أثار موقف الصين من قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1593 باحالة المشتبه في ارتكابهم فظائع ضد الانسانية في دارفورا جدلا واسعا في دوائر الحكم بالسودان ووسط دوائر قريبة من الحزب الحاكم كما تناولته اقلام كثيرة بالتحليل وقد صدر القرار المواطأ له بقرار اللجنة الدولية للتحقيق في جرائم دارفور في يوم الخميس 31 أبريل 2005م بموافقة 11عضوا وامتناع 4 أعضاء عن التصويت وهي الصين والولايات المتحدة و الجزائر والبرازيل ولم يرفض القرار اي عضو بالمجلس وبذلك يكون كل أعضاء مجلس الأمن الدولي قد أجمعوا علي ضرورة تقديم المشتبهين بارتكابهم جرائم ضد الانسانية في دارفور الي المحكمة الدولية.
وقد جاء رد الفعل الحكومي غاضبا ورافضا للقرار وصب قادة الحزب الحاكم وبعض وزراء الحكومة جام غضبهم علي مؤسسة مجلس الأمن ووصفوها بانها مرتهنة بالكامل للولايات المتحدة وحلفائها الغربيين كما اتهموا أعضائها أجمعين بانهم باعوا السودان نظير صفقات مع الولايات المتحدة الامريكية .
وفي وسط هذا الغضب نالت الصين حظها من الانتقاد المباشر وغير المباشر لعدم استخدامها حق النقض لاسقاط القرار الدولي. وكان أبرز هذه الانتقادات تلك التي وجهها د. نافع علي نافع وزير الحكم الاتحادي للصين وذلك في خطابه صباح الثلاثاء الموافق 7 أبريل 2005م في مدينة بورتسودان بمناسبة بدء العمل في الخط الناقل للكهرباء من سد مروي الي بورتسودان والذي تنفذه شركة هاربين الصينية حيث انتقد د. نافع الصين لعدم نقضها للقرار 1593 قائلا " ان الصين تملك القدرة والاسباب المنطقية لنقضه " وتسآل قائلا " ماذا تنتظر الصين لاستخدام حق النقض في مواجهة القرارات الظالمة التي تستهدف اصدقائها " لكن د. نافع وجه تحية للشعب الصيني ووصفه بصديق الشعب السوداني ( صحيفة الراي العام 6 أبريل 2005م )
ويبدو ان انتقاد المسوؤل السوداني الرفيع للصين لم يكن انتقادا غاضبا أملته ظروف صدور القرار فحسب بل كان رسالة متعمدة للجانب الصيني اذا ان د. نافع الذي ردد انتقاداته للصين أمام مسوؤلي شركة هاربين الصينية استأذن الحضور مرة اخري للتحدث باللغة الانجليزية مخاطبا ممثل الشركة الصينية طالبا منه " نقل رسالة للحكومة الصينية تحمل ذات الانتقادات" . وقال في تصريح بعد ذلك لمراسل صحيفة الرأي العام " ان حكومته كانت تطمع في ان تهزم الصين القرار باستخدام حق النقض وتشعر ان ذلك كان ميسورا لان القرار نفسه كان مهزوما نفسيا وغير متوازن و ان فرنسا التي تقدمت به تستحي من تبنيه ولذلك نري انه كان يسيرا علي الصين ان تهزم هذا القرار المهزوم أصلا " كما نلاحظ ان برلمانيا كبيرا مثل د. اسماعيل الحاج موسي قد استبق صدور قرار مجلس الامن رقم 1593 للتعليق علي قراره رقم 1564 ايضا حول الاوضاع في دارفور مشيرا الي امتناع الصين ايضا عن التصويت قائلا " ان الصين التي لديها مصالح نفطية في السودان قد تتضرر من توقيع عقوبات دولية علي السودان ...حتي هي لم تفعل سوي ان تمتنع عن التصويت بعد ان ظللت لاسابيع طويلة تهدد باستخدام حق النقض ولكنها لم تستخدمه كما توقعنا " واضاف " ان الامتناع عن التصويت في مثل هذه الحالة وبكل المقاييس موقف ضعيف ومتخاذل " بينما وجه مسوؤلون سابقون واعضاء ناشطون في الحركة الاسلامية في مقابلات في تلفزيون السودان انتقادات مماثلة للصين بسبب موقفها من قرار مجلس الامن الاخير حول دارفور وعدم استخدامها لحق النقض. وهكذا نستنتج ان قيادات الحركة الاسلامية في السودان وحلفائهم في السلطة كانوا يتوقعون ويطمعون في استخدام الصين حق النقض لاجهاض القرار.
وسنحاول في هذا المقال تسليط الضوء علي مواقف الصين تجاه النزاع الدامي والمحزن في دارفور لنتمكن في نهاية هذه المقال من الاجابة علي السؤال المحوري وهو لماذا لم تستخدم الصين حق النقض في مواجهة القرار الدولي .
الصين والأزمة في دارفور:
تابعت الصين كغيرها من الدول المعنية بالوضع في السودان وتطورات الوضع في دارفور وحرصت في البداية علي عكس وجهة النظر الرسمية للحكومة السودانية حول النزاع كما التزمت معظم اجهزة الاعلام الصينية بهذا الموقف لبعض الوقت ولكن سرعان ما وجد الاعلام الصيني والحكومة الصينية نفسهما جزء من الازمة وذلك عندما اختطف مسلحون في اقليم دارفور مهندسي شركة صينية تعمل في مجال حفر الابار في منطقة تبعد 80 كيلومترا من مدينة برام في غرب الصين في 13 مارس 2004م وقد استقبلت الصين المختطفين بعد اطلاق سراحهم في بكين استقبالا حافلا وحظيت عودتهم بتغطية اعلامية كثيفة وقد لاحظت انهم قد اشادوا بالمعاملة الحسنة التي وجدوها عند مختطفيهم كما ان متحدثين باسم الحركات المسلحة في دارفور قد ادلوا بتصريحات اشاروا فيها الي ان ما تم لم يكن عملية اختطاف وان قيادات هذه الحركة قد نقلت المهندسيين الصينيين معهم الي مكان آمن خوفا علي حياتهم.
ان التغطية الاعلامية الصينية الكثيفة التي صاحبت اختطاف واطلاق سراح المهندسين الصينيين قد جذبت انظار المؤسسات الاعلامية الصينية وربما المسؤليين الصينيين للازمة في دارفور ومنذ ذلك الوقت اخذت الازمة في دارفور تحظي بتغطية اعلامية كثيفة هذه المرة كان النقل من المصادر الاعلامية الغربية هو الغالب كما نقلت اجهزة الاعلام وجهات نظر متوازنة حول النزاع.
وامام اشتداد هذه الأزمة السياسية والاجتماعية والانسانية في دارفور وبدء عمليات القتل الواسعة وتدهور الوضع الأمني والانساني وبدء عمليات النزوح الجماعي التي رافقها كما هو معروف عمليات قتل واحراق للقري بدت الصين اكثر اهتماما بالازمة في دارفور حيث ادلي المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية الصينية بعدة تصريحات كما عبرت الصين عبر مسوؤليها في مناسبات وتواريخ مختلفة عن موقفها من الازمة كما نقلت رايها للمسوؤليين السودانيين الذين يزورون العاصمة بكين و ارسلت مبعوثها مرتين للسودان في الاونة الاخيرة للتباحث مع المسوؤليين السودانيين حول سبل تدارك وحل الازمة كان اخرها زيارة مساعد وزير الخارجية الصينLu Guozeng كمبعوث خاص للرئيس الصيني للسودان وذلك في أغسطس 2004م وفبراير 2005م وذلك لعرض وجهة نظر بلاده حول الوضع في دارفور .
ويتلخص الموقف الصيني حول أزمة دارفور في الآتي:
- الحكومة الصينية تعرب عن قلقها البالغ ازاء تدهور الاوضاع في دارفور وتطلب من الحكومة السودانية بذل جهود اضافية لوضع حد للازمة ومعاقبة الجماعات المنفلتة .
- علي الحكومة السودانية أن تبذل مزيدا من الجهود لحل النزاع سلميا .
- تولي الحكومة الصينية High Attention للوضع هناك وتدعم جهود الأمم المتحدة والاتحاد الافريقي والجامعة العربية لحل النزاع في أقرب وقت ممكن.
- علي الحكومة السودانية أن تظهر إرادة حقيقية وتبذل جهودا حقيقية لحل الأزمة في اقرب وقت ممكن.
- علي كل اطراف النزاع العمل علي وقف تدهور الاوضاع والتوصل الي حلول سلمية مقبولة .
- تعارض الصين اية عقوبات اقتصادية علي السودان وتعارض من حيث المبدأ سياسة فرض العقوبات الاقتصادية عند حل النزاعات الدولية كما انها لا تريد ان تتضرر مصالحها النفطية في السودان .
- وافقت الصين علي القرار 1556 بعد تعديله .
- ارسلت الصين اشارات واضحة بانها قد تؤيد اية ضغوط اقليمية أو دولية علي السودان لا تتضمن عقوبات نفطية إذا لم تظهر الحكومة السودانية إرادة حقيقية لحل مشاكل البلاد .
- منذ ديسمبر2004م بدأت الصين تشدد لهجتها قليلا ضد الحكومة السودانية حيث دعت الصين عند زيارة وزير الطاقة عوض الجاز لها في ديسمبر 2004م السودان " الي حل مشاكله الداخلية (in a proper way) علي حد تعبير المسوؤل الصيني وتحسين الأداء الاقتصادي والأمن الاجتماعي باسرع وقت ممكن .
- طالبت الصين في فبراير الماضي عبر وزير خارجيتها بحل الأزمة في دارفور عبر تكثيف الجهود المشتركة بين السودان والمجتمع الدولي بعيدا عن اسلوب ممارسة الضغوط وفرض العقوبات .كما عبر وزير الخارجية الصيني عن قلقه العميق حيال تدهور الاوضاع الإنسانية في دارفور .
- قدمت الصين مليون دولار امريكي مساعدات إنسانية لدارفور .
كما اشرنا سابقا الصين لم تعبر عن قلقها حيال الاوضاع الانسانية في دارفور ولم تطالب بمعاقبة الجماعات المنفلتة فحسب بل وعندما شعرت بجدية مجلس الامن لاتخاذ خطوات جادة تجاه الحكومة السودانية حول الوضع في دارفور ارسلت موفدها عدة مرات تستشعر الحكومة السودانية بالخطر المحدق اذا لم تفعل شيئا الان ونلاحظ ان وزيري خارجية البلدين قد تبادلا الحديث عبر الهاتف خلال الشهرين الاخرين اكثر من خمس مرات وقد نصحت الصين عبر قنواتها الدبلوماسية وعبر زيارات مبعوثها الخاص للسودان الحكومة السودانية بفعل شئ اي شئ قبل الطوفان الا ان المزاج العام في السودان لم يستبن النصح بينما استرخت الصفوة الحاكمة في السودان علي اعتقادها بان الصين بسبب مصالحها النفطية في السودان سوف تستخدم حق النقض لاجهاض اي محاولة للضفط علي الحكومة في الخرطوم وقد استراح الكثير من المسوؤلين لهذا الفهم الكسول واستمروا في تجاهلهم للازمة.
ولكن من اين جاء الايمان الراسخ لبعض المسوؤلين السودانيين مثل د. نافع علي نافع بان الصين سوف تستخدم حق النقض عندما تصل الازمة بينهم وبين مجلس الامن الي ذروتها المنطقية ؟ .
في الواقع ان اي باحث مبتدئ أو مراقب دبلوماسي جديد في المنطقة يسهل عليه ان يدرك عدم استخدام الصين حق النقض بهذه السهولة الا في قضايا تمس امنها الوطني مسا مباشرا مثل قضايا وحدة ترابها الوطني مثل تايوان او التدخل في شوؤنها الداخلية مثل حقوق الانسان او القرارات التي تنال من مصداقيتها في تعاملها مع الاقليات الصينية... كما ان الصين تميل الي اسلوب المساومات والحلول الوسطي مع زملائها في مجلس الامن وان مصالحها مع الغرب لا تقارن مع مصالحها في السودان هذا الي جانب انها دولة ايضا لها مسوؤلية اخلاقية في الدفاع عن السلم والاستقرار الدوليين وحل النزاعات. الا انه بيدو ان القنوات الرسمية السودانية ظلت تحمل للمسوؤلين السودانيين الذين يبدو عليهم الاندهاش الان معلومات اخري لا تستند علي قراءة صحيحة للسياسة الخارجية الصينية ولطبيعة العلاقات السودانية الصينية خلال الخمسة عشر عاما الاخيرة الامر الذي تفسره علامات الاستفهام التي ظهرت علي وجوه مسوؤلي الحكومة في الخرطوم .
وعلي كل حال امتنعت الصين عن التصويت وبذلك لم تعترض علي القرار الدولي ضد السودان .
لماذا لم تستخدم الصين حق النقض ؟
كما ذكرنا في سردنا السابق فان الصين حاولت ان تنصح اصدقائها في الحكومة السودلنية لتدارك ما يمكن تداركه ودعتها لاظهار ارادة حقيقية وبذل جهود ملموسة لحل الازمة في اقرب وقت ممكن وطلبت منها بالتحديد معاقبة الجماعات المنفلتة بل فيما يشبه الترجي ارسلت الصين مبعوثها الخاص للسودان مساعد وزير الخارجية الصيني في اغسطس 2004م وفبراير 2005م حاملا وجهة نظر بلاده ومحذرا مما هو آت لكن المسوؤلين السودانيين لم يفعلو شيئا لتدارك تبعات الازمة .
واشار باحثون صينيون مقربون من دوائر صنع القرار في الصين في حواري معهم الي ان بلادهم اوفت باستحقاقات العلاقة مع السودان وان المسوؤلين الصينيين اجتهدوا في نصح القادة السودانيين بضرورة وقف عمليات القتل وضبط الجماعات المنفلتة ودون ذلك فان الصين لن تستطيع ان تقف ضد ارادة المجتمع الدولي لانها ايضا تعتقد ان هناك جرائم ارتكبت في دارفور يجب معاقبة مرتكبيها مشيرين الي ان الصين مازالت علي استعداد لمساعدة الحكومة السودانية للبحث عن حل للازمة القائمة مع المجتمع الدولي .
وفي الواقع ان الحكومة السودانية التي وجه مسوؤلها انتقادات شديدة للصين قد وضعوا اصدقائهم في مأزق دبلوماسي حقيقي وبدوا كالذي يوثق يدي صاحبه ويقذف به في اليم ثم يطلب منه بلوغ الضفة الاخري من النهر. ولم يكن امام الصينيين ان يسبحوا ضد منطق الاشياء ليواجهوا عالما غاضبا مما حدث. ناهيك عن ان بكين ظلت تكرر ان هناك جرائم قد ارتكبت في دارفور. هذا بالاضافة الي ان الصين ليست دولة عادية فهي عضو مسوؤل في مجلس الامن تقع عليه مسوؤلية الحفاظ علي الامن والاستقرار والتاكد من ان معظم مواثيق الامم المتحدة مرعية وان السلطة الدولية مهما كان رأي الصين فيها حاضرة .
كما ان الصين حسب رأي احد باحثيها المرموقين لا تشعر بالذنب تجاه حكومة السودان لانها نصحت ولم تستبن الخرطوم النصح الا ضحي الغد .كما ان الباحثين الصينيين يستنكرون تركيز انتقاد بعض المسوؤليين السودانيين للصين في وقت وقفت دولة عربية اسلامية مثل الجزائر موقفا مشابها لموقف الصين دون ان تتعرض للانتقادات التي تعرضت لها بكين.
ان علي المسوؤلين السودانيين المندهشين من عدم استخدام الصين حق النقض ان يراجعوا مؤسساتهم التي لم ترصد مواقف الصين أو قراءاتها قراءة خاطئة . ودعوني في ختام هذا المقال اردد ما قاله استاذنا الكبير الدكتور بشير البكري حينما تطرق لهذا الموضوع في حلقتين .. الشرعية الدولية ودول العالم الثالث (2) المنشور في صحيفة الرأي العام في التاسع من أبريل الجاري " الإعتماد على الخارج دليل ضعف لا دليل قوة.. الدول التى تطبق قرارات مجلس الأمن عليها هى التى انعدمت فيها الإرادة السياسية.. لذلك علينا جميعاً ان نعيد النظر فيما نحن فيه وان نسعى لترتيب البيت من الداخل.. بالاعتماد فقط بعد الله على الشعب السودانى فهو الاقدر على ايجاد الحلول المناسبة وعلى اختيار الشخص المناسب لتحمل المسؤولية خاصة ونحن فى عصر الرجوع الى الشعوب "
د. جعفر كرار أحمد
دكتوراه في العلاقات السودانية الصينية
دراسات ما بعد الدكتوراه – سياسة الصين في الشرق الاوسط وشمال افريقيا