إلتقيته صدفة.. في المسافة الفاصلة بين النيل ومنزل أسرته بحي أبوروف.. أحمد سليمان (المحامي) بجلباب أبيض ولحية بيضاء وخمسة وثمانين عاماً لم تفعل فيه الكثير.. ذاكرة لا تَزال مُتّقدة قَادرة على إجتياز كل الإختبارات.. ونظرات قوية قادرة على الإقتحام الشرس.. قدرة يضبطها إحساسٌ حزينٌ بأن ليس هنالك مجالاً لمعارك جديدة.. فقد تساقط الخصوم والأصدقاء.. وتَبَاعَدَتَ المسافات.. وتمانعت الأرجل عن طيها.. فلم يعد متاحاً سوى سرير بصالون بمنزل لا تفصله عن النيل سوى العربات الراكضة على شارع الأسفلت تسابق الزمن.. وتتسابق عليه.. وكراسٍ بيضاء على حوشٍ واسعٍ.. يستقبل فيها أحمد سليمان (المحامي) الأهل والمَعارف.. بعد أنْ يكون المساء قد نَزَلَ ضَيْفَاً عليه..!! كانت رفيقة دربه نعيمة بابكر تبذل مجهوداً كبيراً حتى لا يتم الحوار.. قالت إنّ زوجها صريح أكثر مِمّا يجب وأنّ صراحته هذه كثيراً مَا كَانت تجر عليهم المشاكل.. بعد إقناع الحاجة نعيمة مجلة الخرطوم الجديدة بَادرته بسؤال؟:
ماذا بقي من مشاكسة وصدامية أحمد سليمان (المحامي) المعروفة؟
كنت لا أود الحديث للصحف.. فقد أصبحت لا أحب (الكلام الكتير) إلى أن قرأت ما قاله عني الصادق المهدي أخيراً.. رغم أنّه لم يذكر إسمي.. لكن كان من الواضح أنّه يقصدني عندما تحدّث عن المحامي المنشق عن حزبه والذي نسّق مع الأمريكان في الإنقلاب الأخير الذي جَاء بالإنقاذ! هذه ليست أول مرة يَتَحَرّش بي الصادق المهدي.. فقد تحرّش كثيراً وكنت لا أرد عليه.. فمن قبل كتبت عدة مقالات عن انتخابات الأمين العام للأمم المتحدة واقترحت أن يرشح الصادق المهدي لهذا المنصب.. فردّ عليّ مجموعة من الأنصار بإيحاء من الصادق المهدي، قالوا إنّ أحمد سليمان يريد التّخلُّص من الصادق المهدي (ليَتَمَتّع هو وحزبه على كيفهم بالبلد، نحن دايرين الصادق المهدي إقعد لينا هنا ويَصبح رئيس وزراء هنا)..!!
ألقى ببصره بعيداً ثم قال:
قبل حضوري إلى السودان من أمريكا، آخر خبر قرأته أنّ الرئيس كلينتون سيرشح لمنصب الأمين العام للأمم المتحدة، وكلينتون في رأيي أعظم رئيس مَرّ على أمريكا..!!
لماذا عدم الود بينك والصادق المهدي؟!
لا أعرف واللّه، أسأله هو! أنا رشّحته لتولي أكبر منصب في العالم..!!
كيف تطيحون به من السلطة في السودان وتُرشِّحونه بعد ذلك لقيادة العالم؟
منصب الأمين العام للأمم المتحدة يُنَاسبه جداً.
ألا يناسبه حكم السودان؟!
= كَرّرَ حديثه =
هذا المنصب الأممي يُناسبه جداً، من المُمكن أن تغطي تجربته الدولية على نواقصه في إدارة الداخل..!
(كان يَتَحدّث بهدوءٍ وبِنَفَسٍ واحدٍ، أحياناً يرفع حاجبيه الأبيضين، فتطل عينان صداميتان ولكن سرعان ما يعود إلى وقاره المشيخي)..!!
قلت له: (ما الذي يدهشك في واقعنا السِّياسي اليوم؟!
رغم كل شئ أنا مُتفائلٌ جداً بمستقبل السُّودان.. هنالك نواقصٌ وسلبياتٌ.. ولكن مَا تَمّ إنجازه كبيرٌ رغم الحديث عن (الفساد).
(حاولت مفاجأته باتهام متكرر)!
أحمد سليمان الإنقلابي الأول في السودان؟
هَذا الكَلام لَيسَ جَديداً.. والغريب أنّ مَنْ قَالَ هذا الكلام من المفترض أن يكون آخر من يتّهمني بذلك، ظلّ يُردِّد ذلك في كل مجلس حتى في الإذاعة، إنّه عبد الحليم شَنّان، نعم إسمه كذلك، قال إنّ أحد سليمان وراء أغلب الإنقلابات التي تمّت في السودان منذ 1959م.. الغريب أنّه وإثنان من أشقائه تَمّ ضبطهم جميعاً في محاولة إنقلابية.. الشيوعيون كذلك بعد خلافي مع عبد الخالق ظَلُّوا يُروِّجون أنّ (أحمد سليمان إنقلابي..أحمد سليمان إنقلابي)!!!
قلت: لكن هذا أمرٌ معروفٌ ومُوّثقٌ عبر مقالات ومواقف كان واضحاً أنّك مع التغيير الثوري الإنقلابي وعبد الخالق رافض لذلك؟!
ما يمكن أن يُقال كثير وما قيل أكثر.. لا أود أنْ أغرقك فيّ انا.. كلّما طالبت به أنْ نسقي الأحزاب من نفس الكأس الذي أذاقونا منه (داويني بالتي كانت هي الداء)..!!
إذن هذه هي النصيحة التي قَدّمتها للإسلاميين عندما انضممت إليهم.. نصحتهم كذلك بالإنقلاب على الديمقراطية الثالثة بعد خروجهم من حكومة الوفاق ومذكرة الجيش..!!
كنت أقول ذلك (عَلَنَاً) في كل مكان.. وهذه هي الصلة التي جمعتني بالرشيد الطاهر، والتي فيها بيت شعر آخر: (أحرامٌ على بلابله الدوح.. أحلالٌ على الطير من كل جنس)..!!
إذن أنت وراء انقلاب 69 بفقه (داويني)، وراء انقلاب 89 (بحرام على بلابل الدوح)؟!
الإنقلاب كان هو مذكرة الجيش التي قُدِّمت للقائد العام فتحي.. وأبدى فيها الصادق المهدي ضعفاً واضحاً، واتصل به حسن الترابي واتفق معه على الإنقلاب، ولكن الصادق تَردّد في ذلك.
أأنت "الوسيط"؟
لم أكن الوسيط ولكن أثرت على حسن الترابي ليقابله.. الصادق قال إنّني حضرت إليه أحرِّضه على الإنقلاب.. فاطمة أحمد إبراهيم في القاهرة قالت له لماذا لم تلق القبض على أحمد سليمان وهو يحرِّضك على الإنقلاب؟ الصادق سَكَتَ ولم يُجب!!
وأحمد سليمان نَاضَلَ مع الشيوعيين وجَاهَدَ مع الإسلاميين كيف يقرأ أوجه الـشبه بين الإثنين؟
رجع إلى الوراء وابتسم نصف إبتسامة ثم قال: (والله الجماعة ديل قريبين لبعض جداً).. هنالك تشابهٌ كبيرٌ بين عبد الخالق والترابي في الإدارة الحزبية.. تركيز السلطة في يد شخصية واحدة.. الشيوعيون يسمونها (الديمقراطية المركزية) والإسلاميون يقولون (الحاكمية لله).. كذلك لابُدّ من الولاء المطلق لسكرتير الحزب والأمين العام..!!
هل سقط عبد الخالق محجوب من الذاكرة؟!
عبد الخالق رجلٌ نظيفٌ (مافي كلام).. لا يُمكِن أن يُتّهم بفساد.. لكن لي تحفّظات عليه.. فهو إنطباعي ومزاجي.. وهذه خطرة على من بيده السلطة.. وكان (سِمِّيعَاً) وما أذن خير في كل الحالات
(الوشاية).. أهي التي أوقعت بينكما؟
بحماس
قال: جداً.. جداً.. غِيرَة البعض من علاقتي معه كانت السبب..!!
هل الترابي كان كذلك؟!
الترابي كان يحب ويكره علناً.. فَقد كَانَ يتعامل مع بعض الذين لا يحبهم (بِغِلظة).. عاتبته على ذلك.. كان يرد قائلاً: (ديل أنت ما بتعرفهم).. عبد الخالق كان كذلك أيضاً!!
أهنالك (قَسوة) في إدارتهما للحزبية؟
نعم هنالك قسوة.. عبد الخالق في لحظة واحدة فصل «12» قيادياً من الحزب..!!
إذا نجح إنقلاب 19 يوليو، مَاذا كُنت تتوقّع أول ما كان سيفعله عبد الخالق؟!
(رفع حَاجبيه بتلك الطريقة المُثيرة للإنتباه) ثم قال: (كان سيعدمني أول زول) ومعي بعض الشّخصيات مثل معاوية سورج وآخرين، (الشيوعيون كانوا صعبين جداً)!
عندما استمعت لخبر إعدام نميري لرفقائك السابقين ماذا كان وَقْعَ الخبر عَليك؟!
كان لابد أن يحدث ذلك فما حَدَثَ في بيت الضيافة كان شيئاً فظيعاً، (الجيش ما كان حيسكت)..!!
هل حزنت على عبد الخالق؟
(..........) حزنت جداً على الشفيع أحمد الشيخ.. الشفيع لم يكن على ود مع عبد الخالق وكان له تحفظات عليه خاصةً بعدما حدث لقاسم أمين.
هل كان قاسم أمين مُنافسَاً لعبد الخالق؟
عبد الخالق كان يخشاه جداً.. لأنّه كان - يقصد قاسم أمين - أكثر شخص مُناسب لمنصب سكرتير الحزب الشيوعي.
عندما تلتقي بجعفر نميري حالياً ماذا يدور بَينكما؟
كل الود، نحن كنا أصدقاء، أو بالأصح هو كان صديق شقيقي محمد أحمد الحاج سليمان.
ماذا غيّر الزمان في شخصية نميري؟!
= قالها بتحفظٍ =
(فَرَقت معاه شوية)..!
من جيلكم عبد الخالق مات مقتولاً.. والأزهري مسموماً.. المحجوب مات مكظوماً.. والترابي الآن مسجون.. والصادق المهدي يَتوقّع الإغتيال في كل لحظة.. لماذا هذه النهايات المأساوية للصفوة السياسية؟
لا أصدق أنّ الأزهري مات مسموماً.. المحجوب لم يكن مهموماً لقد كان معي في لندن فقد كنت سفيراً هنالك.
لقد كان مُتأثِّراً على سقوط الديمقراطية؟!
مَنْ قَال لك ذلك؟ لم يكن مُتأثِّراً.. كان يعلم أنّها السياسة..!!
بمُناسبة الصفوة كيف كانت علاقتك بمنصور خالد.. وأنتما أبناء جيران بأبي روف.. وعلى خلاف سياسي واسع في كل المراحل؟!
تجمعنا علاقة طيبة جداً، وصلات نسب.. كما أنّه تَدرّبَ معي في مكتبي عندما تَخرّجَ من الجامعة.
ماذا عن محمد إبراهيم نقد؟
أحسن من عبد الخالق.. هو ذكيٌّ جداً ومثقفٌ.
كيف تعلق على إختفائه؟!
هذا ليس منه.. من مكتب الحزب.. نقد معه أُناس جامدون.. أمثال التجاني الطيب وسليمان حامد.
ألم تُجرِّب الإختفاء؟
أنا محامٍ في السوق.. لم تكن لي فرصة للإختفاء.
هل إضطرّتك السياسة في يوم ما لاستخدام يدك؟
أنا لم أضرب ولكن ضربت (....)!!
متى حدث ذلك؟!
كنت داخلاً إلى مكتبي فهجم عليّ صلاح شقيق فاروق حمد الله.. وفاروق كان من أعز أصدقائي.. لم أستخدم يدي في السياسة!
= صمت فترة =
ثم قال وكأنّه يهمس (برضو أنا زول شر)
أين أخطأ أحمد سليمان؟!
في موقفي من عبد الخالق..!
كانت الإجابة "مفاجئة" قلت له:
ماذا قلت؟
قال: أقصد قبل فصلي من الحزب عندما كان صديقي وكنت واثقاً به، لم أكن أرى عيوبه بشكلٍ واضحٍ.. كنت أقلِّل من نواقصه.
قد يكون لأنه فصلك لذلك أصبحت تنظر لنواقصه بشكل أكبر؟!
صحيح.. بعد فصله لنا صحيت على حقيقته!!
على ماذا يتحسّر أحمد سليمان؟
لو كنت مُستمراً في العلاقة معه لمَا حَدَثَ انقلاب؟!
كيف وأنت المُحرِّض الإنقلابي الشهير؟
تلك كانت محاولة (هايفة).. إذا شاركت فيها لما كانت كذلك..!!
أذن أنت إعتراضك على فنيات التنفيذ لا على المبدأ؟
(.....)
أنت يا أستاذ قانوني والقانونيون عادةً أقرب لمَفَاهيم الديمقراطية.. منْ أين جاءت إليك هذه النزعة الإنقلابية؟
كل الذين كانوا في جيلنا من نظام عبود إلى الآن كلهم كانوا إنقلابيين (هذا ما أعرفه عنهم شخصياً).. عبد الله خليل، محمّد أحمد محجوب وميرغني حمزة.
كيف لك في كلمات أن تُلخص ما خلصت إلى في تجربتك السِّياسية التي تَجاوزت النصف قرن؟
مَزيداً من الديمقراطية ومزيداً من إشراك الشعب في تسيير أموره وإلزام الحكام في حدودهم.. هذا هو المَخْرج.
الإنقلابات لم تعد هي المَخْرج؟
نعم.. الآن لم تعد هي المَخْرج، بل هي الأزمة..!!
هل تضرّرت الحركة الإسلامية من إنقلاب 30 يونيو؟
الترابي الآن في السجن وقرنق سيدخل القصر.
مَن بقي مِنَ الإنقلابيين في السِّياسة السوداني؟
كان الرشيد الطاهر بكر آخرهم..!
الترابي إنقلابي أم ديمقراطي؟!
كان إنقلابيّاً (ما في كلام)..!
هل يمكن أن يُفكِّر في إنقلاب تَصحيحي كما فعل عبد الخالق في 19 يوليو؟
لا أعتقد ذلك عندما تَمّ قبضه وسجنه لم يَحدث شئ.. (لماذا يعمل إنقلاباً ثانياً).
إذا خرج من السجن هل يمكن أن يضعف النظام؟
نعم سيأثر على قوة النظام.. الترابي حالياً إذا عرضت عليه القيادة الروحية للحركة الإسلامية سيَقْبَل بها..!!
من تجربتك.. ما هو الفرق بين نميري وعمر البشير؟!
نميري كان (فردياً) أكثر.. البشير (بشيل ويخت).. نميري لم يكن يفعل ذلك.. كان أكثر إعتزازاً بنفسه.
أستاذ أحمد هل صحيحٌ تاريخنا السياسي نُسخ مكرّرة؟
التاريخ يعيد نفسه لكن بصور جديدة.. عبر أساتذة وتلاميذ جُدد..!!