يوهانس موسى فوك

دون تردد. كنتُ شديد الحماس عندما ابلغت من قبل القيادة العليا للحركة الشعبية لتحرير السودان، بالزهاب الى جبال النوبة، ورغم انها ليست اولى زياراتى الى المنطقة، الا انها كانت ذات وقع خاص فى نفسى لانها المرة الاولى ازور فيها بالتحديد مدينة "كاودا"، تلك القلعة الشامخة بدماء الابطال وبعزيمة رجالاً غظاماً، وذلك لحضور مؤتمر كل النوبة الثانى تحت شعار (معاً من اجل الوحدة والتنمية) والذى سيعقبه مؤتمر اخر لكل القبائل باقليم جنوب كردفان.

وصلنا كاودا فى الخامس من ابريل، ووجدنا كل شىء له مذاق خاص، حيث حشد الجموع لاستقبالنا، ولفت نظرى مجموعة من تلاميز المدرسة الابتدائية الذين انتظروا وصولنا بفارق الصبر، فضلا عن النساء والرجال الزين اندفعوا الينا بالتحايا والسلام. وفى الواقع كانت اراضى جبال النوبة عزراء، خالى تماما من مظاهر التنمية، والمبانى العصرية، ولا تختلف مع شقيقاتها فى الجنوب الا فى سلسلة جبالها المتماسكة. فى الوقت الذى يعيش شعبها على ما ينتجها الطبيعة، مستمدين قوتهم من مورالات الجيش الشعبى لتحرير السودان.

مؤتمر كل النوبة الثانى، الذى انعقد هذه المرة فى "اجواء احتفالية" بعد توقيع الاتفاقية الشاملة بين الحركة الشعبية لتحرير السودان والحكومة السودانية مؤخرا فى نيروبى، وبمقتضاها دخلت المنطقة مرحلة جديدة مما يتطلب ذلك اعادة ترتيب البيت النوبى من الداخل، وتوحيد الصفوف لمواجهة تحديات المرحلة المقبلة واجتيازها بامان. وقد اتضح لى من الترتيبات التى جرت اعدادها فى كاودا، ان الوحدة فى جبال النوبة هى ذات ثلاثة وجوة، ويتم تقسيمها بحزر شديد، فهى تعنى وحدة النوبة اولاً، ومن ثم وحدة القبائل التى تقطن اقليم جبال النوبة ، وبالتالى الوحدة السودانية.

وبحضور جموع غفير من ابناء النوبة الذين وفدوا من المدن السودانية المختلفة، واخرون من المقيمين فى بلاد المهجر (امريكا، كندا ، استراليا، يابان، هولندا، بريطانيا، كينيا، ليبيا) والذين تقدر اعدادهم بـ800 مشارك من مختلف الاجناس، افتتح القائد اسماعيل خميس جلاب ـ سكرتير اقليم جبال النوبة بالانابة ـ وقائد الجبهة الرابعة مشاة فى الجيش الشعبى لتحرير السودان، فعاليات مؤتمر كل النوبة الثانى والذى استغرق يومين، ولمناقشة المحاور المزكور ادناه:

1: الوحدة فى ظل التنوع

2: تقييم لاتفاقية السلام

3:العودة الطوعية

4:التنمية فى جبال النوبة

5:نظام الحكم المحلى فى جبال النوبة

6:قضايا الارض

7:التراث والثقافة النوبية

تم تقسيم المؤتمرون الى 14 مجموعة، وقد كنتُ ضمن المجموعة الثامنة التى يراسها الرفيق لازم ابراهيم والتى ناقشنا خلال جلساتها محور( الوحدة فى ظل التنوع) وقد كان لى شرف المشاركة الفعلية، بعد تكليفى من قبل المجموعة بالاجماع سكرتيرا لهم، كان ذلك بمثابة "اقدس حب" اتلقاه بين النوبة، ولا حرج من الاعتراف باننى كنتُ كسولاً فى ذلك الحين، ولكن، قمتُ بكامل واجبى دون تقصير.

وبعد المداولات الطويلة حول المحاور المطروحة، وبعد ان ناقش المؤتمرون، وعبر كل النوبة عن اراءهم بكل شفافية وجراة، توصل المؤتمرون الى التوصيات والقرارات التى من اهمها:

1: التامين على توصيات وقرارات مؤتمر كل النوبة الاول المنعقد بكاودا فى الفترة بين يوم 2 الى 5 ديسمبر من العام 2002.

2: التاييد والتامين التام على اتفاقية السلام الشامل الموقع فى نيفاشا بكينيا فى التاسع من شهر يناير 2005.

3: اتفاق النوبة حول مبادى السودان الجديد.

4: الابتعاد عن النعرات العنصرية والتناحر القبلى فى المنطقة، واشاغة المحبة والتسامح الدينى ، وحرية الاعتقاد.

5:محاربة الفقر بتشجيع الاستثمار وتوفير الخدمات الاساسية للفرد.

6: اقر المؤتمرون بان اراضى النوبة هى الاراضى والمناطق التى تقطنها قبائل النوبة عبر التاريخ الطويل والذى يعود الى ما قبل الممالك المسيحية، وبهذا الفهم فان النوبة هم السكان الاصليين لهذه المنطقة.

7: يوصى المؤتمرون بحصر كل الاراضى المنزوعة من الاهالى بغرض توزيعها كمشاريع عامة او خاصة والعمل على استرجاعها لاصحابها او التعويض عنها.

8: إعادة تسمية كل القبائل والمناطق والمظاهر الطبيعية والبشرية باسمائها الاصلية والغاء المسميات الغير مرتبطة بالجزور من الخرط الجديدة.

9: اكد المؤتمرون بان تكون اللغة الانجليزية هى لغة التدريس فى المراحل الدراسية المختلفة فى الاقليم، على ان تدرس اللغات المحليةكمادة فى المراحل الاولية.

وعلى انقاض مؤتمر كل النوبة الثانى، اقيم مؤتمر كل القبائل الاول، بكاودا فى الفترة بين 9 الى 11 ابريل 2005 ـ وكان الحدث منقطع النظير على مستوى السودان، حيث حضره كل القبائل باقليم جنوب كردفان بما فيهم القبائل العربية، ومن المشاهد المثير للتفاؤل، رفع راية السودان الجديد فى كل مكان، بل ان الوفود العربية التى قدمت بعضها من الخرطوم وبورتسودان كانت جاهزة باعلامها وهتافات المؤيدة للسودان الجديد، ويجدر التزكير ان كل القبائل العربية التى حضرت المؤتمر اعلنت انضمامها للحركة الشعبية لتحرير السودان، ليس ذلك وحسب، بل ان قيادات فى المؤتمر الوطنى وجهاز الامن من ابناء هذه القبائل قررت وبمحض ارادتهم الانضمام للجيش الشعبى لتحرير السودان.

وفى الحقيقة كانت سانحة المشاركة فى مؤتمر كل القبائل "لحظة غالية" بالنسبة للقبائل التى كانت تستخدمها المركز لضرب القبائل الاخرى، لاختبار سياسات الحركة الشعبية لتحرير السودان عن قرب وعلى ارض الواقع، وقد وجدوا بالفعل ما لم يجدوه فى الخرطوم ولو قليل، حيث كانت كل شىء فى كاودا تقرر بالاجماع، وبحرية مطلقة دون قيد.

وفى اليوم الختامى للمؤتمر دعينا جميعاً لزيار مركز الشهيد يوسف كوة مكى الثقافى بقرية لويرى، وقد كانت فرصتى لازور ضريح الشهيد، وعندما وصلنا هناك، سالتنى شابة من ابو جبيهة تدعى فطومة قائلة: فى الحقيقة تشوشنا لا نعرف من نصدق، من هم الشهداء الحقيقيين؟ ابتسمتُ اولاً ثم قلتُ لها:ان الشهادة فى الجيش الشعبى لتحرير السودان ليست من اجل الجنة، وانما شهادة للوطن. ولكن اخوتنا فى الطرف الاخر يموتون دفاعا عن الدين، ولزلك شهادتهم لله.

سهرنا الليل، فى حفل تابين الشهيد يوسف كوة مكى، وقد خاطبنا من اوسلو القائد عبدالعزيز ادم الحلو ـ سكرتير اقليم جبال النوبة ، مهنيئا المؤتمرون على نجاحهم فى التوصل الى قرارات من شانها ان تساهم فى استقرار الاقليم، ودعى الى وحدة الصف بين القبائل التى تسكن الاقليم منددا بالسياسات الضارة التى تصدر من المركز.

المصارعة. لا يمكن ان يجتمع كل قبائل النوبة دون ان يتصارعوا. ومن المشاهد المضحكة، مشاركة احد اصدقاء النوبة وهو امريكى الجنسية، يلغبه النوبة بـ( لغم) فى المصارعة، فى الجولة الاولى تمكن لغم من اسقاط احد المصارعين، فرفعه المشجعين وهو يلوح بعضلاته كما يفعل كبار المصارعين النوبة، ولكن فى جولة اخرى، اسقطه احد الصبيان حتى صام الجميع عن التصفيق، وفى كلمته قال للنوبة: "ان وحدتكم يسعد رجل واحد هو الشهيد يوسف كوة مكى...وقال عبارة واحدة من كل قلبه حينما استطرد قائلاً: لقد تعلمت شيئين منذ صغرى عن النوبة ....ولكن اليوم عندما عشت وسطكم تعلمت شىء واحد فقط هو ان النوبة اقوياء!.

ومن الاشياء التى ليست خافية لاحد، ان جبال النوبة نموذج فى كل شىء، فهى قبل كل شى نموزج للسودان الجديد، فاذا كانت السودان قارة مصغرة فان جبال النوبة "سودان مصغر" بها كل التعدد العرقى والثقافى والدينى، وقد تبين ذلك فى الحفل الافتتاحية للمؤتمر، حيث افتتح المؤتمر بصلاه من الكجور والمسيحية والاسلام.

ومن خلال مقارنتى لنشاط الحركة الشعبية فى الاقاليم الجنوبية الثلاثة من جهة، ومن جهة اخرى فى جبال النوبة، توصلتُ لقناعة مفادها ان النشاط السياسى للحركة فى الجبال اكثر نضجاً واكثر نمواً مقارنة بالجنوب. واعتقد اذا تحدثت هنا فى كاودا ولو بذلة لسان عن الدكتور جون قرنق دى مبيور بطريقة سلبية، بالتاكيد ستدفن حياً...رغم ان للنوبة ماخز جماً على الاتفاقية الشاملة التى وقعها الدكتور جون قرنق نفسه، تتمثل فى شعور النوبة بتجاهل الاتفاقية لرغبتهم الطامحة بان يقرروا مصيرهم عسوة بجنوب السودان، وعدم تضمين فى الاتفاقية نصاً يؤيد قرار النوبة بتسمية الاقليم باسم "جبال النوبة". ومن الاخلاق الحميدة التى تستمد جزورها من العادات والتقاليد الاحترام المطلق للقانون، حيث لم ارى منذ تواجدى فى كاودا اى عركة او شجار حتى بين الصغار، الكل ينظر الى اتجاه واحد، ويستحضرنى موقف ظريف مع احد قدامة الجيش الشعبى وهو رجل يقارب عمره الستين، وكان يرتدى ذياً عسكرياً، تقدم باتجاهنا فى الوقت الذى ننتظر فيه سائق السيارة التى تقلنا الى قرية "لويرى" والذى بدوره نذل ليشترى حاجته فى السوق، فسالنا الشايب عن المكان الذى يتجه اليه العربة، اخبره النقيب عثمان ان العربة ستتجه من هنا الى لويرى، ويا للصدفة كان المكان نفسه الذى ينوى الذهاب اليه فقال: يا سلام ..ساركب معكم!...قال له عثمان فى هدؤ تام: والله يا حاج العربية مليانة...وقف الحاج وهو يتمتم قائلا: هاى ..دة ياهو حركاتكم... نشاكل سوا ضد جلابة وبعدين لما يجى العربات تركبوه براكم!. ثم انصرف وتركنا فى الضحك.