منصور شاشاتي
سمعنا في الأخبار أن قيادات الأحزاب المحسوبة على الجبهة المعارضة للنظام الحاكم في الخرطوم أجرت اتصالات مع واشنطن لأجل ان تضغط الولايات المتحدة على حكومة البشير أولا وحركة قرنق ثانيا حتى يتم القبول بمقترح تشكيل حكومة وحدة وطنية ، أو على الأقل ، زيادة حصة الأحزاب المعارضة من الحقائب والوظائف في قسمة الثروة والسلطة (. .)
وسمعنا أيضا أن هؤلاء وأولئك يتشاورون ويتفاوضون مع مراكز صنع القرار الأميركي والبريطاني والفرنسي ، لأجل تمويل مؤتمر للأحزاب والمنظمات والهيئات السودانية ، بما في ذلك الحزب الحاكم ، ينعقد في اسمرا وليس الخرطوم أوحتى عاصمة الجنوب ، للبحث في امكانية ايجاد حل لمشاكل السودان المستعصية . .
هكذا أحزاب ، وهكذا قيادات ، وهكذا تفكير..
وبعد ذلك يريدون منا أن نكون متفائلين تجاه مستقبل السودان . .
بهذا الخصوص تحضرني مقولة للراحل الكبير أبو القاسم حاج حمد ، خلال لقاء تلفزيوني مع احدى الفضائيات الخليجية.
سألة المذيع : كيف تنظرون لحاضر الأمة ؟
أجاب : إنه حاضر قاتم . .
ومستقبلها ؟
- أكثر قتامة ..
لماذا لا يجتمع هؤلاء القادة في الخرطوم أو عاصمة الجنوب ؟
لماذا يريدون أن يشاركوا بحقائب ويحصلوا على وظائف وحصة في قسمة الثروة والسلطة ؟
وقبل ذلك لماذا خرجوا اصلا من السودان ، وعارضوا ، وتسنموا المنابر ، وخاضوا المعارك الحربية أو حرضوا عليها . .
ألم يكن كل ذلك انطلاقا من مقولة أن هناك انقلابا عسكريا ، اطاح بسلطة شرعية منتخبة ، وفرض على البلاد والعباد حكما شموليا ظلاميا فاشيا إلخ تلك المقولات التي قرأناها وسمعناها على لسان القادة والزعماء ، الذين تعهدوا بتفكيك نظام الانقاذ من جذوره ، وتقديم المسئولين عن الانتهاكات والجرائم إلى القضاء . ..
الذي حدث بعد ذلك معروف . فمن تمكن من تفكيك الآخر هو نظام الانقاذ - الذي يبدو أن لعبة التفكيك هذه قد استهوته فذهب يفكك السودان كله - . .
الانقاذ هو الذي نجح إذن في تفكيك تحالف المعارضة ليذهب كل إلى حاله ، وواصل قرنق مشواره الأحادي ، بعد أن أوقعته هشاشة مواقف حلفائه في كماشة الضغوط الغربية .
لا ألوم قرنق . . أولا لأن الرجل ساعة تمرد قالها وهو يخاطب البشير: ( أنت المتمرد الأكبر وأنا المتمرد الأصغر ) أي أنت خرجت على شرعية أهلك في الشمال - والتي كانت بالنسبة لي اصلا ناقصة - وبالتالي لا ضير علي إن خرجت أنا عليك . .
وفي النهاية لم يكن قرنق مطالبا ولا مخولا بمناقشة ملف الديمقراطية والحريات في السودان ككل ، خارج ما هو متاح ضمن إطار حقوق الحنوبيين ، وما اسماه بالمناطق المهمشة والأقليات، أمام طوفان استعلائية ثقافية وعرقية أكلت الأخضر واليابس في السودان.
مسئولية هذا الملف أولا وأخيرا كان الأولى أن تقع على عاتق الأحزاب الشمالية (من يسارها إلى يمينها) التي تداولت الحكم في الخرطوم إماعنوة وإما انتخابا حتى انقلب على ديمقراطيتها الثالثة واحد من أهم أحزابها .. وكلنا يعرف أنه لو ذهب قرنق يتحدث عن ذلك لقالوا له هم ، قبل الأميركان والغرب: من خولك الحديث نيابة عن الآخرين. .
كان الأولى أن يتصدى لهذا الأمر السيد الصادق المهدي رئيس وزراء الحكومة الشرعية التي انقلب عليها صهره ، وللحقيقة أن الرجل - رغم تقصيره في حماية الديمقراطية - لم يتواني إطلاقا في العمل الجاد من أجل استعادتها ، بل تنازل - وتلك نقطة تحسب لصالحه - فى سبيل تحقيق أوسع تحالف ممكن ضد الديكتاتورية ، عن حقه الشرعي في تزعم القوى التي تحركت وما زالت تتحرك لأجل استعادة الديمقراطية والحريات.
الذي اردت قوله بالمختصر ( الذي قد يكون مفيدا أو لا يكون )، أن المهمة الرئيسية للأحزاب الشمالية الكبيرة والصغيرة على السواء ، ليست هي حماية ما توصلت اليه الحركة الشعبية مع حكومة الأمر الواقع في الخرطوم ، ذلك أن من فرضها قادر على حمايتها ، والأهم من ذلك أن لا علاقة لها بالقضية الرئيسية التي تتصدر أجندة جبهة المعارضة وهي اسقاط حكومة الأمر الواقع التي وصلت على اسنة الرماح وإقامة حكومة شرعية منتخبة من قبل الشعب السوداني وليست معينة من قبل واشنطن أو لندن . . إذا كانت القيادات الحزبية الشمالية تسعى لتحقيق هذا الهدف ستجد المساندة منا جميعا أما إذا كان كل ما يعنيها هو أن تحصل على حقائب وحصة من صحن الفول (على حد وصف الاستاذ ياسر عرمان ) فوقتها يكون الانقاذ والله (وهي ليست من الولاهات الأخيرة للبشير ) اكثر صدقية منها.
__________________________________________________