فلو تأملت صورة فوتوغرافية من زمان مضى توثق لك مرحلة مبكرة من حياتك فإنك ستكتشف حتما أن هناك فرقا بيّنا في اللباس وربما الوقفة او تسريحة الشعر أو الورق الذي طبعت عليه الصورة ذاتها .. لكنك لو تأملت الصورة بتجرد دون أن تحاول إسترجاع تلك اللحظة ستكتشف أن الصورة تعبر بصورة أو أخرى عن لحظة خاصة لن يحسها شخص غيرك .. ولو نظر إليها أطفالك فإنهم سرعان ماسيستجيبون لدعوة الضحك دونما مواربة أو إستحياء أو كابح .
ثم دعونا نتأمل صورة أخرى ، لفريق رياضي من زمان مضى .. فرغم تقديرك للمرحلة التي سادوا فيها .. وصولات هذا الفريق وجولاته ومستوى المهارات والمقدرات التي كانت فيه وما حققه من بطولات ومراكز فإنك ستحس برائحة الماضي البعيد تتسلل اليك عبقا .. وستدرك من أول وهلة أن ما مضى لن يعود .. وستحس كذلك أن هؤلاء جميعا جزء من الماضي وربما تحس بأنهم ليسوا من عالم اليوم .. ولو قابلت أحدا من هؤلاء القدامى فإنك ستعاملة وكأنه مجرد إرث من الماضي وقد يعني بالنسبة لك مجرد (( ديناصور )) مازال حيا وبالتالى فإنك ستستمع الى آرائة باعتبارها حكايات وليست معايشات وكأنه قد فارق دنيانا فكريا وما تبقى منه مجرد ذكرى سريعة الذوبان تقتات منها الأيام .
بفعل هذا الفهم المتجرد وهذا المنظور الإستباقي المتخلف الذي نفسر به المواقف فإن المعرفة وتراكماتها لن تجد طريقها للأفهام ولن يثق الناس في قدرات سابقيهم وسيزدري الشباب مقالة السابقين ولن يسمع الناس لحديث المجرب .. وبالتالي حينما يرى الكبار تجاهل الصغار فلن يعيروهم إنتباها وقد يبخلوا بالنصيحة .. وهكذا تنفصل الروابط وتتقطع عرى الصلات .. وتنمحى من كل القواميس عبارة الخبرة وستتوارى التراكمات بحسنها وقبحها ولن يتعلم الناس من أخطائهم .. وسيجرب الخطأ كل الناس .. في وقت كان من الممكن أن يتعظ فيه العاقل بخطأ غيره .
أسوق هـــذه المقدمـــة التي أرسم بها مسرحا واسعا لما يدور في رياضتنا التي لا تنتهى مشكلاتها والتي أضحت مستعصية على الجميع .. والغريب أن لغة جديدة قد أصبحت الآن قيد التداول في الساحة الرياضية فقد كنا منذ فترة طويلة نسمع حديثا حول الجوانب النفسية لللاعبين أو ما يعرف باللياقة النفسية والروح المعنوية وهذا الجانب ندرك أهميته للحد البعيد .
لكن الجديد في الأمر أن الحديث في هذه الأيام يدور حول ضرورة عرض اللاعبين السودانيين الى أطباء نفسانيين لإستجلاء حقيقة مايعتريهم في الثلث الأخير من المباريات بعد أن يكون أدائهم جيدا فيما قبل ذلك .. وكأن الناس في بلادنا قد أدركوا أخيرا ضرورة الطبيب النفسي في الحياة والذي كان بالأمس القريب ينظر اليه وكأنه تخصص ترفيهي في المجال الطبي ..
لكن هذه اللهجة الجديدة التصالحية مع الطب النفسي تعنى أن مفهوما من المفاهيم التي كانت تشكل عقبة أمام التطور قد تم كسرها وتبقت عقبات أخرى تحتاج الى مدافعة كبيرة لدفعها عن الطريق .. ولو لو تركنا أمر زوالها للزمن فإن إنتظارنا سيطول ووقتها سنكون حيث نحن .. وسنظل ندور حول مرابطنا والناس حولنا قد رحلوا .
نعلم أن العالم المتحضر قد مارس هذا الإسلوب في معالجة الأفراد منذ المراحل المبكرة من أعمارهم عبر المدارس والأندية والتجمعات المختلفة في كل المراحل العلمية وبالتالي فإن الأندية عندهم تستلزم وجود هذا النوع من الرعاية الطبية .
ولو تتبعنا أمر هذا المفهوم الجديد الذي بدأ يتسرب الى الأدمغة العربية سنجد أن السبب فيه وحسب ظني ومعرفتي المتواضعة هو أن نادي الجزيرة الإماراتي قد إستعان بهذا الحقل من الطب جنبا الى جنب مع الجوانب الأخرى في مسيرة النادي وهو الآن يحقق تفوقا كبيرا في ساحة التناقس الأخضر ..
وبما أن هذا الإتجاه يعتبر جديدا على المنطقة فإنه أصبح الشغل الشاغل لأجهــزة الإعلام المحلية والخليجية التي تعاني في الأصل من ترهل إعلامي كبير .. وبذلك إمتلأ الفضاء العربي المترامي بـــهذه النغمة الجديدة وبدأ الناس في إعتناق وعناق الفكرة التي كانت بالأمس القريب في طيات المحال .
وهــــذا في الحقيقـــة تستحضرني التحـــــــولات الكبيرة في حياتنا ففي أمسنا القريب كان العقيـــــد (( جون قرن )) مصنفا في خانة الأعداء والمتمردين والإنبرياليين وهاهو اليوم قد أصبح أقرب الأقربين وهاهي الخرطوم والمتمة و التي إستعصمت عليه يوما تفتح ذراعيها له ترحيبا .. و الرجل متشوق لشرب القهوة فيهما .. وكأن العالم كله بين رحى الأفكار المتباينة .
بذات القدر نستطيع إستيعاب التحول الكبير الذي طرأ في ساحة المقاومة الفلسطينية الإسرائيلية وكيف أنها تحولت من مكامن النقيضين الى ساحات الهدوء والمقاومة الخجولة المنكسرة .. بينما لا نزال نحن ملكيين أكثر من أصحاب القضية ذاتها وهذه هي المفارقة الجديدة ... التي تشبه مفارقة الطريفي لجمله .. ( أرجو أن لا يتسرب الى طنكم أنني أدعو الى التطبيع ) .
والتحول الآخر كان قبل ذلك حينما تحول المناضل المحبوس من لا يعرف العبوس .. صاحب القبضة الشهيرة ( نليسون مانديلا ) تحول رئيسا للبلاد التي إستُعبد فيها وتحول بعد نضال طويل الى قائد قضى كل أيام حياته بين القضبان غضبانا ليعود سمحا لطيفا دون حقد أو غل ثم ينزوى عن ناظرينا بذات الهدوء والسكينة وكأنه غاندي هذا الزمان .
بنظرة عابرة للمنتخب الليبي يمكننا أن نرى وأن نتحسس كيف تحول هذا المنتخب الذي كان متواريا عن الأضواء الى فريق شرس مرق أنف الكرة المصرية في التراب في ثلاثة لقاءات متتالية ( عدا اللقاء الأخير ) .. ولو بحثا عن السبب سيكون سايكلوجيا وهو وجود الساعدي القذافي نجل الزعيم الليبي بين صفوفة .. يستمدون منه القوة ويمدهم بالعتاد والدعم اللازم .
أما نحن فكيف لنا أن نجعل اللاعب السوداني يتخلص من مساويه العديدة التي أصبحت تشكل مفاهيم وقناعات يصعب الفكاك منها .. كيف نجعل لاعبنا يدرك أن السهر مقبرة الموهبين ؟؟ فاللاعب عندنا يسهر في المستويين الأفقي والرأسي .. أفقيا يجوب أرجاء العاصمة المثلثة بحثا عن محفل يراه الناس فيه .. حفلة ساهرة .. قعدة سافرة .. جلسة عامرة .. شربة خامرة .. أو بخة سادرة .. وهكذا دواليك .
أما السهر الراسي فهو الإمتداد والتمدد عبر الزمان حتى الساعات الأولى من فجر اليوم التالي بغرض إشبعاع رغبته في أن يراه الناس حيث يتلذذ بأصابع البسطاء الذين يزفونه وهم يشيرون اليه بالبنان ... أما (( الجكس )) فحدث ولا حرج .. حيث تجده يترنح بينهن وكأنه يقول للعائنين والفضوليين :- أنا هارون الرشيد في هذا الزمان ... أما ثالثة الأثافي وطامة القضايا فهي ذلك المرض العضال وتلك الصحبة الغير آمنة لتلك المجموعات من الجيل (( الأمــرد )) الذين يدورن حول النجم وهو يدور حولهم وكأنهم أفلاك ونجوم وكواكب .. ثم ما خفي أعظم .
أما المخامرة والمغامرة والمقامرة فمعظم لاعبينا ممن يعاقرونها إلا قلة أو ثلة إستعصمت بالبعد عنها .. وحتى هؤلاء إن لم يقعوا فيها فغيرها من المهالك تأثرهم .. حيث نجد بعضهم وقد إرتاد مكامن التشيش والحشيش نهارا جهارا وكأنها الق من النجومية أو مظهر من مظاهر التباهي ... أما التمباك والتدخين الأبيض فقد دخلا عالم الإعتياد بحيث أصبح اللاعب أمام مدربيه (( يمط )) شفته العليا بيده اليسرى ليوسد تحتها لغما من العماري ثم يربت على موضع شـــواربه بيده ليسويها .. أما التدخين فقد دخل مع التمباك الى دائرة الإعتياد ... بينما أصبح العرق المتصبب من أجسامهم لونا من العرق البلدي المتقطر بحنكة المصبات البلدية ..
إضافة الى أن اللاعب عندنا تجده يستهلك طاقاته ووقته رغم مغالبات السهر والممارسات الأخرى بمشاركات لا منتهية فعصرا يشارك بتمارين الحي بملابس ناديه تماديا في الظهور والإحتشاد ومساءا تجده في ناديه واهنا بسبب الإجهاد بينما تجده مشاركا في منتخبات الشرطة ووحدات الجيش والمؤسسات الحكومية وملبيا للتمارين وغير ذلك .. وكل ذلك بغذاء لا يقاوم حتى الملاريا القابعة في تلابيب حسده المتهالك ..
أما زيارة ( الأناطين ) وكمية البخرات التي يدسونها دسا في أحشاء ملابسهم فذلك شأن يدعو للرثاء والشفقة وربما سنحتاج الى تغيير أجيال لتغيير ذلك .. ولتواضع الثقافة الأكاديمية دور كبير في ذلك .. حتى الذين حباهم الله بقدر من التعليم الثانوي فإن بعضهم كان يتخذ المدرسة مكانا للتباهي وتناول الفطور أو للمشاركات من خلال الدورات المدرسية وهذا ينسحب حتى للذين ينتسبون للجامعات اليوم خاصة الجامعات التي تشبه أكشاك الصحف والمجلات والتي أصبحت حرماتها معارض متنقلة للأزياء والتباهي وحكايات الغرام .
صيح أن من بين هؤلاء لاعبين غير ذلك .. صحيح أن التعميم منطق غير مقبول .. لكن السواد الأعظم منهم كذلك .. لذلك كيف لنا في وسط كهذا أن نحلم ببطولات وصولات وجولات ؟؟؟ صحيح أننا أحرزنا يوما كأس أفريقيا ولكن متى كان ذلك ؟؟ لقد حدث ذلك حينما كانت أفريقيا تغط في نوم عميق ولكنها أفاقت لننوم نحن نومة أهل الكهف ..
في ظل ظروف كهذه أعتقد أن الحديث عن بطولات سيصبح مجرد أضغاث أحلام وإستهلاك للكلام .. إذ أن هناك غرف مغلقة كثيرة لم ترى النور بعد .. ومازالت في غياهب الظلام تنتظر إضاءات ومعالجات جادة نفسية وغير ذلك حتى نتبصر طريقنا وندرك أسباب وجودنا في القاع .. وفقط علينا أن نتعلق بأهداب الأمل حالمين طالما أن الأحلام لا يكلف إلا إمعان النظر وإرسال الفكر المتفائل في آفاق الزمان .
---------------------------
ملء السنابل تنحني بتواضع ........ والفارغات رؤوسهن شوامخ
---------------------------
كلمات متقاطعة :-
• صحيفة ( المشاهير ) الألكترونية إكتست حلة زاهيـــة من البهاء وهي تلبث ثوبها الجديد وترتقي شكلا وموضوعا وتحــاول أن تقــــدم رسالة إعلامية راقيــة قوامها الموضوعية والواقعية .. تحترم الكلمة وأمانة القلم وهي تنافح في بلد كبلته صحافة الأوهام .
• الإذاعة السودانية تطلق موقعها الجديد على العنوان ( http://www.sudanradio.info/arabic/modules/news/ ) بجهد مقدر من المهندس الشاب / حسن مصطفى ومتابعة لصيقة من الأستاذ الفاضل / معتصم فضل اللذان يكابدان الظروف ليضعا الإذاعة في مصاف الريادة والتقدم .
• شابان رائعان يتواصلان معي من السودان بحرف ندي نقي هما ( عبد الله محمد عثمان - ياسر محمد ابراهيم ) .. أجد بين طيات رسائلهما الق جميل ومقدرة فائقة في تلمس القضايا الحساسة .. التحيــــة لهما وهما يثبتان أن النيل مازال يجري في صحراء بلادي خيرا وبركة .
صـــلاح محـــمد عبـــــــدالدائم
( شكوكو )
[email protected]