الفيدرالية بين استيعاب التنوع واضعاف الوحدةالقومية
(الجزء الأول)
"ان النظام الفيدرالى هو تحويل التنوع الى تناسق والمشاركة فى أفضل الممارسات. لقد ثبت أن الطريق الصحيح لمنع النزاعات التى تنشب بين الثقافات أو اللغات أو الديانات هو تبنى الحكم الفيدرالى. ان الحوار المؤسس فى الدولة الفيدرالية الديمقراطية يحل محل الحرب التى يستخدم فيها السلاح. وان انتشار النظام الفيدرالى مصحوبا بالديمقراطية يمكن أن يستخدم كأداة للسلام فى كثير من مناطق الصراع العظمى من العالم. كما أنه من ناحية أخرى يمثل سلاحا ضد ما يسمى "بطغيان الأغلبية"، ولكن مع ذلك يظل كل نزاع يتطلب حلوله الخاصة به حيث أنه من المستحيل غرس تجربة البناء الفيدرالى البلجيكى أو السويسرى أو أى دولة فيدرالية أخرى فى دولة أخرى". هذا بعض ما صرح به رئيس الوزراء البلجيكى السيد غى فيرهوفستات قبيل تنظيم بلاده بلجيكا للمؤتمر الدولى الثالث للفيدرالية الذى انعقد فى عاصمتها بروكسل فى الفترة من 3- 5 مارس 2005 بمبادرة من الحكومة الفيدرالية البلجيكية والسلطات الفيدرالية فى المجموعات المختلفة والاقاليم. وقد أتاح هذا المؤتمر منبرا فريدا لأكثر من 600 مشارك من صانعى القرار وممثلى منظمات المجتمع المدنى وأكادميين وصحفيين وشباب وغيرهم لتبادل الأفكار والخبرات حول السؤال المركزى عن كيفية اسهام الفيدرالية، فى أشكال تعبيرها المختلفة، فى الحكم الرشيد وتحقيق الرفاه الاجتماعى والاقتصادى والسلام والديمقراطية، كما هو الحال أيضا لاحترام الهوية فى اطار العولمة والعناية الخاصة لمنع النزاعات. واستعرض المؤتمرالجهود الخاصة التى بذلت فى اطار بناء الأمة أو اعادة البناء وللميول الفيدرالية فى التعاون الدولى أو الأنظمة التكاملية. ولادارة التنوع الثقافى كواحد من التحديات المركزية فى زماننا هذا. ولقد أصبح حماية الحرية الثقافية والتنوع قضية عالمية. نظمت بلجيكا هذا المنبر الهام بعد أن انعقد المؤتمر الدولى الأول للفيدرالية فى مدينة مونت ترمبيلانت بمقاطعة كويبك بكندا فى العام 1999 واستضافت مدينة سانت غلان بسويسرا المؤتمر الثانى وذلك فى العام 2002. وتزامن المؤتمر الثالث الذى شهدته مملكة بلجيكا الذكرى 175 لاستقلالها من مملكة هولندا فى العام 1830 والذكرى 25 لتطبيقها للنظام الفيدرالى. وبلجيكا، وهى تقيم هذا المحفل، ترمى الى الاسهام ولتقاسم الخبرات مع الدول ذات التجارب الفيدرالية المشابهة فى العالم. وبناء على موقعها فى ملتقى طرق ثقافات مختلفة فان لها تاريخا فى الحوار بين المجموعات المختلفة. وهذا الحوار أثمر نظاما فيدراليا فريدا يهدف الى حماية الهوية للمجموعات اللغوية الثلاث ذلك بمنحها درجة كبيرة من الحكم الذاتى السياسى والثقافى والاقتصادى. وأشار رئيس الوزراء البلجيكى الى أن السعى الدائم للموازنات الصائبة بين الوحدة والتنوع قد أحدث تغييرات أساسية فى هياكل الحكم فى بلجيكا. وقال ان اعادة التنظيم المؤسسى يسمح بالمراجعة والموازنة وهيكل البناء الاستشارى، وهو بالطبع لا يمنع التوترات ولكن فى مجمله أثبت هذا النظام جدواه.
لقد شاركت شخصيات سياسية دولية تتبنى دولها النظام الفيدرالى فى هذا المؤتمر. فبجانب المسؤولين فى الدولة المضيفة من رئيس الوزراء البلجيكى ورؤساء وممثلى الاقاليم الادارية والمجموعات المختلفة فى حضور ملك بلجيكا خاطب مستشار النمسا ورئيس نيجيريا الرئيس أوباسانجو والنائب الأول لرئيس الجمهورية الاستاذ على عثمان محمد طه وفى معيته وفد رفيع من الدستوريين والخبراء وقائد الحركة الشعبية العقيد جون قرنق ورئيس جمهورية مونتينغرو ورئيس حكومة مقاطعة كويبك بكندا ومسؤولين من ايطاليا والمانيا واسبانيا والبرازيل وأثيوبيا ومن مؤسسات الاتحاد الاوربى وآخرين كثر. وفى كلمته فى استهلال أعمال المؤتمر قال رئيس الوزراء البلجيكى ان النموذج البلجيكى هو مثال لما يسمى بالفيدرالية اللامركزية التى تنقل السلطات من المستوى الفيدرالى الى مستوى الاقاليم وأشار كذلك الى وجود شكل معكوس من الفيدرالية المتعلق بالاقاليم والامم التى تنقل جزءا من سلطاتها الى وحدة فيدرالية أكبر وأشار فى ذلك الى نموذج تقليدى المتمثل فى تأسيس الولايات المتحدة الأمريكية فى فلاديلفيا فى العام 1787 عندما ابتدع كل من جيمس ماديسون وجورج واشنطون كونفودرالية مرنة بين الولايات المختلفة ثم تحول ذلك الى اتحاد حقيقى. كما أشار لتجربة كل من ألمانيا وايطاليا اللتان تشكلتا بنفس الطريقة فى القرن التاسع عشر. واستعرض تاريخ قيام الاتحاد الأوربى كنموذج فريد فى القرن العشرين والذى بدأ قبل خمسين عاما كشكل من أشكال التعاون الاقتصادى المرن بين ست دول فى التعامل بالفحم والصلب عبر سوق داخلى ثم تطور الى مجموعة لها عملة واحدة ونظام نقدى مركزى ثم تطور التعاون حتى بلغ أن الاتحاد أصبحت له سياسة خارجية موحدة عبر سياسة دفاعية مشتركة وقريبا سيصبح للاتحاد وزير خارجية واحد، كما تتطلع الدول الأعضاء البالغ عددها 25 دولة فى الاتحاد الأوربى الى المصادقة على الدستور الأوربى الموحد. ووصف رئيس الوزراء البلجيكى بناء الدولة الفيدرالية بأنه عبارة عن عملية بطيئة تقتضيها الرغبة فى التسوية على كل الأطراف.
وكلمته التى نشرها فى مجلة "الفيدراليات" فى عددها الثالث بتاريخ مارس 2005 استعرض السيد راؤول بلندرباخر نائب رئيس منبر الفيدرالية بعض نتائج المؤتمر الثانى بسويسرا فى عام 2002، حيث أشار الى أن أحد البحوث حول المؤتمر وجد أن أى فرد أو مجموعة فى النظام الفيدرالى يتمتع بأكثر من هوية واحدة وهذه الهويات تقريبا تتكرر دائما، ويمكن أن تمتد هذه الهويات الى أقصى درجة من الاحساس بجنسيات مختلفة. وأمة واحدة يمكن أن تتكون من عدة جنسيات مثلما هو الحال فى الهند وبلجيكا وسويسرا وكندا التى تشكل أمثلة حية لهويات قومية متعددة. والمؤتمر الثانى ناقش الفيدرالية والعلاقات الخارجية، اللامركزية وادارة النزاع فى مجتمعات متعددة الثقافات، وتولى المسؤوليات فى ظل نظام ضرائبى فيدرالى. كما توصل البحث الى أن الكلمات التى طرحت فى مؤتمر سويسرا والبلغ عددها 300 بيان يمكن ايراد موضوعاتها تحت أربعة قضايا هى: الهوية، والتى أشرنا اليها سابقا بأن كل فرد أو مجموعة يمكن أن تتمتع بأكثر من هوية.. وأما المسؤولية فتشير الى أن الذى يدفع هو الذى يتخذ القرار (whoever pays, decides) وهو ما أجمع عليه المتحدثون فى الحوار بأن كل مستوى من مستويات الحكم المختلفة مسؤول عن تقديم خدمات معينة يجب أن يتمتع بالمقدرة على تنمية الضرائب لمقابلة هذه الخدمات .. المصالح المتبادلة تتحقق بوجوب أن تكون عملية تطوير الترابط الدستورى مضمنة لتعزيز هوية مشتركة تمكن من تعزيز بناء الأمة. فكلما زاد عدد الاشخاص المشاركين فى المشاورات والنقاش فان ذلك يقود الى قوانين جديدة. وكلما كانوا أكثر الماما فانهم يكونون أكثر حماسا لانفاذ هذه القوانين، وهذا ينطبق على الوحدات شبه القومية فى عملية صناعة القرار الفيدرالى .. والبراغماتية والتى تتضح فى عملية اللامركزية حيث تبرز أشكال ادارية وبيروقراطيات موازية فى المركز وفى الأقاليم وعلى المستويات المحلية تقود عادة الى نظام أكثر تعقيدا يصعب فيه استبانة مسؤوليات محددة. وهذا هو الثمن الذى يجب أن تدفعه بعض الدول ذات الأنظمة الفيدرالية لكى تتمكن من العيش موحدة.
(سنواصل فى مقال لاحق بعض التجارب التى طرحت على المؤتمر الأخير)