لم يدهشني أسلوب الخطاب الذى صار يستخدمه السيد عمر حسن أحمد البشير في حملته الانتخابية التى يقوم فيها حالياً بدعوة الجماهير للإنخراط في حزبه "المؤتمر الوطني". فالخطاب المستخدم ليس جديداً على شكل الخطاب الذى تبنته الإنقاذ منذ تفريخها لنظامها الرأسمالي الطفيلي المغلف بادعاءات "التأصيل الثقافي"(!) وتشييد ما يسمى بـ "المشروع الحضاري".
لفت انتباهي تشديد السيد عمر البشير على مقاربة نظامه بالثورة المهدية التى أسست، وفق رأيه، نظاماً إسلامياً سعت الإنقاذ منذ انطلاقها الى تبنيه والسير به قدماً تحت مسمى "الثوابت". ادعى السيد عمر البشير أن الإنقاذ جاءت "استمرارية للمهدية" ومشروعها الإسلامي. سوف أتقبل هذه الفرضية التى يطرحها السيد عمر البشير، أي مقاربة المهدية بالإنقاذ، أساساً لمناقشة شكل الخطاب الانقاذوي.
أبدأ بالإشارة الى نوع من الخطاب التاريخي الذى سبق أن تبنته النخبة السودانية الحاكمة في القرنين الثامن - السابع قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام. فالخطاب الذى تبناه ملوك السودان الذين أسسوا الأسرة المصرية الخامسة والعشرين كان هو الآخر، مثله مثل خطاب الإنقاذ الحالي - مع فارق جوهري في الأسباب التى دفعت بالطرفين (ملوك نبتة وأهل الإنقاذ) تبني هذا الشكل المؤدلج للخطاب السياسي. حقيقة أن فراعنة الأسرة الخامسة والعشرين جذبتهم في المقام الأول لا ثقافة مصر المعاصرة لهم، وإنما تجلياتها الأكثر قدماً. وفي هذا لا اختلاف بين خطابهم وخطاب الإنقاذيين الذين لا يهمهم بحال تأسيس ثقافة إسلامية معاصرة بل يعضون بالنواجز على التمسك بتجليات الثقافة الإسلامية الأولى في القرن السابع الميلادي. مثل هذه "الرؤية التراثية" تمثل عودة الى "الثقافة العتيقة archaic"، وعادة ما ترتبط هذه الرؤية بفترات الانحطاط التى شهدتها ثقافات عديدة وحضارات ومدنيات مختلفة، عندما يوجه الطموح الى إعادة إحياء الأمجاد السالفة. لكن الأهم أن مثل هذه "الرؤية التراثية" لجأ الى تثبيتها، تاريخياً، أولئك الحكام من النخب الذين يحسون في أعماق اللاوعي بأن شرعيتهم ليست بالأمر اليقين. انهم يسعون الى تثبيت سلطتهم عن طريق التمسك بنموذج الملوك والحكام والقادة الكرزمائيين الذين لا يوجد أدنى تشكك في أهليتهم وشرعيتهم والذين اكتسبت سلطاتهم قانونيتها عبر الأيديولوجيا، أو الأساطير والتحدارات الشعبية. من هنا يمكن تفسير تطلع ملوك الأسرة الخامسة والعشرين، على سبيل المثال، لإعادة إحياء أشكال الفن المصري القديمة، والقيم اللغوية المصرية القديمة "الكلاسيكية"، وأسلوب أخلاقيات حكماء الأجيال السالفة وحوليات الملوك الفاتحين في الدولتين الوسطى والحديثة. عبر التشديد على غيرتهم على عبادة الآلهة الرسميين وعلى نصرة التقاليد، حاول ملوك الأسرة الخامسة والعشرين الايحاء بشرعية تطلعهم لفرض سيطرتهم على مصر. ولا أعتقد أن الأمر مختلف عن خطاب الإنقاذ الحالي. فخطاب الإنقاذ بعودته "للتراث بمفهومه العتيق" يحاول اضفاء شرعية على حكمه وذلك لاحساس أهله بعدم وجود أساس حقيقي لمثل تلك الشرعية؛ انهم، مثلهم مثل ملوك نبتة الذين تبنوا خطاباً كهذا لاضفاء قانونية على ما هو "غير شرعي" وأدلجته بحيث يبدو أمراً "شرعياً"، يحاولون بتقديم خطابهم الأيديولوجي القائم على تثبيت "عقل رجعوي"، البحث عن ستراتيجية تعينهم على البقاء والاستمرار في تثبيت دائم لنظامهم الرأسمالي الطفيلي الذى شيدوه على جثة سودان.
بادئاً ذي بدء لا بدَّ من استيعاب حقيقة أن وصول الدعاة الإسلاميين الى السودان كان قد بدأ مع تأسيس السلطنة الزرقاء بحاضرتها في سنار في بداية القرن السادس عشر. بالرجوع الى دراسة تطور الفكر الإسلامي في تلك الفترة تحديداً، أي بعد فقدان الأندلس، نجد أنه ارتبط بطور الانحطاط الذى ساد الثقافة العربية بدءاً من 1258 م. وكان العلامة ابن خلدون قد وصف حال الفقه فى تلك الفترة بقوله "وقف التقليد فى الأمصار عند هؤلاء الأربعة - مالك وأبو حنيفة والشافعي وابن حنبل، وسد الناس باب الخلاف وطرقه، فصرحوا بالعجز والاعواز وردوا الناس الى تقليدهم هؤلاء الأربعة كل بمن اختص به من المقلدين وحظروا أن يتداول تقليدهم لما فيه من تلاعب" (ابن خلدون- المقدمة). هكذا فإن الفكر حينها كان يتسم، إن جاز القول، بحالة من التخشب والذبول، بخاصة فى حقل الفقه، وبانقطاعه الى تقليدية مفقرة قادت الى الانغلاق والتعصب المذهبي، فسرها ابن خلدون بانعدام البيئة التى يتفاعل فيها الرأي والرأي الآخر. فالدعاة الذين قدموا الى مملكة الفونج فى القرن السادس عشر وما بعده كانوا يحملون لا "عقل فقه" وإنما "عقل رجعة" خلط فى رجعته لنموذجه المثالي، على حد تعبير العروي، بين مرجعية النص الديني ومرجعية النص التاريخى مضفياً القداسة على النص التاريخي. وفى هذا السياق عبر الباحث عثمان حسن عثمان، في رسالة ماجستير كتبها عن فكر الرجعة في عصر الفونج، عن حقيقة الفقه فى السلطنة الزرقاء بقوله "أن العقل الفقهى كفاعلية لم يعد له وجود فى عصر الانحطاط، اللهم إلا بعض الآليات مستخدمة بشكل مبتسر ومحور فى نطاق "عقل الرجعة" الذى مثل فاعلية متخفية فى ثياب الفقه. بالتالي كان من الطبيعي أن يذكر ود ضيف الله فى مستهل كتابه الطبقات بأن ما يستمده من أخبار عن الأصوليين بمنزلة اليقينية التى تفيد العلم بالشئ وتنفى عنه الشك والظن والوهم".
محق ولا شك عثمان ذلك أن هذا العقل متسربلاً بالفقه فرض أفقه على مملكة الفونج. واذا كانت مقولته الأساسية الاتجاه بكل ما يطرأ على المجتمع من مستجدات نحو الماضى النموذج بحيث يكون الجديد امتداداً آلياً للقديم ويكتسب معناه منه، هى الرؤية الحالية للسيد عمر البشير ومشروعه الحضاري الذى يتأسس على قاعدة تصورات ومبادئ تتعالى، كما يقول الطيب تيزينى، على التاريخ ولا تخضع لا للتطور ولا للنقد، فلا عجب أن تصل أزمة أمتنا السودانية فى القرن الحادي والعشرين تحت قيادة أهل الإنقاذ بهكذا مشروع الى نفق مظلم. يسعى خطاب الإنقاذ اليوم الى تأكيد فكرة سيد قطب القائلة بأن الإسلام وحدة عقيدة وسلوك، أنجز نموذجاً مثالياً من خلال إعادة بنائية لنواحي الحياة الأخلاقية والمادية ونظمها الاجتماعية، فى البيئة البدائية التى ظهر فيها. بالتالي ليس من ثمة شئ يعمل العقل على اكتشافه وإنما محض تأويل واتساق مع المبادئ فى التاريخ. إن أهل الإنقاذ يصرون، حفاظاً على مصالحهم الرأسمالية الطفيلية ومشروعهم السياسي الداعم لتلك المصالح فى المقام الأول، على تبرير سلوكياتهم باللجوء الى الخلط والدمج بين ميدان العلاقة بين الخالق والمخلوق وميدان العلاقات الاجتماعية واقفين حجر عثرة أمام تحرر الميدان الأخير من سلطة الأحكام الدينية وبالتالي نشؤ مجتمع مدني، الشرط المسبق لوحدة أمتنا السودانية...
إن تحليل خطاب الإنقاذيين يمكن وصفه بالنكوص. فالنكوص وفقاً لفرويد ينقسم الى ثلاثة أنواع : نكوص موقعي، ونكوص زمني، ونكوص شكلي. الحقيقة أن تطبيق مفهوم النكوص الزمني هو ما ينطبق على خطاب الإنقاذيين الذى يتميز بالعودة الى خطاب أكثر قدماً.. خطاب عتيق، كما وينطبق عليه كذلك مفهوم النكوص الشكلي حيث يحاول الخطاب الإنقاذي استبدال أساليب التعبير والتصوير المعتادة بأساليب عتيقة. كما ويتميز بالتماهي الذى هو عبارة عن عملية نفسية يتمثل الشخص بواسطتها أحد مظاهر أو خصائص أو صفات شخص آخر، ويتحول كلياً أو جزئياً تبعاً لنموذجه. المهدية كانت قد خاطبت اللاشعور الجمعي المتمثل في خبرات السلف الأقدمين، وأساليبه في التفكير والسلوك، وهى طرز عتيقة، هى الفطرة فينا نأتيها بصرف النظر عن الخير فيها أو المساوئ، وتكون بمثابة نكوص من جانب الأنا الشعوري الى الماضي السحيق. هكذا جاء الخطاب الرباني الذى خاطب به الثائر المهدي الذهنية السودانية الإسلامية التى نمت في عصر مملكة الفونج. فالذهنية أو العقلية كما يسميها ويقول عنها لويس غارديه، هى "الى حد كبير إنجاز إنساني، إنجاز بشري جماعي. وإذا أمكن الى حد ما اصطناع مزاج أو طبع، فإن تكّون ذهنية ما يكون أكثر مرونة. وهى إن لم تكن حرية كلية فذلك لأن التربية المستفادة قد أسهمت فيها الى حد كبير جداً". من هنا، في رأي غارديه، من الممكن ضمن نطاق ما رفضها وتعديلها. فهى لا يمكن وصفها بأنها وراثية بالمعنى الدقيق؛ وهى لا تغدو كذلك إلا بقدر ما تعاود التربية تعهد الإرث المستفاد معنوياً وأخلاقياً". بهذا المعنى يكون مفهوم الذهنية بوصفها انعكاساً لحياة الجماعة في كل فرد من الأفراد الذين يكونونها. من هنا يقول غارديه بأنها "تفترض مسبقاً الإنتماء الى جماعة، الى ثقافة، الى حضارة يتقبلها الفرد ويكون فخوراً بها في معظم الأحيان. إنها رؤية للعالم، وهى توجه السلوك اليومي. فهى في آن واحد منجز عقلي وتعبير عن الاحساس". وفق هذا المفهوم أقول بأن الذهنية التى ترعرعت مع عهد الفونج تميزت بنوع من التمسك بـ "الدين العتيق" الذى ظل حياً لا في الإسلام السوداني فحسب بل في الإسلام الشعبى على امتداد العالم الإسلامي. ويبدو أن الأمر يرتبط بشكل من "التعلق" الوجداني العاطفي، لا يبلغ هدفه في معظم الأحيان إلا من خلال كثير من العادات أو الشعوذات. بيد أن واقعها لم يوضع أبداً على بساط الشك، فعَّوض، داخل القلوب، عن كل انتكاسات الأزمنة وتعاستها. فهل هو تسليم انقيادي؟ لنقل أنه انتساب الى الأمر الإلهي "في السراء والضراء" "في الحلو والمر" على أمل القدوم المحتوم لأيام أفضل.
هكذا صرح السيد عمر البشير يوماً ما مخاطباً الذهنية "الرجعوية" القابعة في قاع العقل السوداني المعاصر، والحرب الأهلية في شطرنا الجنوبي على أشدها، أمام طلاب الثانوية العامة بعد أن اجتازوا الامتحانات وأكملوا التدريب العسكري القسرى المفروض عليهم وهم يتطلعون الى الانخراط فى الجامعات بأن .. "شبابنا لا يطمح الى الشهادات العلمية وإنما يسعى الى الشهادة فى سبيل الله! فالله ينظر سبعين مرة ليختار المجاهد، وينظر سبعين مرة أخرى ليختار الشهيد". لعمري أن ذلك إنما يجسد قمة "الانحطاط الفكري" الذى عرفه سلامة موسى بقوله "ان الانحطاط لم يعن فى القرون الوسطى سوى قصر الذهن البشرى على خدمة ما وراء الطبيعة ونشدان السعادة والهناء فى غير هذه الأرض". ويصر السيد البشير على ممارسة هذا النمط من الانحطاط الفكري تكتيكاً يواجه به قرار مجلس الأمن 1593 مستجيراً بالذهنية "الرجعوية" للاستشهاد في معركة "الفضيلة" و"السيادة" ضد المجتمع الدولي حماية لزبانيته من مجرمي الحرب. والبشير وأهل الإنقاذ أدرى بأن "الفضيلة" قد تهاوت منذ وصولهم الى سدة الحكم، وأن "السيادة" انتهكت منذ أن صارت حكومتهم تتبضع في سوق المبادرات، وتصر على التفاوض في أي مكان شريطة أن يكون خارج السودان، وتقبل بأن يشاركها السلطة في حكم السودان ويصدر لها التعليمات والتوجيهات آخرين شريطة ألا يكونوا سودانيين.
أقول بأن هذا النوع من الفكر الذى يفصح عنه السيد عمر البشير ويمارسه وغيره من أهل الإنقاذ، من أمثال الدكتورة الغبشاوي وطروحاتها الفجة وسط النساء الأميات الطيبات في كل فرصة تسنح لها في مناسبات العزاء وفي حلقات "وعظها" التلفزيونية، ليس سوى استمرار لفكر الرجعة الذى إرتبط بعصر الفونج وبلغ مداه بفعل الإحباط فى ظل العبودية الشاملة التى أقامها الاستعمار التركي المصري على البلاد وأحالها الى "سودان" بفهم قاصر لا تزال الذهنية العربية عموماً تتمثله. لن أخوض فى تاريخ السودان الحديث الذى يبدأ بحملات محمد على التى دشنت السودان بوصفه أرضاً مستباحة لتجارة الرق طالما أنه أرض سود، فهذا التاريخ رغم أنه قد قتل بحثاً ودراسة فانه لا يزال يحتاج منا لإعمال منهجية أكثر صلابة علمية تميط اللثام عن المسكوت عنه الكثير بعيداً عن أشكال التابو المختلفة التى تفرضها عقلية مصابة بانفصامية قاتلة مثل تلك التى يعبر عنها الدكتور عبدالوهاب الأفندي مشيراً الى زعيم سوداني في مقام الدكتور جون قرنق :" فلا يعقل مثلا ان يحكم شخص غير عربي بلدا غالبيته من العرب وهو لا يتحدث العربية، او ان يكون لبلد مسلم رئيس يكره الاسلام والمسلمين.." (خبث لا يليق لكونه يجافي الحقيقة). يتناسى الأفندي، أو يتجاهل عن عمد حقيقتين، الأولى أن السودان بلد ليس غالبيته من العرب بل من المستعربين، مع وجود قبائل عربية قد يكون هو من أعضائها لكنها قبائل يمكن وصفهم بـ "عرب السودان"، والثانية، أن أول ملك مسلم للسودان تم تنصيبه من قبل أهل السودان المسيحيين احتراماً للتقاليد والأعراف، معبرين بذلك عن أن الانتماء للسودان، لا لدين بعينه، هو معيار المواطنة الأوحد، مع الأخذ بالحسبان أن هذا الملك المسلم ما كان عربياً قحاً فقد كان "كنز الدولة" من أم دنقلاوية مسيحية العقيدة (شقيقة ملك المقرة) ومن أب نوبي مستعرب مسلم من قبيلة الكنوز.
أقول بأنه كما كان لا بدَّ من أن يعلن أهل السودان في نهاية القرن التاسع عشر، والذين صاروا يعرَّفون بلون بشرتهم السمراء عبيداً تستباح حريتهم، عن رفضهم العبودية الشاملة المفروضة عليهم من قبل الحكم التركي المصري، فاندلعت نيران الثورة الوطنية التحررية التى ما كان لها من طريق سوى الاحتماء برسالة تخاطب الذهنية السائدة والتى نمت وترعرعت منذ 1504؛ فإن هؤلاء السودانيين لا بدَّ أن يعلنون اليوم رفضهم للأفكار الرجعوية الجديدة التى تتجلى في خطاب الإنقاذيين والتى تحاول غرس نعرات عنصرية وخلق فتنة واحتراب تؤسس حالة من "الصوملة" تصب في مصلحة الطبقة الرأسمالية الطفيلية.
أعلن الثائر المهدي رسالته "بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدلله الولي الكريم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله التسليم، وبعد فمن العبد المفتقر الى الله محمد المهدى بن عبدالله الى أحبائي فى الله المؤمنين بالله وكتابه ... ثم تفضل الله علىَّ بالخلافة الكبرى، وأخبرني سيد الوجود (صلعم) بأني المهدي المنتظر وخلفني بالجلوس على كرسيه بحضرة الخلفاء والأقطاب، وأيدني الله بالملائكة والأولياء ... ثم أخبرني سيد الوجود (صلعم) بأن الله جعل لك المهدية علامة، وهى الخال على خدي الأيمن، وكذلك جعل لى علامة أخرى: تخرج تحت راية من نور، وتكون معي فى حالة الحرب يحملها عزرائيل فيثبت الله بها أصحابي وينزل الرعب فى قلوب أعدائي فلا يلقاني أحد بعداوة إلا خذله الله ... ثم قال لى النبي (صلعم) : إنك مخلوق من نور عنان قلبي ، فمن له سعادة صدقَّ بأني المهدي المنتظر ، ولكن الله جعل فى قلوب الذين يحبون الجاه النفاق فلا يصدقون حرصاً على جاههم ... والسلام عليكم".
هكذا أعلن قائد الثورة ضد التسلط التركي رسالته الربانية متوعداً باسم الله جميع من هم فى شكٍ من أمره. ما كان له من سبيل آخر للمروق على إمبراطورية جعلت من الدين غطاء لممارسات مثل التى استباحها محمد على فى السودان. ونجح الثائر المهدى فى خلق صحوة وطنية دكت أسس دولة الاستبداد التركى وقضت عليه، لكنه فى الآن نفسه أقام إطاراً تأسست عليه بعد وفاته دولة دينية أشد استبداداً كان ناتج الصراع بين النخب من أجل السلطة. قاد صراع السلطة بعد وفاة المهدي الى أن يسيطر الخليفة عبدالله التعايشى على السودان من 1885 حتى 1898 فارضاً سلطانه عليه إرهاباً باسم الدولة الدينية بادئاً بقتل جميع أقرباء المهدي الذين ادعوا أنهم "الأشراف" الأكثر جدارة بوراثة الدولة التى أسسها الثائر المهدى، وبفعل الفشل فى حل المشاكل السياسية والاقتصادية لجأ الخليفة الى إعلان الجهاد لنشر العقيدة بدلاً عن الالتفات الى توفير الاحتياجات الدنيوية لشعب أنهكه القتال وهده. ومن ثم ما كانت البنادق السريعة الطلقات ولا المدافع الحديثة التى حصدت الآلاف فى كررى هى عامل الهزيمة الوحيد.
وبعد الاستقلال يطل من جديد شبح الدولة الجهادية بدءاً من عام 1967 ليحقق دعاتها من الإنقاذيين الانقضاض على السلطة فى الثلاثين من يونيو 1989 بانقلاب عسكري أسود أدخل البلاد مجدداً فى حالة احتراب باسم الجهاد لكنه هذه المرة جهاداً ضد مشروع الأمة السودانوية نفسها ومستقبلها، جهاداً لفرض مشروع قروسطى تجاوزه الزمن باسم الأصالة والتأصيل. إن خطاب الإنقاذيين يعي حقيقة أن مصطلح "الأصالة" يرتبط في الذهنية السودانية بفكرة "نقاوة الأصل" ويحمل بالتالي شحنة وجدانية قوية. فللبشير الحق، كل الحق أن يحاول المقارنة بين نظامه والنظام القمعي الاستبدادي الذى فرضت الظروف حينها على الخليفة اتباعه، لكن البشير يمارس قدراً عالياً من النكوص والنرجسية في آن معاً حينما يدعي وجود تشابه بين "انقلابه العسكري" وبين الثورة المهدية.
إن خطاب الإنقاذيين يعبر عن درجة مبالغ فيها من النرجسية، فهو خطاب يعبر عن عدم النضوج المصاب به حملته ومريديه ومثبت نفسياً عند المرحلة الطفولية الأولى ويظل يدور حول نفسه فيضيق أفقه المعرفي مما يتسبب له في الكثير من الفشل. خطاب الإنقاذ عندما يستشعر هذا القصور الذاتي يحاول أن يتجنبه بالتنصل من المسئولية مكتفياً بأن يكون لنفسه دون الناس (المحاولات الأخيرة لمجموعة الإنقاذويين الإصلاحيين). وإذا كان علماء النفس يقسمون النرجسية الى نوعين – نرجسية أولية وأخرى ثانوية – فلا شك أن المتتبع لخطاب أهل الإنقاذ يتحسس بوضوح اصابته بالنوع الثاني فهو خطاب منفصم مقطوع عن أسباب التواصل بالآخر ويعيش داخل عالم شيده من الأوهام.
إن أيديولوجيا الإنقاذويين تتداعى عند التعرف عليها والاقتراب الشديد منها تداعياً كلياً، وإنها لتذكرني بما أورده دوبجانسكي في كتابه "علم الأحياء ومعنى الحياة" من قول باسترناك: "كل ذلك (الإشارة الى النظام الستاليني) لا يزال بعيداً عن التحقيق، لكن أنهر الدماء التى أسالها مجرد الحديث عنه لا يجعل الغاية حقيقة تبرر الوسيلة" ينطبق على المشروع الحضاري الأيديولوجي للإنقاذ. لم يجلب خطاب الإنقاذ، منذ أن فرض نفسه قسراً أيديولوجيا رسمية للدولة، للملايين من أبناء الأمة السودانية القتلى والمعذبين والمشوهين روحياً من ضحاياه سوى الخوف والقهر والمعارضة المكتومة والغم ولا شيء تقريباً من السعادة الإنسانية البسيطة.
ليس هنالك في أيديولوجيا الإنقاذ سوى ملاحظات عابرة لإقناع السوداني العاقل المرتاب بأن الحياة التى تكرَّس لخدمة شرذمة من الرأسماليين الطفيليين أفضل من الحياة المكرسة للمنفعة الذاتية المباشرة. وليس أمراً مسلماً دعوة السيد البشير ان "شبابنا لا يطمح الى الشهادات العلمية وإنما يسعى الى الشهادة فى سبيل الله! فالله ينظر سبعين مرة ليختار المجاهد، وينظر سبعين مرة أخرى ليختار الشهيد" التى تجعل أياً من شبابنا وكل منا يكرس، وربما يضحي بحياته من أجل مشروع رأسمالي طفيلي مغلف بيوتوبيا مستقبلية. وشبابنا لن يكونوا موجودين لمجرد المشاهدة، دعك عن المشاركة، في ذلك النعيم. محق دستويفسكى حين أعلن "لقد قاسيت لا لكي يخصب عذابي وشقائي الأرض لأجل توفيق شخص آخر. لا. أنني أرغب في أن أري بعيني رأسي الأسد والظبي يرقدان في سلام جنباً إلى جنب، والقتيل ينهض لحضن قاتليه".
يتبع...