور العرب الفخمة في اشبيلية أو غرناطة بيد أن تجمع مياه الأمطار الغزيرة في الخريف تحيل المكان إلى وحل طائن، فالمدينة تقوم على أعمدة من الصخر الرملي اغلب الظن أنها نتجت من عوامل نحت مستمر تعرضت لها الصخور الرسوبية في عصور جيولوجية مضت ، فصنعت منها جروف متباينة الارتفاع . و هكذا تحدثنا (50 قدم تحت البحر) من الآبار الجوفية في قلب المدينة فهي أبار استقامت على صخور صلبة فأخذت منها الاسم ( حجر قدوه) ، يفصل بين جروف الصخر الرملي وادي برزخي يبد سريانه من حي ( خور سيال) في الوسط الشمالي متخذا طريقه إلى البحيرة الطينية ثم يأخذ مسار أوسع إلى الجنوب الغربي لينتهي خارج المدينة ، صنعوا له جسر يفصل بين البحيرة والوادي.
ما أن ينتظم الشتاء حتى يتبارى الأهالي من سكان المدينة إلى ري بزور الخضر والبقوليات في مرج شديد الخضرة يقع بين حي (أولاد الريف) وامتداد أحياء (مكركا) إلى (المواشي).
وتعج بأم المدائن خليط مركب من السكان من شتى الأعراق ، ومن كل الأقاليم السودانية ويهدؤون في تناغم فريد المثال ، يجعل منها أمثولة التمازج بين الحضارة المحلية ذات البعد الإفريقي والثقافات التركمانية والمصرية والليبية الواردة منذ أمد و ذات الطابع العربي . لتعطينا خصوصية الفاشر أبو زكريا.
يتحدث الشعب في عاصمة سلطنة الفور اللغة العربية الإفريقية بلكنة أهل شمال دارفور ، وهي عبارة عن عربية مركبة بمصطلحات و تعابير محلية ، فهي هجينة التربية ، ركيكة المسمع لكنها سلسة الإيقاع ، مفككة لا تخضع لقوانين الإعراب كالتأنيث والتذكير لكنها عذبة ، إنها نتاج بيئي امتداد لغوي للهجين العربي في السودان الإفريقي.
حين تنشى في مدينة الفاشر ( أبو زكريا) فانك لن تجد الشعور الذي يجعلك تحي في أي مدينة أخرى في مدن شبه القارة السودانية الأخرى أو غيرها شعور لا يضاحيه إلا تلك التي يجدها السناريون النائيون عن مدينة سنار في الشرق السوداني . وحين تزور أم المدائن فقد لا تستطيع الإقامة بإحساس جميل بعد انتهاء فترتك دونما أن تخطط من جديد لتكرار الزيارة إليها والى أهلها .
المتحف كان قصر السلطان
وإرشاد للزوار. إن تكن سائحا ، فأول ما عليك القيام به وأنت تطع أرضها المبارك هو البدء بتقديم التحية إلى قصر السطان السابع والثلاثين في سلسلة سلاطين مملكة الفور العظيمة ، انه السلطان علي دينار باعتباره آخر السلاطين وزيارة مسجده الذي يرقد قرب دور العرض الكبير على النصف الغربي من المدينة .
وقصة القصر هي قصة المكان وهى شبيه بقصة القلعة التي تحولت إلى قصر ، تحول بدوره إلى متحف ، تلك قصة متحف اللوفير في عاصمة النور باريس .
ولقد شهد مكان قصر السلطان مرور الأباطرة والملوك والرؤساء والوزراء من شعب الفور وساهم كل من مر به ، بشكل أو بآخر ، في الإضافة إليه .
و يقع القصر في الجزء الغربي من مدينة ، يحده من الجنوب ( أولاد الريف) وهي عوائل ثرية من المستوطنين الحلب الذين عاشوا في كنف السلطنة ، خليط مركب من الأعراق المشرقية ، تمازجوا مع سكان المدينة الآخرين، كانت مساهمة سكانية في تكوين ( أبو زكريا ) انه أمر نلتزم فيه ما التزامنا بأرومة سلطاننا الشهيد علي دينار عليه رحمة الله.
من هذا القصر خرج السطان تيراب في القرن السابع عشر لزيارة مسبع ثم العروج قبالة النهر الأبيض في الشرق إلى ملمة الأنهر فسمى (سندي ) و( إلاّ نما تمن جا) فجاءت ( المتمة) ثم لم يعد السلطان الظافر وعاد إلي أم المدائن سطان جديد .
من هذا القصر خرج السلطان الشهيد إبراهيم قرض على رأس جنده في حملته التي لم يرجع منها ، وقد لاقى هول الترك وأشياعهم في ملحمة الاستشهاد في منواشي (1873م) ليلقى حتفه غدرا فكان في مثل وضع القائل فيه:
ولقد لاقيت الترك يا عازم وجيوشهم تضيق عنها البيد
تموج موج البحر إلا إنها لاقت اسود فوقهن حديد
فسطع عليه الدهر سطوة غادر والدهر يبخل تارة ويجود
كل الملوك في هذا الإقليم العجيب يلاقون أعداءهم وهم على رؤوس جيوشهم نتيجة معركة الموت المقدس أو الظفر، الهروب من المعركة كلمات غير موجودة في قواميس الملوك الشجاعان ، وعلى تاريخ مثل قرض وبحر الدين – مثالا لا حصر- ، يتربى الأجيال السودانية في معنى حب الوطن والموت في سبيله.
كانوا كقول القائل :
ملوكا سرير الغرب تحتهم فهل سالت سرير الشرق ما كانو
عاليين كشمس في سماء دولتهم في كل ناحية ملك وسلطان
من هذا القصر خرجت جيوش القادة العظام في حملات داخلية واسعة وخارجية :
الأمير المحارب حسب الله
القائد رمضان برة
القائد أبكر ود الشريف
القائد حميدان سلم
والقائد سالم أبو حواء البدي
والأمير هاشم بن إدريس حراب
كان ذلك القصر عظيما قبل أن يحث التراب على آخر ملوكها. ومن ذلك القصر كانت تخرج القوافل الدينارية المحملة بالذرة والشعير والفاكهة القوية إلى والهدايا الثمينة من سلطان إفريقيا المسلم إلى أمير مكة الحسين بن علي في أول القرن التاسع عشر . مصحوبة بقوافل حولية محملة بصرة الحرمين وكساء البيت الحرام.
تقليد القوافل امتداد لعرف سلطاني في مملكة الفور منذ أول زيارة قام بها السلطان سليمان العربي ( سولنغ) إلى الكعبة في القرن الخامس عشر الميلادي.
ومن ذلك القصر صدر أمر بحفر أبار جوفية تعين الحجيج وهم في طريقهم إلى زيارة قبر و مدينة الرسول الكريم من بيت الله الحرام في مكة المكرمة ، أسموها (أبار علي) ، ويحفظ ذكرها للرجل العظيم إن أضيف إليها عبارة ( أبار علي دينار).
استقبل هذا القصر العظيم الوفود الرفيعة من مملكة كانم برنو من قلب إفريقيا في التاريخ المحفوظ قريبا ، ووصلها من مدينة (مايدوقري ) الدينية في نيجريا وفد من طلبة العلم والفقهاء ، كما استقبل القصر سفارات دبلماسية من جلالة ملك تمبكتو في السودان الغربي (مالي)، ورجال من تونس وشمال إفريقيا. وكان حفاوة الاستقبال بقدر حفاوة استقبال وفود السطان العثماني القادمين من أستانة أو الحجيج الأزهريين الزائرين من ارض الكنانة.
ولمثل أم المدائن (أبو زكريا) تشد الرحال في إفريقيا ، والى قصر السطان المظفر الذي سار متحفا يضم مقتنيات السلطنة ، في الوقت الذي حيينا فيه لخوض الثورة بدأت الزمن في إعادة بث الروح في مفهوم جميع التحف الفنية من ألبسة ومقاعد وأسرة ومواعين وأسلحة حربية . تلك من تحف القصر.
كان يحج إليه السياح من كل مكان قبل زمن الانحطاط ، حج وزيارة يقدر أهمتها شعور المسلم الذي يزور مكة المكرمة و بقدسية حجيج النصارى إلى قدس الأقداس في الشرق الأوسط
للبقاء أكثر في هذا القصر المتحفي نضطر نعود مرة أخرى إلى مدينة باريس لنمر بجنبات متحف قصر اللوفير حيث تسكن الحضارات وتقيم التماثيل من منتجات أمم الشرق والغرب وماضي فرنسا ، قصر يجسد مكانة الدولة الفرنسية ويزيد من مقدار شعبها لدى الشعوب الأخرى في حبها للفن والجمال وحفظها للتراث والحضارة ، مع أن المسافة كبيرة بين القصرين و الفرق اكبر في المحتوى لكن مكانة الذات الماضي والحاضر في النفوس الجماعية ومستوى تقديس تقاليد وتراث الأمم أشياء متساوية لدى كل شعوب الدنيا ، لا يجد الاحترام من يحتقر أصله وتراثه.
تحس وأنت تجوب زوايا قصر الشهيد علي دينار صوت السلطان في جنباته ، وتسمع أذان في المسجد المجاور للقصر على بعد فرسخين شمالا ، وتعيش حينا في المجلس السياسي كأنك تسمع مقترحات الأجاويد في مجلسهم العامر وتحس بحركة الغادين والرايحين من خدم القصر وحراسه فكأنما الملك لم يزل يعيش في القصر فقد مات الزمن وهو حي .
وبعد
إن مدينة بهذه العظمة والمقدار لا يمكن لها أن تبقى في زيل المدن تقودها مدن رزيلة هشة الثقافة والتكوين الاجتماعي ، ولا يجوز أن يحي شعبها غرباء في وطنهم يتذللون العطية ، فكان ذلك قصة الطلقة الحمراء التي انطلقت من جبال مرة و حق لها أن تنجب من يأخذ لها بحقها ويثار لتهميشها .
بنيت زرائب إنسانية لتضم المؤمنين الذين يسكنون قراها المحيطة بها بعد هجرات تظاهرت العامين ، و في محطات (أبو شوك) غرب المدينة ، و(خسار مريسة ) جنوب المدينة ، وحين زارها وزراء ومسئولين من الدول التي تملك ضمائر إنسانية حية لم يفرقوا بينهما ، فالمدينة ومنازلها في عصر الانحطاط الأخلاقي للحكام في الدولة تبدو لناظر من الأعلى امتداد لزرائب الموت البطيء في (أبو شوك ) و(خسار مريسة ) ، هذه الصورة جعلت السيد كولن باول يعتقد أن معسكرات النازحين تقع شرق المطار لا غربها.
تلك الحياة والفاشر حينما ننعى عنها ونغلو في متاهات الأزمنة ، ويظل صوت شرف الغريد لسان معبر عن دواخلنا من شوق و في بث تحياتنا وودادنا إلى أم المدائن مدينة الفاشر أبو زكريا.
.سلامُ الله يا فاشرْ سلامٌ ما له آخرْ
سلامٌ من لدي صبًّ بعيدٌ حظُّه عاثرْ
سلامٌ من أخ وجدٍ على كيد النوى صابرْ
سلامٌ ما بد فجرُ يسوق نوره الباهرْ
سلامٌ ما انثنى غصنٌ وغنى فوقه الطائرْ
سلامٌ ما جرى نسمٌ عليل بالشذى العاطرْ
سلامٌ أنت إنشادي ولحن المطربُ الشاعرْ
سلامٌ أنت أشواقي وحُبِّي المخلص الطاهرْ
سلامٌ يا رُبا روحي سلامٌ مجلسي العامرْ
سلامٌ ما سرى نجمُ يناجي جمعك السامرْ
__________________________________________________